صحيفة المثقف

العراق ومحيطه: إشكالية العلاقة وأفق الإستقرار

هل بإستطاعة كل هذا الضجيج ان يمنعهم سلامة الرؤية وتحديد المواقف؟ وبأي منظور يمكن قراءة المواقف الإقليمية من موضوع العراق أو بالعكس؟

ربما كان العراق هو البلد الوحيد في المنطقة- عدا فلسطين  - الذي لم يخرج من إستثنائية أوضاعه طوال تاريخه المعاصر، إذ كان على الدوام كجده إسماعيل " يده على الجميع ويد الجميع عليه " – إذا جاز التشبيه -  فمعظم الأحداث التي وقعت في المنطقة وجد ت لها إمتداداً في العراق، الذي يهضمها ويعيد من ثم صياغتها وتصديرها بدوره على أشكال وصور مختلفة، هذا ما يكتشفه المتتبع لمجمل السلوكيات السياسية للحكومات والأحزاب العراقية المتعاقبة، ففي العهد الملكي لا يكاد يخلو حزب او حركة من إمتدادات لها في دول الجوار، أو كانت هي ذاتها فرعاً لحزب أو حركة إقليمية  أخرى، بدءاَ من أحزاب العهد والإستقلال والوطني وغيرها، وصولا الى البعث وحركة القوميين العرب والأحزاب الإشتراكية والإسلامية على إختلافها ، وفيما خص الحكومات، فقد كرست الأحلاف الإقليمية – كحلف بغداد– العراق، واحداً من الإقطاب المحورية لسياسة التدخلات خارج حدوده، وأصبح من البداهة أن يكون للعراق أصبع في هذا الحدث أو ذاك مما يجري في المنطقة، وعليه سارع نوري السعيد لدعم حليفه كميل شمعون في لبنان عام 1958 بناء لمواثيق ذلك الحلف، وقد إستمر الحال الى حين قيام النظام الجمهوري الذي كرس عهده بتصفية بعض الضباط من القوميين تحت مقولة التآمر على " الزعيم " بدعم من عبد الناصر ثم محاولة ضمّ الكويت التي اجهضها التدخل العربي آنذاك .

 بعد إنقلاب شباط عام 1963، إزدادت وتيرة  التدخلات بتسارع مثيرنحو العراق ومنه، ومن  ثم لتتحول الى نهج ثابت ومبرمج في السياسة الخارجية للعراق بعد تسلم حزب البعث مقاليد الأمور، وكان اكثرها وضوحاً في المرحلة الأولى، دعم ‘إنتفاضة عبد الخالق محجوب وهاشم العطا في السودان عام 1971، ومساندة " بولنت اجاويد " في تركيا عام 1977، وكان التأثير العراقي على تركيا واضحاً معنوياُ الى درجة عبر عنها الرئيس التركي " توركت أوزال " بقوله : (كيف يمكن العيش مع جار بهذه القوة ؟)،  أما عن إيران الشاه، فقد إستمرتدريب ودعم العناصر المناوئة للشاه كرد منطقي لدعم الأكراد من قبل إيران، لكن تحولاً جذريا حدث بعد توقيع إتفاقية الجزائر عام 1975وإنهيار الثورة الكردية وقتها، الإ ان الأمور عادت الى ديدنها المتوتر بعيد قيام الثورة الخمينية وصولاً الى الحرب .

 وفيما خصّ الدول الخليجية، فقد حكمها مبدأ الإشكاليات الدائمة والهدنة المؤقتة، ولم تنقطع واقعياً نغمة التهديد والإبتزاز العراقيين، وان إتخذت طابع الملاينة في بعض المراحل خاصة إبان إنشغال العراق  في حربه مع إيران، يذكر في هذا الصدد المحاولات المتكررة مع الكويت لعقد إتفاقيات بحرية وإقتصادية دائمة، أو إستثمار جزيرتي : " وربا وبوبيان " أو الدخول في مجلس التعاون الخليجي  وغيرها من المحاولات التي باءت جميعها بالفشل، وكان مؤشرها الأساس هو الحصول على منافذ بحرية معتبرة تخفف من عزلة العراق وإستثنائية موقعه ومترتباته.

كذلك فأن العلاقة مع سوريا كانت ترتكزعلى حدّ مضطرب وشديد الحساسية، إذ سيرتها مجموعة من عوامل عدم الإرتياح والشك حيناً، أو الغضب و التوترأحيانا اخرى، ونادرة هي الفترات التي تخللتها علاقات طبيعية ومستقرة، وفي لبنان، كان ميزان العلاقة يتأرجح بين الأطراف السياسية المختلفة من دون أرجحية التفضيل الحاسم لطرف بعينه، أما عن مصر، فقد تميزت العلاقة معها بالمنافسة على الموقع الفاعل والكلمة المسموعة، وبعد ان عزلت مصر نفسها بإتفاقية " كامب ديفيد " وما تبعها طوال عهد السادات،  توافرت الظروف للقيادة العراقية – كما رأتها -  لإعادة وتكريس موقع ريادي كان للعراق على إمتداد حقب تاريخية طويلة .

 العلاقة الوحيدة التي شهدت ثباتاً نسبياً كانت مع الأردن، ذلك ما تظافرت عليه عوامل متعددة ، منها ذو طابع سياسي أو إجتماعي، ومنها  ماهو إستراتيجي ‘ فوقوع البلدين تحت إستعمار واحد والروابط الأسروية بين المملكتين حينذاك، لعبتا أدواراً سياسية مركبة، أما في العصر الجمهوري ‘ فلم يدخل الأردن في مضمار المنافسة أو الإنحياز لأحد المتنافسين مع العراق، كذلك لم يكن لدى الأردن منافذ بحرية حيوية ومهمة إستراتيجياً كما لدى الدول الأخرى  - وهذه هي النقطة الأكثر جوهرية وإثارة للإهتمام- فالعراق المحاصر بقفص الجغرافيا، لابد له من إستنشاق هواء البحر بملء رئتيه، أنها مسألة إستراتيجية تركت آثارها النفسية والسياسية المدمرة على مجمل السلوكيات العراقية،وأياً كان نوع نظام الحكم القائم هناك، فبلد يضطر الى دفع حصص ثقيلة من موارده المالية، ثمناُ لتصدير نفطه عبر أنابيب تمر في اراض وموانىء بلدان أخرى، كما يمكن إغلاق حدوده وحصاره بمجرد قرار يصدر من هذه الجهة أو تلك، لابد ستجد أية حكومة تقوم فيه،  نفسها منساقة لإنتهاج أحدى طريقتين : اما إثارة المشاكل والتوترات مع كل ما يعنيه ذلك من اضرار فادحة على العراق وجواره، وهذا يقتضي أن يكون العراق قوياً بما يكفي لفرض هيبته وربما شروطه، أو إسترضاء تلك البلدان بأثمان باهضة لا يستطيع العراق تحملها أمدا طويلاً– كما حدث في السنوات الأخيرة -  هذا كلام لا يرتبط بالمواقف السياسية وحيثياتها، انما هو نتيجة منطقية ستتوصل اليها أية قراءة  موضوعية للتاريخ العراقي وإشكالياته الإقليمية .

أن الخط البياني للعلاقات العراقية مع الدول الإقليمية – ودول الجوار منها بشكل أخص – كان على الدوام متارجاً تبعاً لأهمية تلك الدول وقدرتها على " خنق " العراق أو كسر الطوق عنه – وهذه معادلة مزمنة قد تدخل في حسابات معقدة أما لحلها أولإرسائها وتثبيت دعائمها، فالبحث عن حلول جذرية ونهائية، يتطلب منح العراق  إطلالة بحرية كافية لبلد بحجمه وأهميته، وهذا لن يتم إلا بتغيير خطير فيما هو قائم من خرائط وحدود سياسية، أي ان المسألة ستكون على حساب دول أخرى مجاورة، وإبقاء الوضع على ماهو عليه سيعيد المشكلة الى أساساتها، أي دفع العراق مجدداً ليكون عامل عدم إستقرار للمنطقة برمتها، فإذا إستعاد عافيته وأفرز نظاماً يوحد ه ويجمع شمل ابنائه، سيطل كابوس " التهديد العراقي " ومشاكله مرة أخرى ، أما  في حال بقائه ضعيفاُ ومنهكاً كما هو الآن، فسيكون عرضةً لتدخلات طويلة الأمد مع ما يستتبع ذلك من حسابات، أو وقوع إنفجار داخلي شامل  ببن مكوناته  الإجتماعية المختلفة تكون نتيجته إدخال المنطقة في أتون حروب وفتن أهلية لا نهاية لها  .

ولا حاجة هنا لإستكشاف الغيب من أجل الخروج بهذه المحصلة، التي قد تبدو متشائمة وعرضة للمحاججة والتفنيد، لكن مسيرة العراق بكل ما يمكن أن  يسجل عليها من مآخذ  وكبوات، ستبقى تدور في الحلقة المفرغة الى يوم غير منظور، إذا لم ينفتح العراق على البحر أو يأتي البحر الى العراق –بإستعارة مفردات مظفر النواب – لذا فعلى القوى السياسية العراقية أن تضع هذا الأمرنصب عينيها  وبالتالي تسعى جاهدة لتلمس السبل الكفيلة بتخفيف وطأة الحصار الجغرافي الممسك بخناق العراقيين، والحل قد يأتي  بوحدة " كونفدرالية "  بين العراق والكويت مثلاً- وهذا الأقرب الى المعقول - بعد أن تبنى أساسات متينة من الثقة والتعاون  تفرزها الوقائع الجغرافية  والمصلحة الواحدة، والإ فقد لا يستطيع احد التحكم بإتجاهات الغد الذي قد لا يكون مشرقاً بالضرورة .

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1192 الجمعة 09/10/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم