صحيفة المثقف

حوار مع الناقد والشاعر حميد ركاطة / عزيزة رحموني

أو كما تصدح الأنغام على سلم البهاء. بالحرف ينقش متاهات الفكر الكامنة في عالمنا المتحول وبالحرف يرصد نبض الحياة اليومية ويقتحم مناجم اللغة ليلغمها برؤيته العميقة للأشياء وللذات. مبدع شامخ ذو هوية إنسانية نبيلة فتح لنا نوافذ قلبه فجاء الحوار التالي إطلالة تقربنا منه أكثر...

 

سؤال اول: قلق الكتابة ينبع من كل المعتقدات التي تكبل حرية التعبير والرواسب الفكرية وعمق التناقضات التي يواجهها المبدع. من خلال اهتمامك بالقصة القصيرة المغربية هل ترى أنها تلاحق الظواهر التي تستجد في المجتمع وتواكب التغيير الاجتماعي في بيئتها؟

- ربما هذا أمر قد يبدو غريبا، ونادرا لو قلت لا، لكن الواقع هو أن كتابة المبدعين اليوم هي كتابة ترتحق من الماضي والسيرة الذاتية أكثر من ارتحاقها من لظى الواقع. فبموت الإيديولوجيات الكبرى والصراعات بين الشرق والغرب ( الحرب الباردة) والتي كانت تنعكس في كتابات الرواد وجيل السبعينات والثمانينات وبخبو المد الإيديولوجي وسقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي وخبو المد القومي واستفحال البطالة والجفاف وبروز الإرهاب إلى الواجهة وفشل الشعارات البراقة التي حملها اليساريون لأمد طويل حتى تعفنت بسبب الانخراط في حكومة التناوب. وبدخول المغرب عهدا جديدا ستتحول مواضيع القصة من الترميز والهمس والخطاب السياسي إلى قصص أكثر التصاقا بالواقع ربما في فترة أواخر التسعينات لكن بدخولنا الألفية الجديدة ستهتم القصة المغربية بذاتها وليس بالمجتمع. سيناقش الكتاب قلقا آخر وسيغامر البعض الآخر في تجريب قوالب جديدة وتطليق الشكل الكلاسيكي وستبرز وجوه كان لها النصيب الأوفر في رقي القصة المغربية والانتقال بها جماليا بتطوير أدواتها وقوالبها وممكنات كتابتها وبفضل نقاد كان لهم نصيب أوفر في التوجيه من خلال الانفتاح على النقد الغربي بمدارسه المتنوعة وستدخل القصة المغربية حرم الجامعة وسيبدأ الاهتمام بدراستها .

لكن ربما قد ينطبق هذا الأمر على القصة القصيرة جدا حاليا وهي تواكب التحولات بقلق كبير ورصد بعيون كتابها الكثير منها من خلال قصص أرخت بإعجاب للحظاتها المنفلتة .

 

- كل مبدع يحاول في كتابته الخروج من التمزق بين الموروث والمتطلع إليه. بين الجذور والحلم. كيف ترصد ذلك في الكتابات المعاصرة؟

- ربما المثير في الكتابة القصصية المغربية هو التنوع بحكم الانتماء لمناطق لها خصوصيتها الضاربة في عمق التاريخ، فمن منطقة لأخرى تبرز معيقات الكتابة من خلال تجنب الكلام عن المحظور أو المسكوت عنه الذي ربما نعثر عليه كشظايا قذيفة ضمن سياق معنى أو حدث، هذا بقدر ما هو راجع إلى خصوصية المنطقة راجع بالتالي إلى الموروث الثقافي والتقاليد التي تظل مكبلة لكل جموح إبداعي باستثناء بعض التجارب التي من خلال انفتاحها على سرد وقائع من سيرتها الذاتية تمكنا من فك بعض شفرات الكثير من الأشياء ناهيك عن الإحجام والصمت والخوف من الانتقادات التي قد توجه لعمل المبدع أو التحامل عليه من طرف محيطة فأحيانا تصل الوقاحة بالبعض إلى محاكمة المبدع باللجوء إلى القضاء وهذا أمر يجعل التحرر المطلق والكتابة الصادقة والرصد العفوي أمر محفوف بكثير من المخاطر، لكن ذلك لم يمنع من مغامرة العديد من المبدعين فرصدوا ذلك في كتاباتهم وهو يعبرون صراحة عما يخالجهم بشجاعة وقد كسروا الطابوهات وتجاسروا بقوة على أصنام الرفض والرقابة وكل الخطوط الحمراء المكبلة والمعيقة . فكانت أشبه باجتثات منها إلى كتابة وهي تنسلخ من واقعها بتعبيرها عن الرفض والسخط وربما هذا الأمر( المواضيع) تم التطرق إليها في الرواية المغربية بالخصوص لكن في القصة كان الترميز والهمس في البدايات تم بعد ذلك سنلحظ الانتفاض والثورة على الصمت والمحرم .

 

- كتب صلاح بوسريف ذات مقال : " مادامَ التُّراثُ إرثاً، وما دامت الحداثةُ، انتقالاً بهذا التُّراث، من فَهْمٍ إلى آخر، أو من استعمالٍ إلى آخر، فالتُّراثُ، هو ماضٍ، من حيثُ قيمتُه الزمنية، أي انتماؤُه لزمنٍ لم يعد قابلاً للاستعادة، لكنه ذلك الماضي الذي لا يمضي؛ حين يكون هذا التُّراثُ حَيّاً، أو قابلاً للحياة، بما يحمله في طَيَّاتِه من قُدْرَةٍ على الاستمرار، وتوليد الدَّلالات، أو توسيعها، بالأحرى". هل هناك توظيف جيد للموروث في القصة القصيرة وق ق ج؟

- نعم توظيف التراث في القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا أمر ورد عبر مراحل وعبر وعي الكتاب ومنظورهم للتراث نفسه. هذا الوعي منه المشوه ومنه العارف الذي تم من خلال رجوع المبدع إلى دراسة التراث نفسه بدء من تحديد مفهومه ومدلوله الغير محصور زمانيا أو مكانيا بل من خلال امتداده في الذاكرة الجمعية. توظيف سيبرز قلق كتاب الألفية الثالثة ورغبتهم في تحقيق طوفان القص وهو ما تم بالفعل .فالتراث جاء ضمن سياقات تجاوزت حدود المفهوم العادي لينتقل لمفهوم أعْقَد واكبر. مفهوم إنساني وكوني وهو ما نفح جسد القصة المغربية بخاصية جديدة كقصة منفتحة وغير مسالمة، زئبقية، مكسرة للحدود الأجناسية أمر سيدفع الباحث الأكاديمي إلى الإلتفات إليها والاهتمام بها باعتبار توظيفها جاء ك" طفرة داخل قطرة " وفي مرحلة دقيقة ومدهشة برزت فيها قصص بحجم الكف لكنها تستوعب كل الموروث الانساني وتكيفه عبر قنواتها لتخرجه مقطرا لا يستطيع المحيط سعة مائها المتدفق باستمرار .

 

- هل هناك تدبير لشوق المبدع الى المجتمع القديم البسيط الخالي من الزيف؟

- قد أكون كاذبا لو قلت لا، الكاتب يحلم دوما والحلم هو سلاحه الذي يوظفه في كتاباته مناشدا التغيير، وربما قد يبدو الأمر متناقضا بعض الشيء فمع كل انتقال اجتماعي وديمقراطي يتسع محيط الحلم وتتضافر الرغبة في الخروج من شرنقة الماضي المكبل لكل القيود لكنها رغبة قلقلة لا تعكس بشكل جلي خطورة الاندفاع والتهور نحو الغد المنشود إلا بعد حدوث الاصطدام الموجع وأحيانا القاتل والدامي بل بعد الوقوع في لج الزيف ذاته يبدأ الحنين دون القدرة على التضحية بمكتسبات الواقع فالعودة تتم في نظري وحسب ما استخلصته من قراءتي للعديد من النصوص في الخيال والحلم الذي يمجد الماضي وقيمه متناسيا علقمه أو متجاهلا إياه ربما لكون عنف اللحظة يكون أشد وقعا وألما أمام الانكسارات المتتالية للنفس والروح في زمن أسرع وأخطر وأعنف وفي قلب مدن رمادية لا ترحم بل تسرع من وثيرة وأد الكائن الحالم جدا، هنا تتم الرغبة فقط في العودة إلى الماضي والذي بدوره لم يكن خاليا من الزيف ولا يمكننا الحكم على صفائه لأننا لا نمتلك إمكانية تميزه فلكل واقع نسبة من الزيف لا يمكن تبينها دون معرفة الحقيقة لكن أية حقيقة فهي الأخرى متغيرة وغير قارة المفهوم لأنها خاضعة للتطور ولمقاييس تحديدها في زمنها فحقائق الأمس حول قضايا معينة تصبح اليوم غير كافية للطعن في زيف واقعنا الأشد شراسة وبؤسا وعنفا.

 

عانى العالم العربي من القلق والخيبات لعقود.هل استطاع المبدع العربي ترجمة هذه المعاناة في إبداعه. هل استنهض أحلامه وأحلام أُمتِه المجهضة ليرسم معالم المستقبل أم ظل محايدا متزلفا؟

- المبدع المغربي لايمكن استثناؤه عما يحدث حوله فهو مبدع قلِق وحذِر في نفس الوقت فإذا كان الرواد قد عبروا رمزا وإيهاما، فإن كتاب الجيل الحالي كسروا كل القيود المكبلة للخوف ربما باتساع دائرة الحريات العامة ومن ضمنها حرية التعبير فكما في التشكيل والمسرح والغناء والكتابة ترجم المبدع المغربي قلقه وخيباته وفشل أحلامه ضمن إبداعاته وهو ما جسد معاناته بشكل من الأشكال بحيث تحولت الذات المنشطرة إلى صفحة للكتابة ولترجمة تطلعاته والتعبير عن تيهه وتأييده للتغيير أو للتعبير عن موقفه من كل التغيرات التي يعرفها محيطه الجغرافي سواء المحلي أو القاري أو الكوني، المبدع المغربي لم يخرج عن سياق التحولات بل كتب من داخلها ومن خلالها وعنها أيضا وسنرى في القادم من الأيام تجارب رائدة من هذا القبيل منها ما كتبت تقديما له كالربيع العربي مثلا ومنها ما كتبته من قصص حول التحولات الحالية ومنظوري إليها وموقفي وتنبؤاتي كذلك بما يمكن أن يحصل من تغيير قادم، لهذا أعتقد أن المبدع المغربي لم يلتزم الحياد ولا الصمت ولكن بادر للتعبير عما يخالجه بالنضال سواء على مستوى الكتابة أو على الواقع كذلك .

 

- ركاطة الشاعر كيف ينسجم مع ركاطة الناقد من منهما يقع في ظل الآخر أو يشرب وميضه؟

- كلامها واحد منسجم مع ذاته أحب الإبداع ويجرفني النقد، كلما حاولت التخلص من أحدهما أجدني منجذبا للأخر.

الإبداع والنقد وجهان لعملة واحدة يفرق بينها زمن قصير جدا قد يكون الفترة التي يستغرقها نحات في تحويل قطعة الرخام من شكلها الأصلي إلى أيقونة مثيرة وجميلة أنا منسجم مع نفسي بالمطلق وأقسو على نصوص أريدها أن تكون في المستوى وهذا قد يخلق نوعا من الازدواجية لكن تفاعلي الصادق مع الآخر ونصوصه هو المقياس الذي اعتمده في قراءاتي النقدية كل ما يستجيب لشروط محددة يستهويني كما أن نضالي النقدي يأتي في سياق مواكبة الأعمال الأدبية الكثيرة التي تم تجاهلها والتهرب منها ظلما بهدف إقبارها أو إخماد شرارة أصحابها فلكل زمن رجال (نقاد / مبدعين) وهذه حقيقة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار. لست ممن يؤمن بمقولة (أكتب عني أكتب عنك) ولكن أؤمن كما يؤمن أبناء جيلي بأن الثبر لا يصنع ولكن يبحث عنه.

 

- حين تصادف "دموع فراشة" ما الذي يحصل؟

- بكل صدق ترتجف ذاتي لأنها أرق مخلوق على وجه البسيطة تلك الفراشات التي خرجت من شرنقة ناقد بالقوة وتمردت على قوانين الكتابة عبر عن موقفها من عصرها تماهت مع الكثير من خصائصه وفوضاه / حين أصادف دموع فراشة تنتابني حيرة وخوف لعدم استمرار التجربة أو الفشل في ركوب التحدي خوفا من السقوط أو تكسير إيقاع ما، ربما كانت عين الناقد طاغية في التوظيف لكن سأحاول رغم كل شيئ الحفاظ على الأقل على مستوى النصوص وقيمتها الإبداعية في مجموعتي الجديدة " ذكريات عصفورة " التي سأتركها مفاجأة

 

- و حين تواجهك "اعترافات" كيف تفككها وتعيد صياغتها؟

- الكتابة المسرحية تسير ببطء كبير عندما أجد الوقت الكافي (وهذا أضحى مستحيلا) سأفكر في الكتابة.

فاعترافات هي آخر نص مسرحي كتبته خصيصا لأبنائي كي يستأنسوا به في المنزل ذات صيف لكنه لم يُلعب لحد الآن وظل في أرشيفي إلى حين العثور عليه صدفة فرقنته . لكنه كان نصا محظوظا لأنه سيلعب على خشبة بمدينة خريبكة كسابقيه من النصوص وسيتم إخراجه من طرف المبدع أمين العوفي .

 

- " زغاريد تكسر ليل الصمت " ما ظروف نصها وما الذي صمتت عنه؟

- هذه باكورة أعمالي الروائية وقد ألفتها في ظروف عزلة تامة في بادية سوس ومن خلال مشاهداتي وتفاعلي مع المحيط . كانت الشخوص مستوحاة من الدوار الذي اشتعلت فيه وأحداثها متخيلة مائة بالمائة وأنا بصدد تنقيحها والتفكير في محاولة إخراجها ورقيا لو أتيحت لي مساعدات في هذا المجال فالنشر بالمغرب كارثي بالمطلق والثقة أصبحت مفتقدة بين الكاتب والناشر والحقوق تضيع بالمرة إلا من رحم ربي.

 

- و" لحظات بغيضة ".هل وجدت حُبا يُلقِمها حَلمة الضوء؟

- هي رواية قصيرة كذلك قد لا تدل عتبتها على مضمونها الذي سأتركه سرا آخر من أسرا ر الكتابة لكنها مستفزة إلى حد ما وقد تثير جدالا...

 

- إن صادفت عودا أو كمانا ما الذي يعتريك؟

- لست أدري من أين حصلت على كل هذه الأسرار لكن لن أتنازل على حق مداعبة الأوتار وربط الحنين بالماضي القريب والبعيد على السواء نحن عائلة توارثت الفن أبا عن جد. كل إخوتي يعزفون على ألآت وترية وبعض أعمامي وجدي كان شيخا للطقطوقة الجبلية معروف في شمال المملكة " المعلم سلام بن احمد " وكان رحمه الله عازفا ممتازا للكمان .

 

- أي الجغرافيات يلامس شغافك أكثر , السهل أم الجبل؟

- كل الجغرافيات تلامس شغفي

كل الجغرافيات جنسيتي

 ما دمت أبحث عن وطن ضائع

""""""""""

 

اجرت الحوار: عزيزة رحموني.

  

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2060 الخميس 15 / 03 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم