صحيفة المثقف

المالكي (نوري) والمالكي (جواد) بين القصد وبيت القصيد .. - ذكريات من بيت الصحافة (5)

قرأت تلك القطعة بنظرة أخرى، لذا ناديت من باب الحضرة وانا أرفع كفّي بالدعاء : ياأمير المؤمنين، اذا كنت أنت تخاطب ربكّ بالقول (ربي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، إنما وجدتك اهلاً للعبادة فعبدتك)، وإقتداء بقولك، أقول : مازرتك لأني عبدك ولا إبناً لأمتك، بل أنا حرّ يسعى الى رمز الأحرار، فلا خير  في محبة العبيد .

غضب أخوتي، وأستعاذوا بالله من قولي، فالعبودية لأهل البيت (ع) واجب شرعي كما يرون، لكني تمسكت برأيي إن محبة الأحرار للإحرار هي الأكثر قوة وثباتاً .

في بغداد التي عدنا اليها في الواحدة ليلاً بعد أن تهنا في دروب قادتنا نحو هور رجب مروراً باللطيفية واليوسفية، وكان ستر الله، قد القى بأمنه علينا، او أن منيتنا لم تحنّ بعد.

 في اليوم التالي إتصلت بالأستاذ (جواد المالكي) الذي ردّ على الهاتف بنفسه، كانت الحادية عشرة  صباحاً، فحدد موعد اللقاء في الواحدة ظهرا، ساعتان فقط بين الاتصال والموعد .

 وصلت الى المقر العام لحزب الدعوة في مطار المثنى، قبل مايقرب من نصف ساعة، دخلت الى صالة الاستقبال الداخلية التي تبعد عن الاستعلامات الخارجية مسافة تقارب المئة متر، وكان وقت الصلاة فدخلت مع الداخلين، وتركت الرجل يبحث عني في الإستعلامات الخارجية وهم يؤكدون له دخولي المقر.

ساعة ونصف قضيناها في حديث ودي وعلى إنفراد ،  طرقنا فيه قضايا كثيرة، بعضها للنشر وبعضها تحفظ على نشره، فرميت الورقة من يدي وقلت تحدث أبا،إسراء – خذ راحتك - فقال مبتسماً: الا تفعل كما فعلت مندوبة الحياة (سؤدد الصالحي) التي قولتني ما لم أقل ؟

 كان شديد الغضب من قضايا ثلاث وضعها خارج دائرة النشر :  فجاجة التدخل الأمريكي في شأن الحكومة العراقية – كانت يومها حكومة الجعفري – وإعتبارالأكراد هم الحليف الوحيد لهم في العراق ، وعن مقدار الدعم السوري للإرهاب القادم نحو العراق، يومها قال : تلك هي القضية الأخطرالتي تواجه ديمقراطيتنا الوليدة ، ثم استطرد : يرى  بعض الأخوة ان نعالج الشّر بشّر من حجمه ، سيارة مفخخة  هنا بمثلها هناك، وعبوة بعبوة، لكننا نفضل الإنتظار لعلّ السوريون  يغيرون مسلكهم .

نقحت المقالة وجهزتها للنشر في أحدى الصحف اللبنانية – من دون القضايا الثلاث المذكورة – لكن بعض الصحف – النهار والسفير – لم تكن متحمسة للنشر لعدم اهمية شخص مثل جواد المالكي الذي كان مجرد عضو في الجمعية العمومية،ولم يكن أحد يتصور انه سيصبح رئيساً للوزراء، اذ لم يطرح هذا الإحتمال طوال المقابلة  ولو تلميحاً .

 لقد كانت تلك الصحف تبحث عن مقابلات مع شخصيات معروفة من مثل : مقتدى الصدر – ابراهيم الجعفري – بيان جبر – عبد العزيز الحكيم – حارث الضاري  --- الخ .

واخيراً وافقت جريدة (صدى البلد) البيروتية على نشر المقابلة التي كانت مقدمتها كالآتي  :

مقابلة مع السيد جواد المالكي عضو الجمعية العمومية العراقية

وعضو المكتب السياسي لحزب الدعوة في العراق

كثيرة ومتشعبة هل المشاكل التي يواجهها الشعب العراقي وقواه السياسية، فما خلفه نظام " صدام "، كان عبئاً ثقيلاً ينوء بحمله سبعة وعشرون مليوناً من العراقيين عاشوا حروباً ودماراً منظماُ ومتواصلاً على إمتداد عقود طويلة كانت كفيلة بوضع العراق في مصاف الدول المتقدمة نظراً لما يمتلكه من ثروات وإمكانيات أهدرت إرضاء لطموحات ونوازع حاكم  مستبد، ولم يتخلص العراق من الطاغية، الإ بعملية إستئصالية مؤلمة مازال العراقيون يدفعون أثمانهم من أمنهم وأرواح ابنائهم، فكيف تنظر القوى السياسية في العراق الى الوضع الحالي ؟ وماهو تقييمها لطبيعة المرحلة ؟ وماذا تحمل للمستقبل  ؟ هذه الأسئلة وغيرها هي  ماطرحناه على عضو الجمعية الوطنية العراقية، وعضو المكتب السياسي لحزب الدعوة الإسلامية في العراق الأستاذ جواد المالكي :

1 : بات معروفاُ في رؤية أمريكا لنشرالديمقراطية، انها لا تحبذ وصول الإسلاميين الى السلطة، فكيف تجاوزتم هذه المسألة ؟ وماهي طبيعة التعامل الأمريكي معكم بعد فوزكم بالحصة الكبرى في الإنتخابات ووصولكم الى السلطة ؟  (لم أستطع الحصول على نص المقابلة  كاملة من ارشيفي الخاص، بعد ان دفنت مع الحاسبة،  في ركام  بيتي الذي كان  من ضمن ضحايا القصف الاسرائيلي على الضاحية الجنوبية لبيروت في تموز 2006).

 

ترى ماذا ستقول تلك الصحف لو كانت تعلم ان ذلك  الشخص غير المهم آنذاك، سيصبح بعد زمن قصير،  الشخصية الأشهر والأكثر اثارة للجدل في العراق، بعد أن تسلم رئاسة الوزراء تحت إسم (نوري المالكي)، الذي تحول من مجرد قصد  الى بيت القصيد، بعد خوضه سلسلة من  المعارك الداخلية كان من أخطرها ماسوف يطلق عليها (صولة الفرسان) التي سجلت أولى نتائجها في أنها حولت قوة كبرى تسمى جيش المهدي، الى " نهاية رجل شجاع" .

ربما سيواجه مؤرخو هذه الفترة، إشكالية منهجية وأخلاقية معا، في كيفية الكتابة عن جيش المهدي  وما مثله من حالة استثنائية ولدت وانتشرت  في ظروف استثنائية وانحسرت  كذلك نتيجة ظروف استثنائية .

ذلك  مايذكر  برواية حنا مينا (نهاية رجل شجاع)، حيث يبدأ البطل حياته من الأحياء الشعبية عاملا بسيطا، ثم ثائرا ضد الاحتلال وسجينا، ثم متصديا للظلم والترهيب  الذي يمارسه  شيخ الميناء بحق العمال .

كان في كل ذلك شهما شجاعا، لكن مسيرته انتابتها عثرات وانتكاسات، لينتهي من ثم وحيدا عاجزا .

جيش المهدي، وهو الذراع العسكري للتيار الصدري الذي استمد شعبيته من ارث جهادي مثله الامام الشهيد محمد صادق الصدر، الذي شكل لأول مرة  ماسمي يومها بالمرجعية الناطقة أو مرجعية الميدان، حيث الاتصال المباشر واليومي مع الناس، والتحرك بينهم .

وقد واصل مريدوه وأنصاره، السير على النهج ذاته بعد ان فقدوا رمزهم الشهيد .

ولما كانوا هم الحركة السياسية الوحيدة تقريبا، الذين نشأت وترعرعت  في الداخل العراقي، ولم يغادر أي من قياداتهم البارزة العراق لفترة طويلاً حتى سنوات خلت، لذا اكتسبوا ذلك الزخم والتعاطف الشعبي الذي أهلهم لتشكيل (قوات) شبه عسكرية سميت بجيش المهدي، أخذت على عاتقها حماية مناطق تواجدها بعد خلو العراق من أية أداة أمنية .

ثم برز الدور الأكبر لذلك (الجيش) اثر جولتين من المعارك ضد القوات الأمريكية، بعدها كانت الانعطافة الهامة بعد نسف مرقدي الإمامين العسكريين، إذ دخل بمواجهات مباشرة مع التنظيمات الإرهابية، استطاع بنتيجتها ان يقضي على الكثير من الخلايا التابعة لتلك  التنظيمات، خاصة في بغداد ومناطقها .

لكن إبان تلك المواجهات، سادت الفوضى طبيعة حركة ذلك الجيش، وتشكلت على  اثرها (زعامات) محلية في الأحياء كرست نفوذا خاصا تجاوز المهام التي تحظى برضا شعبي، ومن ثم كثرت التجاوزات بعد أن تذوق هؤلاء طعم السلطة والنفوذ، لذا لجأوا الى ممارسات جعلت التأييد الشعبي  ينحسر بسرعة قياسية لينكشف من ثم  الغطاء عنهم، مما سهل مهمة ضربهم .

إثناء المواجهات مع الحكومة، كانت القيادات السياسية  للتيار الصدري، تعيش إرباكا لم تحسم معها خيارها، فجيش المهدي كان جناحا عسكريا للتيار، وكان من المفترض ان الجناح السياسي هو الذي يحدد طبيعة الحركة والقرار السياسيين، كما هو عند حزب الله اللبناني، لكن ذلك لم يحدث بشكل واضح، الأمر الذي جعل التيار الصدري يدفع أثمانا سياسية لأخطاء وخطايا جناحه العسكري، تمظهر أهمها في تراجع نسبة  التأييد الشعبي، الأمر الذي انعكس على نتائج انتخابات مجالس المحافظات أولاً وقد يمتد الى الانتخابات النيابية القادمة  - .

المعضلة التي واجهها التيار الصدري، ان الفرصة لم تتح له لإجراء مراجعة شاملة لتجربته السابقة وتقييمها ، ومن ثم البدء بخطاب جديد يعلن فيه اعتذاره عما ارتُكب بإسمه في المرحلة  السابقة، وذلك لمد جسور الثقة مرة أخرى  مع جمهور واسع  مازال يحمل له الود، اقله إكراما للرمز الشهيد محمد صادق الصدر، وإلا فقد يأتي يوم يذكر فيه  التيار الصدري كما جناحه العسكري (جيش المهدي)  بإعتباره حكاية كانت أشبه ب(نهاية رجل شجاع) .

تعليق على هامش الذكريات: قرأت تعليقاً للإستاذ علي التميمي  على مقالتي السابقة (باشوات الكتابة) يستغرب فيه عدم وجود تعليقات على مقالاتي رغم عذوبتها، فيما يحدث عراك وشتائم على غيرها ، ثم يتساءل:  هل لأن هذه المقالات لاتثير الغرائز؟

في الواقع ياصديقي ان الأمر كذلك فعلا، حيث أصابنا ما اصاب ذلك الرجل الذي دخل قرية، فهاجت عليه كلابها، فحاول انتزاع حجر من الأرض لكنه لم يفلح لالتصاق الأحجار بالأرض، فقال مندهشاً : أي قرية هذه ؟ تفلت كلابها وتربط أحجارها .

ونحن هكذا يا صديقي، نفلت غرائزنا ونربط عقولنا، ثم يأتي من يوهمنا بأن ذلك هو المطلوب، هل تعلم بأن واحداً من كبار القادة في لبنان، جمع قّراء المجالس الحسينية ليأمرهم بأن يركزوا كل جهودهم  في إبكاء الناس:" أثيروا اشجان الناس واجعلوهم يبكون، ولا تتطرقوا لأية قضية، مابدنا تحكوا لا بثقافية ولابسياسية ولابفكرية  "هذه وصيته .

لذا فلاتستغرب ياصديقي أن يشتهر بعض الكتاب الذين ينشرون السطحية والضحالة بين الناس ماداموا يثيرون غرائزهم، رغم ان الأمم ترتقي بعقولها، ومايميز البشر عن بقية المخلوقات، انما هو العقل، أما في الغرائز، فجميع المخلوقات متساوية بما فيها الإنسان.

أما قصتنا مع الصحافة فأنت تدرك : كنا نكتب  في صحافة المنفى واليوم أصبحنا نبحث عن صحافة النفي .

   ففي أيام الإغتراب ألقسري الذي عاشه بعض مثقفي العراق من صحفيين وكتّاب، حاولوا جاهدين أن لا تنطفيء أصواتهم وسط ليل المنافي ،لذا أصدروا العديد من الصحف والمجلات بجهود ذاتية صرفة، ولأنهم ليسوا مدعومين من احد، ولم يكن التنافس على العراق  قد بدأ حينها،  لذا سرعان ما توقفت تلك الإصدارات التي كان بعضها يحمل بصمات حداثوية متطورة كان يمكنها ان تشكل واحدة من السمات البارزة لصحافة عراقية عصرية فيما لوقدر لها الاستمرار ، كانت تلك صحافة النفي بكلمة أوضح، اذ لم يكن المنفي بالنسبة  لأولئك سوى جسدي وحسب ، فقد  كان  العراق يملأ النفس والفكر معا، لذا بقيت شعلة الإبداع العراقي مضاءة رغم صقيع الغربة  .

لكن الآية انقلبت في رحلة العودة الطوعية، المنتظرة منذ سنوات استهلكت ربيع العمر، كان العراق في دواخلنا ونحن خارجه، واليوم يريدوننا أن نخرج العراق من أصواتنا واروأحنا  لنبقى بداخله  أشباحا جسدية .

من عاد الى العراق، وجد وظيفة في صحيفة ما، لكنه فقد الوهج وأصابه الإنطفاء، كان يكافح من اجل أن يقول ،واليوم يحاصر من اجل أن يصمت ، أو يتحول إلى صدى باهت للرماد .

كنا نحفر للننتج ثقافة ونصدر صحفا بملامح عراقية واضحة المعالم، واليوم يحفر لنا، لنصدر صحفا أو نكتب مقالات بلا ملامح، الوعي العراقي فيها (غريب الوجه واليد واللسان).

كان العراق فينا جميلا وهو يعيش نبضات قلوبنا،، لكنه اليوم أجمل ونحن نعيش نبضات قلبه .، فدعهم ياصديقي ينشرون ظلام جهالتهم، وليصفق لهم المصفقون، فلن يستمر ذلك الى الأبد .  

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1190 الاربعاء 07/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم