صحيفة المثقف

الطيور المحبة للإنشاد / أياد خضير

فلا بد للشجرة من جذور، وتلك السنوات كانت من أوجه المقارنة  التي يقوم بها دائما حين يختلي لنفسه يستذكر أعز الأيام وأحب الشوارع والأماكن التي كان يرتادها، إنها خصوصياته، ومن يستطيع أن ينكرها عليه لاسيما وهي ببساطتها وبشفافيتها مرآته التي يرى فيها أبعاده وملجأه) ص1  هكذا تبدأ رواية {أكفان حريرية} إنها العودة الى الأصل، الى مدينته الناصرية التي غاب عنها، وعاد ليمتحن ذاكرته، وعلى لسان الراوي العليم نستشف، بأننا أمام رحلة الى الماضي القريب، نقلـًب أيامه الحلوة، ومواقفه الصعبة، يستذكرها ويؤرخ لها لئلا تضيع في خضم الحياة المسارعة . تهيكل الرواية  تسعة فصول لها عناوينها التي تؤشر لأحداثها وبواقع 175 صفحة من القطع المتوسط . الفصل الأول يحمل عنوان [الدروس الأولى] نقرأ فيه (كان العالم بالنسبة له لا يتعدى حدود ما تقع عليه أنظاره، أما خلف ذلك فلم يكن واضحا تماما له بعد) ص2 هكذا تبدأ رحلة الطفولة، محصورة بين البيت والمدرسة القريبة ودكان والده أو ما يسميه بالمثلث، ويوما بعد آخر كان يكتشف العالم المبهر له، ويستمع الى زوج عمته المسن وهو يقص عليه حواديت الإنس والجن في العصور الغابرة، كان يتشوق لسماعها شتاء كل ليلة حول موقد من نار ذليلة، حتى يُصدم ذات ليلة بفاجعة فتى وفتاة، فلم يعجبه ما آلا إليه من نهاية، فثار عليه واتهمه بالكذب، والمشاركة بما آلت إليه الأمور . وبعد وفاة والده ولم يبلغ السابعة من العمر (كنت فرحا وأنا أرى كل هذا الحشد يسير خلف نعش والدي، أردت أن أنبه الجميع بصياحي ليرفعوني على أكتافهم مثلما كان يعمل معي، لكن أحدا لم يهتم بي، وبقيت أسير خلفهم مثل كلب) ص12 . هكذا التجأ الى الكتب وأخذ يغيب عن عالمه الجاحد في بطونها ابتدأها بكتب الأسفار والمغامرات وكان يرى نفسه فيها، المغامر مرة والبحًار مرة أخرى وبدأت أحلامه تتوسع ومداركه تتفتح على العالم الساحر والمتناقض والمتناحر، وكانت أيام عاشوراء لغزا لم يتوصل لحل معالمه بعد . في الفصل الثاني [المناقشة وثلاثة أسئلة مهمة] وبعد إنتهاء مراسيم عاشوراء (وهو ما زال يبحث في ما تخلًف في الأماكن والطرقات من أدلـًة وروائح، وكأنها لقوم كانوا هنا وارتحلوا، لقد خيًم الحزن الثقيل على كل شيء) ص26 ورغم انه كان مشاركا فذا في تلك المراسيم، فما ان إنتهت حتى عاد الى عالمه الخاص ليندسً في أحلامه، وفي هذا الفصل يستذكر مدرسته الفيصلية الإبتدائية وما جرى له من مفارقات عوقب بسببها بلا مبرر . ويأخذنا الى بستان خاله حيث مضخة الماء والسباحة في حوضها ليكتشف لأول مرة بأن الحد الفاصل بين الطفولة والنضج قد بدأ هناك (لقد ضاعت أيام الطفولة البريئة الحلوة ولن تعود أبدا، وبعد أن علمت بأن تلك الإمرأة التي أيقظت حواسي الدفينة لأول مرة، ليست أكثر من مجنونة، وأنا الوحيد الذي لم أنتبه الى ذلك خلال أيامي القليلة التي قضيتها ضيفا في بستان خالي) ص36 ، بعدها ندخل في صراع الراوي العليم مع راو ٍآخر تسلل الى السرد لعدم إقتناعه بتحليل الآراء المطروحة ويجد فيها خطلآ ما، وبهذا نجد مَعلمَا جديدا لحرية الحوار، ببلاغة وسبك يدل على مقدرة الكاتب في استنباط اشتغال وسبل متشعبة تخدم النص ولا تـُرَهله ُ، وتعني بالتالي تعدد القناعات والرؤى في التحليل للأفكار المطروحة من شخص لآخر . أما الفصل الثالث [الطوفان] حيث يقول فيه (في يوم ما حدث أمر رهيب لم يكن بالحسبان، تغير لون السماء، تلك السماء الزرقاء الصافية الى لون أصفر، كانت سحابة مقبلة علينا من شمال المدينة ظنناها "العجاج") ص49 إنه الجراد الذي غزا المدينة، فأخذ يطرح تساؤلات كثيرة عن هذا الغازي الفاتك، ولكن هل يفهم الأطفال معنى هذا الغزو (يوم كان الجراد يتساقط تحت أقدامنا كنا فرحين به، أن نحصل على وجبات إضافية مجانا، كان لها حلاوة خاصة، ويوم رأيت المزارع والفلاحين الذين يتصبب عرقهم تحت سياط الشمس الحارقة وسياط المتسلطين على رقابهم، من يستولون على جهودهم لقاء القليل مما لايسد الرمق، لا يألون جهدا في زراعة المحاصيل وتسويقها الى الأفواه المنتظرة، والجيوب المنتفخة على السواء، علمت بأنني ظلمت نفسي وكأنما أضفت دموعا لتلك القطرات من العرق ..) ص61، هذه الصورة الإنسانية الفريدة التي تعني الإحساس بالذنب حين نفرح بما نحصل عليه وإن لم نعرف بأن ما اعتبرناه مكسبا تسبب في أذية اخرين وأضاع جهودهم وسرق اللقمة من أفواههم . هكذا تطرح الرواية مبادئ إنسانية عديدة هنا وهناك إنها من الناس واليهم وهي تلتحم مع المظلومين والفقراء في الحزن وفي الفرح . وينقلنا الى الفيضان الذي حدث، وبتراص الجهود من الصغار والكبار يصبح السد منيعا يدرأ خطورته ولولا ذلك لتسبب في كارثة إنسانية ولأحتلت المياه المدينة فأغرقت الضعفاء ولهدت البيوت على ساكنيها هذا التكاتف هو المطلوب في كل وقت لحماية الجميع . أما (سر القطار المتري) فهو الفصل الرابع، يأخذنا الى أيام محطة أور التي تتشعب عندها سكك القطارات الصاعدة الى بغداد أو النازلة الى البصرة وبالعكس، والتي نسيها الكثيرون ولكن الكاتب إستذكرها لنا من خلال قصة شبه حقيقية تداولها البعض في حينها ورسخت في ذهنه، وهي لشبه أعمى سارق الحقائب الذي دفعت به ظروفه الخاصة التي أودت بحياة زوجته وطفليه وفقدان وظيفته ومعظم بصره أن يتجه الى الإنتقام، ولكنه في الأخير يقع في شر أعماله، ميتة تخلصه مما هو فيه من أذية للمجتمع، رغم أنه في كل سفرة ينوي التوبة من هذا المسك المشين ولكنه لم يفعل (وصل باب القاطرة، سحب قبضتها فانفتحت، كان بانتظار إبطاء حركة للقطار تحدث أمام المحطة لينزل كأي رجل تدرب على النزول، ولكنه سمع لغطا وأحس حركة خلفه، أراد أن يفلت بكنزه، قذف بنفسه من الباب ليبتلعه الظلام قبل أن يصل القطار الى المحطة بثوان، وانتهى كل شيء) ص81  . الفصل الخامس (الطريق الى محطة أور) ومع صديقه، وسيرا على الأقدام باتجاه آثار أور، حيث قبور الأجداد العظام الأوائل، المهملة، والتي حاول النظام الحاقد تغييبها عن الذاكرة، ولكن بطلين من الزمن الفائت وبلهفة المشتاق توجها، وعلى الأقدام ليسيرا خمسة عشر كيلومترا للإطلاع على الحقيقة المرًة، وليتعرًفا على ما عصي َ فهمه في كتاب المدرسة آنذاك، وهما يقضمان الطريق الطويل على خطي سكة القطار المترية، بالقصص والفكاهة وما جرى في حياتهما، إلى أن ( ضاعت من فوهيهما الكلمات، أو أنهما تعبا من اللغو والقراءة على السواء، وبقي كل واحد منهما لوحده وفي عالمه الخاص، تراوده أفكاره أو شكوكه أو حنقه أو أسفه أو ..) ص95 وبعد عناء وتعب، لم يجدا سوى أرض قاحلة وهيكل زقورة متعبه تحفها الرمال ولا من بشر هناك ( أهذه هي النهاية السعيدة، مجرد حجارة فتتها الزمن القاسي نملأ بها جيوبنا، نفتخر بأننا وصلنا الى أرض الأجداد )107 . أما الفصل السادس (صباحكم سعيد) يأخذنا بداية مع [عمي جوعان] رجل ضخم حط في المدينة في غفلة من الزمن قضى وطرا فيها ليصبح رمزا لجياع المدينة واختفى منها فجأة فخلف ذكراه منذ أجيال وكأنه أحد روادها المشاهير . ثم يأخذ بنا الى إستهلاك المدينة وهو شبه خان مكشوف بساحة كبيرة يمتلأ ليلا بالمحاصيل الزراعي التي تأتي بها القوارب، وتفرغ نهارا في بطن المدينة وأطرافها . و نصاحبه ذات ليلة الى هذا الإستهلاك والذي يقع قريبا من الفرات حيث تأتي القوارب محملة بأصناف الفواكه والخضر، لينقله الحمالون والحمالات على رؤوسهم وأكتافهم بدراية الى ساحة الإستهلاك، وهم بألسنتهم يتقاذفون الكلمات بأنواعها الساخرة والبذيئة، وتعاطفهم مع ما يحملون من شبع للبطون الخاوية طوال الليل صيفا وشتاء، وتنتهي رحلة بطلنا بحدوث فاجعة أليمة، وهي جثة مقطعة لمجهول على ضفة النهر وبمسافة ليست بعيدة عن مكان تواجد القوارب التي غادرت فارغة عند الفجر، وكأن الكاتب أراد أن يعلمنا بأن الفرح والألم متلازمان في هذه المدينة، ومنها حادثة هروب الجسر الخشبي ليلا ، وما الى ذلك من إستذكارات (كما كان يرسمها في كراسته المدرسية، دائرة كاملة لوجه فتاة جميلة مبتسمة، وبألوانها المعروفة من أحمر وبرتقالي وأصفر، الألوان الخالدة للشمس، تخرج منها خطوط بالألوان ذاتها، لتقول للبشر الكادحين، صباحكم سعيد) ص132 . الفصل السابع (قدحات أحادية) فهو الحد الفاصل بين الحلم والواقع ، بين حلاوة الطفولة ومرارة النضوج، بين الفرح والجزع، هكذا تبدأ مسيرة جديدة ليست في الحسبان إنه الواقع المر، بعد أن بدأت القدحات تترى في رأسه حين يجد نفسه في عالم كان ساهيا عنه، عالم يحدده ويحصي عليه نبضاته، ويحدد حتى أحلامه (لم يسبق له أن خاف بهذا الشكل الذي يصخب في داخله، كانت جميع أطرافه تنتفض مثل سعفة في مهب ريح شديدة، ودواخله مهزوزة مهزومة، وكأن أشجارا زرعت فيه وأثقلت خطاه، وكأن قطارا سوف يسحقه بعجلاته المتتابعة مثل أسنان تنهش فيه وتفتك به قطعة فقطعة، تعذيب بطيء، وكأن المسافات إستطالت واستطالت، وكأن السوق قد رحل بدكان عمه من مكانه الى جهة غير معلومة أضاعها الليل، وكأن الليل جاء بكامل سطوته المخيفة) ص135 . و (الإب\تعاد عن الطفولة) هو الفصل الثامن يستذكر طفولته وما بعدها بالتدرج الواعي، إختزلها بست صفحات مكثفة مثل قصيدة، حيث تكاثف الحزن داخله ليرثي مدينته من داخله بمرثية قل نظيرها وبكلمات بسيطة جدا ( مازالت الناصرية هي المدينة التي يتكلم من داخلها، المدينة التي تعاقب عليها الإهمال كتعاقب الليل والنهار دون تغيير) الى أن يقول (فكل الدلائل تشير دائما أن لا شفاء لمرض هذه المدينة بتاتا، دون أن يعلل ذلك إلا لأنها مدينة بصلية )ص145 . أما (الصفعة) الفصل التاسع والأخير لهذه الرواية الثرة ونهايتها الأليمة حيث رمي ببطلنا في السجن وكل ذنبه أنه جاهر في الدفاع عن المظلومين  والفقراء في هذا البلد، حيث إنتهى أمثاله ممن قارع الظلم والظالمين وكم الأفواه، هذه الصفعة التي جاءته على أول درب للوعي في تفسير الحالة اليائسة التي يعيشها المجتمع آنذاك . ونقرأ مقتطفات مما جاء فيه (أهرب من أفكاري الى أوراق أسودها، أكتب قصصا وأرسم أشعارا مثل وردة ميتة) ص161 (لاخوف بعد الآن من القصيدة لأنها لاتحمل سكينا بل شمعة لطريق مظلم ليس له قعر، والصعوبة أن نرى منه النهاية)ص162 ( لتتبدل الزنزانات ولتغير الأقفاص ألوانها، فنحن الطيور المحبة للإنشاد {إسأل الشرطي وماذا يريد، وطن حر وشعب سعيد} هو ذا الشرطي السعيد بوضعه القيود بأيادينا .... فهل صادفت شرطيا يضع الأغلال في معصميك وهو يبكي، لكانت مهزلة بحق ولضحك المسجونون كثيرا ولأصبحت نادرة تسلـًيهم في الليالي الطويلة) ص162 . 

إنها قراءة سريعة في رواية (أكفان حريرية) لمبدع من مدينتي لم أتطرق للكثير مما جاء فيها، إنها رواية تحكي حكايات مما كان في مدينة الطيبين، وهي جديرة بالإهتمام .

 

أيـــــاد خضير

الناصرية 11/11/2008

 

.................

* رواية (أكفان حريرية) إحدى روايات الأديب الناصري رحمن سلمان ظهرت بطبعة خاصة، وهي مازالت في دار الشؤون تنتظر الفرج .

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2079 الثلاثاء 03 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم