صحيفة المثقف

صواعق الجواهري في بصمات شاعر بصري ..

قادر على رصف الالفاظ وانتقاء الصور واختيار الايقاع المؤثر لعل هذا كله يهمس من قريب وبعيد للشاعر العملاق الجواهري فليس سهلا على أي شاعر ان يحاكي او يعارض الشاعر الفحل فقد قلت سابقا الجواهري شاعر عباسي ولد خطا في العصر الحديث وكم ابصم بتواضع على بصمة التميمي في مجموعته البزوغ

 

بدء من البديهيات ان اختيار الموضوعة الشعرية له علاقة بالتوتر الحسي والنفسي للشاعر والبيئة والشعر الناضج قادر على صنع الكلمة النابضة التي تجر المتلقي لها في فضاءات متنوعة واجد الشاعر التميمي قد تسربت شاعريته من مرافيء البصرة وعمودها الخليلي الصارم الذي لايكتبه الا الموهوب واخرج من القوس اصحاب الخواطر فكم من الكتابات ماهي الاخواطر من اختصاص الاناث في المذكرات اليومية والا فالشعر صعب صعب ايها الناس فاتركوا الخواطر واستريحوا ابدا

 

وشاعرتنا التميمي يضبط عروضه وان راينا تنوعات موضوعاته وتشظياتها لقيم لامبرر لها فليس هذا موضوعنا اليوم بل وجدناه موائما في تقويمه بين اسس تراثية وثقافة ادبية معاصرة وهو يعرف ان المنابع للابداع تتنوع ضمن ميول ثقافية متنوعة وقراءات كثيرة كي يستقر العمق الانفعالي المقصود ثم ذلك اللاشعور الذي يتاتى للشاعر دون علم فيكتب بما يؤمره خياله من صور واخيرا تلك التجربة الواقعية التي ينتقيها ليسطر سطوره وكيف به وقد اختار موضوعا دافئا عنوانه شاعر الزمن بعد المتنبي بل متنبي عصره فوالله قد وجدنا الجواهري يفوق متنبيه في الكثير ولكن الزمن لاينصف والاعلام لايعطي الحق للمبدعين

 

وكم يصب الناقد الشاعر معياره على ملامح الفكر وليس التراكيب التي تعد جمعا صناعيا ومرة البحث عن الغموض دون جدوى كي يخلق الانتباه والشاعر الجيد من يخفي نصه فكرا ولايكشف عن اوراقه بسرعةواجد الشاعر التميمي يحترم القيمة الانسانية التي تكاد تضيع بل اقول ضاعت في حياتنا المعاصرة فهو يناغي نفسه وغيره بمناجاة تحذيرية وخطاب حازم يكشف مسارب الضياع والخلل في عصر فقد كل شيء ولعل الادباء في البصرة حصرا يستغربون لكتابتي عن الشاعر التميمي ويرونه مفرطا في شعر المناسبات مثلا او العموديات التي استهلكت واقول لهم انا رجل حيادي ليس مرتبطا بجهة وحزب واقول ما اراه ناقدا وشاعرا يسحرني الظلام الصادق وابتعد عن الضوء المصطنع

 

ملاحظات قبل القراءة

كم يؤلمنا ان يسكت صوت الجواهري ويظل نعيق الضفادع الذين لايعرفون من الشعر بيتا ولايجيدون من العروض بحرا ولايرسمون للخيال حسابا ويظنون الشعر تسطيرا للقافية وضبطا للاوزان لا والف لا الشعر اكبر من ذلك والابداع استعداد ذاتي يمر بمراحل اربع كما يصفها دالاس عملية التهيؤ والاختمار والالام والتحقيق وبعدها ينزل النص كالمطر فالعبقرية ليس لها مبدع فموزارت يؤلف في السادسه وكيتس يبدع في العشرين وهيوم يضع فلسفة في العشرين فالمبدع ليس شرطا انت ينتمي لاتحاد او منظمة او فئة بل المبدع من يزرع اعجاب الناس حبا وشعرا ويخدم مجتمعه دون ان يخضع لسلطة تسجن ارادته وكم نعلم بان الابداع جينات في الدماغ يسمى هبة الله للانسان ولايختلف اثنان بان الهبة موزعة على البشر وان العقل ملكات الانسان والله واهب العقل والابداع فلو كان من هبة البشر لما ظهر للوجود مبدع وعلى حد تعبيردي بونا (الاديب العظيم الذي يؤثر في مجتمعه وان يكسب رضاه دون ان يخضع لإرادة هذا المجتمع)واجد التميمي مؤثرا في نصه 

 

 ملاحظات في متن النص

بصمة امضاء تتسرب الى مخيلة الشاعر اعز ماعنده وادق قيمة على الصدق وشرف المبصم يقدمها للجواهري الكبير والمكان تحت وليس فوقف الشاعر صاحب قضية وقد احسن اختيارالمكان فلم يجرؤ ان يقول فوق بل تحت فمن بنا ان يجاري الجواهري ويقف بجنبه ومن بنا من يعارضه ويحاكيه فليس على الشعراء هذا ابدا وكم ابتعدت عن التقديم قبل النص واراه لامبرر لنا فمن بنا لايعرف رحيله ودفنه وغربته ونكبة العراق بفقده كم أشرت بقصيدتي في مرثية قديمة:

الشعرمات ومات حتى الشاعر   فلذا تفز من العراق مقابر

 

ولو اكتفى التميمي بعبارته الرائعة(إن آخر كلمة قالها الجواهري لممرضته سلاما ياعراق)ماا كبر الجواهري وماا كبر وطنيته وشرفه حتى في لحظات الموت يبقى العراق نشيده بالسلام لا الحرب

 

الدلائل النقدية في متن النص

البنية العروضية أولا جاءت منبعثة من داخل التجربة وحركة القصيدة برمتها يعلوها النغم ولا يهبط ويتوترولايلين وهنا تكمن قدرة الإبداع عند التميمي فقد ابتدأ بمستهل عبر تفعيلات الكامل ولا نقول أوزانا وهي متفاعلن ثلاث مرات"؛

في باب موطننا الكبير تعثرت قدمي

وكلكم تعرفون أن قدمي على وزن متفا أي سقط الوتد المجموع برمته في آخر التفعيلة ليصبح مرقصا تنتظمه نبرة تثر العاطفة

---متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفا –

في هذا المستهل دلالتان الباب والقدم ونحن نعرف التقابلات الثنائية فلولا القدم ما كان الباب والثاني اللافتة والدم الشارة الى الخط الذي تخط به اللافتة الجواهري ثم الاسترسال في جزيئات اللافتة من نسج الأوردة وصنع التمثال وقد أرى المستهل رائعا في نسج فكري وإيقاعي وهو يتماثل مع نصيات السياب مثل قصيدته

القرية الظلماء خاوية المعابر والدروب

ثم ينتقل التميمي الى أداء عروضي رائع باستخدام أجزاء الكامل باستخدام الجزء منه وخاصة العروض حذاء بتشديد الذال والضرب احذ ويستطيع أي عارف بالعروض تصيد تلك النغمات ولكنه لم يمربمجزوء مرفل مثلا وهذا تمكن منه في السيطرة على بنائية نصه عدا بعض الزحافات التي حصلت في ثقل الأفعال

يا ايها الوطن البليد ياناكرا نسبي

 

نحن لانتفق مع الشاعر بإطلاق البلادة على العراق حتى وان قالها الجواهري فالعراق اكبر مني ومن الشاعر ومن الجواهري ونحن خدام العراق

 

دلالات في متن النص

دعني السباحة في بركان الشعر الصاعق وابدأ من الوقوف قال التميمي:

قف هاهنا إياك ان تطأ الحدود لا لن تعود

الوقفة لها دلالات منها وقوف أمري القيس قفا نبك ومنها وقفة المعري في وطء الأجساد من السحق

ثم الانتقال إلى التفصيلات الفنية في الحديث على لسان الشاعر وصفته فهو ليس له وطن ومنفي ,ثم العودة للاسترجاع في ذهن الشاعر نفسه

وقفت مفاصل جثتي

وتسمرت ألواح تابوتي بنزع هويتي

 

انظر الى عزاء الشاعر بنزع الهوية والانتماء وهل أغلى من الانتماء شي في الوجود للأرض للدين,وقد انهزم في تشاؤمه جدا قائلا.:

ورأيتني حيا أجوب النعش لا أوراق لي

الا مساميرا تمزق وحدتي

 

نعم ان الشاعر يطوف على نعش الجواهري عاجزا عن الكتابة وحتى لو كان الورق عنده  وكم جاءت دلالة البسامير في وصف الحاقدين عليه وعلى الأدب وكم يغضب التميمي

استل قضبان الحديد بقبضتي

 

لكنه لايعيد الجواهري الجسد بقدر مايراه نجما لامعا في زمان العطاء والإبداع

والغضب يستد اكثر حين يقول صارخا:

لملمت أوصالي لاصرخ ثائرا

لأدير وجه الأرض نحو قضيتي

 

لكنه لا يستطيع أن يغير العالم الخرف الجاهل الأمي المتخلف المنسي فالشاعر فيه مجهول مطرود من جنته مع سبق الإصرار

منابع الوهم وتداعيات الارض

 

ثم ينزل الشاعر بعد الغضب الى الأرض والنخلة شاهده اول المطاف:

في نخلك المفجوع اسم أبي

وعلى حيبيبات التراب عمومتي وعشيرتي

 

هنا يسجل الانتماء للأرض ثم الاب جذره ثم عشرته تميم وما إدراك ماتميم أصل العشائر العربية ولكنه كيف يوصل تلك البصمة من يسلمها الى الجواهري :

من لي إليك بحمل بصمة اصبعي

وانا إليك من فلذتي حتى نخاع الاضلع

وان نراه زحافا ثقيلا في فلذتي ولكنه عبر عن مشاعر صادقة

ثم دلالات الزمن تتنوع أهمها:

-هذا جوازي ابن قرن عمره

-من ومض ذاكرة الصبا

 

والطبيعة تدخل في مسارات النص فاعلة بقوةواولها الجامدة:

-سل عن مويجات الشطوط

سل عن حقول مترعات

-على ذرى اجبالهم

 

ولو سال واحد أيصح جمع الجبل أجبال الإجابة صحيحة

ثم المتحركة:عن بلبل مترنم-

وقد كانت قدحته مسك الختام نصا مكررا في إيقاعه"

متألقا بعصارة البوح-متألقا بعصارة البوح

 

هنا يمطر الشاعر قناعته بانه يتألق بالرغم من ظلم الزمن وسذاجته وغيبوبته عن الحقائق

ولم ينس الوسائل المادية في توظيف النص:-

-نسج اوردتي –الواح تابوتي-من اشعل القنديل-ماعاد درعي وفي تشخيص الدلالات نجد ان الاوردة وسيلة لنقل الدم والتابوت وسيلة للموت والقبر والقنديل وسيلة للضوء والدرع وسيلة للدفاع عن النفس

 

وفي الجانب الاشاري يكثر الشاعر :

قف هاهنا-هذا جوازي-مل السؤال انا-تلكم لياليك

 

والافعال المتكررة تشكل ايقاعا لحلاوة النص:

سل عن ملوك-سل عن دثار-سل عن جياع-سل دجلة الصهباء

 

ولاول مرة اسمع لقبا لدجلة الصهباء واعرف ان الخمرة موصوفة بها

وقد نزل الى االتصغير ماشيا على خط الجواهري والمتنبي

الحبيبات -

 

 وكان للبلاغة حصة الاسد في نصه هذا فالسجع(نسبي-ابي-اصبع اضلع-الميتات الفرات-  شبر قبر-بدني سكني-بعيد زهيد-الابطون الشجون-رمح-بوح-وحدتي هويتي) والطباق ماملني ارقي –قد ملني ارقي

ولايعرف ولايصنعها صنعا انما جاءت دون علمه والتشبيه(والوافدان كتوأمي- والمجاز (اورقت فيك الشجون-رفرفت بالتمتمات-وقفت مفاصل-دثار الميتات

والاستفهام ملعب دورا (من ليس اليك-من صب فيها-كم اورقت- والنداء(ياايها الوطن البليد-والنفي بلا النافية للجنس(لاباس ياوطني البليد-لا اوراق لي -

والنفي بلم ولن (لم يبق سوى بدني-لالن تعود

 

ومن دلالات الاعتداد بنفسه قوله:

ازهو بقافيتي-تخضر في نضحي-أهلي وجيراني وميراثي هنا-متألقا بعصارة البوح

بهذه التداعيات ينتصر الشاعر في توصيل بصمته الى غريب الشعراء ودفين الغرباء

والذي اقوله متعجبا ان مثل هذا النص لم يذكر بعد مهرجان المربد عام 2008 بسطر واحد

الم اقل لكم ان الشعراء اختلفوا وتوزعوا كحبة الكزبر التي قرضها النمل وجزاها الى اجزاءوقد اذكر الشاعر الكبير كاظم الحجاج عام 1989 عندما اهديته قصيدتي حبة الكزبرة منها/:

الا يا كاظم الحجاج قف لي هاهنا واسكت

فان النمل يحمل حبة الكزبر يقطعها الى أجزاء

لماذا قد يقطعها الى أجزاء يخاف عليها أن تنبت

وهكذا قطعنا الزمن بحبال جهله واصبحنا قبائل مفترقة لامكان وزمان لنا سوى الهم والغم

 

واقول للتميمي ان قصيدتك هذه سوف أعطيها لطلبتي في الدراسات العليا لان شاعرها كبير ومرثية عملاق اكبر مع الحب والتقدير

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1192 الجمعة 09/10/2009)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم