صحيفة المثقف

قصة قصيرة / زيارة الزعيم ..

- يُمه اكعدوا .. اليوم يبين من أوله خير .. الديوجة شافت الملائكة وكامت تصيح .

كانت ستينيات القرن الماضي تمضي بتثاقل على البلاد ، فحكومة الضباط الأحرار أخذت تنهشها الفرقة وبات كل واحد منهم تتقاذفه الأطماع وبقي الزعيم عبد الكريم وحده يصارع ما تتعرض له الثورة التي أقسم الكثير منهم على حمايتها والعمل من أجل سعادة الشعب ، لكن طائفة منهم انشقت عن مبادئها وتنكرت لذلك القسم يقودهم العقيد عبد السلام محمد عارف وهو من الضباط الأحرار شارك الزعيم الركن عبد الكريم قاسم بالثورة على الملكية في العراق عام 1958 ثم ما لبث أن إنقلب عليه مما وضع البلاد على كف عفريت ، لكنه فشل في بداية الأمر .

الزعيم عبد الكريم وبعد أن تخلص من عبد السلام ومن معه ووضعهم في السجن مضى هو ورهط من معاونيه ووزراء مشهود لهم بالوطنية والنزاهة يديرون دفة البلاد بمهنية عالية لم تعجب الكثير من المناؤين لهم ما أكسبهم شعبية كبيرة وإعجابا من قبل الطبقات المسحوقة التي وجدت فيهم خلاصها مما وقع عليهم من جور الماضي ، الزعيم عبد الكريم حظي منهم بإعجاب قل نظيره وكثيرا ما كان الشعب يهتف له:

- ماكو زعيم إلا كريم ..

وكبقية مدن ومحلات العراق كانت محلتنا " الطوبجي " تكن ودا خاصا له بسبب أن غالبية من سكنها كان الفضل يعود إليه بتوزيعه الدور التابعة لها عليهم فكانوا يترقبون زيارته في كل لحظة فراحوا يزينون بيوتهم ومحلاتهم والسوق الوحيد فيها بصوره الكبيرة الملونة ، لكن أحد أفران الصمون الحجري تميز عن كل تلك المحال برفعه صورا كبيرة جدا للزعيم حتى صار ذلك الفرن حديث المجالس في ذلك الحي .

الفرن لايبعد عن مقهى " المُلا " سوى خطوات قليلة والجالسون في المقهى صباحا أغلبهم من المتقاعدين الذين أمضوا سنوات طويلة في خدمة الدولة ، لكنهم وبعد هذه الرحلة الطويلة واجهوا عبئا آخرا هو الإقامة الجبرية في منازلهم والتي حاولوا كسر قيودها الثقيلة بجلوسهم في المقاهي وممارسة هواياتهم المفضلة في لعب الدومينو والنرد وحتى ورق القمار ممن كان متعودا على الميسر ، وتدخين السكائر والأركيلة براحة تامة بعيدا عن المنغصات التي يواجهونها في بيوتهم ، ومع أنهم لايودون الدخول في منازعات كلامية كالتي يقرأونها يوميا في الصحف ، إلا أحاديث الساعة التي يمكن لها أن تفتح شهيتهم للكلام ، فزيارات الزعيم هي أحدى تلك الأحاديث التي يمكن أن تشكل محور نقاشاتهم:

- أبو أحمد تعرف البارحة المغرب بجيخانة سبع سمعت كلام دوخني؟

أبا أحمد هذا هو والدي تقاعد في الستين من عمره وربما أكثر بعدة سنوات وله شلة قليلة العدد أغلبهم من محبي تربية الطيور ولهم منها في بيوتهم أعدادا كبيرة من مختلف الأنواع وقد خمن أن صديقه أبا قسمة جاء بحديث عنها:

- شنو هالكلام أبو قسمة؟

- يكول واحد شفت صورة الزعيم عبد الكريم بالقمر !

- شلون؟

- مثل ما داكولك .. والعجيب اللي كال هالكلام مصر على طلعته اليوم همين !

- شنو اخونا فتاح فال؟

- هذا اللي سمعته يا أبو أحمد .

- زين أبو قسمة هذا اللي كال هالحجي أحد يعرفه؟

- لا والله .. حتى مشايفي سابقا !

ضحك أبا أحمد ضحكة سمعها من كان يجلس بالقرب منه مرددا:

- كلشي وارد بهدنيا .. ليش بباب الشيخ مو شافوا عوج ابن عنق؟

تغيرت ملامح أبا قسمة عند سماعه بهذا الإسم وقال:

- يمعود أبو أحمد تره كلشي ينشاف إلا الجن؟

-عيني أبو قسمة .. وداعتك شافوا ونطو حتى أوصافة .. ضعيف كلش وطويل .. إيمد ديدة على أعلى نخلة إينوش تمرها ..

- إي هذا بذاك الوكت بس اليوم ما كو هذا الكلام؟

- كلشي ايصير أبو قسمة ..

في خضم هذا الكلام التفت أحد الجالسين الذين كانوا بالقرب من أبي أحمد وأبا قسمة وهو معلم متقاعد وقبل أن يبادر بالكلام أخذه سعال خفيف سرعان ما زاد مما لفت اليه نظر الملا فسارع بقدح من الماء وبعد أن تناول منه جرعة شكره قائلا:

- رحمة على والديك ملا ..

شرب المعلم المتقاعد الماء فهدأت أنفاسه ونظر إلى الصديقين الهرمين متحدثا بصوت خافت:

- إنظروا يا جماعة .. تره هذا الكلام ورا مصيبة !

- شدكول استاذ؟؟

- مثل ما أقول .. لقد سمعت هذا الكلام من قبل .. تعرفون منو وراه؟

- لا؟ !

- القوميون ...

دهش المتقاعدان وقالا سوية:

- إشلون؟ !

- مثل الذي قلته .. هذولة يبثون مثل هذه التقولات كي يجعلوا من المعني أفاق ودجال فينصرف عنه من يحبه .. كلامي صحيح لو غير مفهوم؟

- والله استاذ ولو إحنه منفتهم بالسياسة لكن كلشي وارد بيها ..

لا .. الأمر واضح .. ذولة جماعة عبد السلام عارف ديحاولون يصطادون بالماء العكر وتساعدهم جماعات حزبية أخرى ..

وقبل أن ينهي المعلم المتقاعد كلامه أخذته مرة أخرى نوبة من السعال صاح أبا قسمة على أثرها:

- ملا .. يمعود ملا إلحكنه بكلاص ماي للأستاذ ..

هنا كان الملا يقف خارج المقهى بعد أن سمع أصواتا بدت تتعالى من الخارج فرفع يده فوق عينيه ليرى جموعا من البشر تهرول باتجاه سيارة غريبة دخلت المحلة ، التفت الملا بعد أن سمع صوت أبا قسمة مرة ثانية فصاح به وهو المعروف بعصبيته:

- مدكلي اشبيك أبو قسمة .. تعال شوف الدنيا انكلبت بره .. وما أدري شكو؟

- يمعود ملا شكو .. هسه دجيب ماي وبعدين إنشوف شكو؟

رد أبا أحمد بتثاقل:

- يجوز هذا السايق دعمله واحد؟

فجأة دخل أحد الصبية لاهثا إلى المقهى يريد أن يشرب ماءا فصاح به الملا:

- لك هاي شكو بره خوما دعم هذا السايق أحد؟

- لا عمو .. يكولون بالسيارة الزعيم .. من عمو هذا ..؟؟

هنا صاح به الملا بصوت عال:

- شنو .. سيادة الزعيم؟ .. يمعودين تعالوا شوفوا هذا الزعطوط إشكال؟

من كراسيهم وتخوت المقهى انطلقت الأصوات وعمت شبه هستيريا بالحاضرين ثم ما لبثوا أن تدافعوا خارجها بينما لاذ آخرون بصمت كصمت أهل الكهف ، لكنهم سرعان ما قاموا بعد أن وصلت آذانهم أصوات قوية وهي تهزج:

- ماكو زعيم إلا كريم ...

أيقن الجميع أن زعيم البلاد هنا في محلتهم وشاهدوه يحيهم من داخل سيارته التي انطلقت بإتجاه الفرن بعد أن أشارت الجماهير إليه ، فتوقفت أمامه وترجل الزعيم منها وسط هتافات المحتشدين ، هنا سارع صاحب الفرن بالخروج إليه وهو يلوح بيده ويهتف بينما تجمع عماله أمام الفرن وهم يصفقون للزعيم الذي كان مأخوذا بصوره المعلقة والكبيرة على حائطه ، أفسح الفران بعد ذلك مجالا لدخول الزعيم إليه بعد أن علم برغبته مشاهدة العجين فناوله قطعة موزنة منه فوضعها الزعيم في بطن يده وراح يهزها قائلا:

- إبني وزن عجينة الصمون هذا مضبوط؟

قال صاحب الفرن وقد تغيرت ملامح وجهه:

- نعم سيدي .. العجين كله موزون .

- بس إبني هاي الشنكة إصغيرة؟

والتفت الزعيم ونظر الى صوره المعلقة ضاحكا:

- صغّر الصورة إبني وكبر الشنكة ..

فتعالت أصوات الجماهير بالهتاف والتهليل بينما ودعهم الزعيم برفع يده ودلف الى داخل سيارته التي انطلقت به مسرعة ويده وابتسامته لم تغادراه حتى غاب عن أعينهم .

عاد أبا أحمد إلى داره فاستقبلته زوجته التي كانت يداها ملطختان بالعجين وضحك ضحكة قوية قائلا:

- تعرفين أم احمد إليوم العجين إسوّه؟

ردت الحاجة أم أحمد باستغراب:

- لا عيني أبو أحمد .. شبي العجين؟

- إنتي متدرين هسه قبل شوية الزعيم عبد الكريم كان موجود بالطوبجي .

- إي سمعت والله وافرحت ..

- لعد منا وغاد رح ناكل صمون أكبر من هذا النشتريه حاليا ..

راح أبا أحمد يقص على زوجته زيارة الزعيم وقصته مع عجينة الصمون فرفعت أم أحمد يداها إلى السماء قائلة:

- إلهي وانته جاهي إحفظنهّ النعمة وزيدها ..

- والزعيم .. نسيتيه؟

 

أحمد فاضل 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2052 الاربعاء 07 / 03 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم