صحيفة المثقف

العراق والتداولية والوجوه الاربعة: المالكي، الحكيم، البارزاني، المطلك / علي السعدي

أهمية قصوى لشعوبها وبلدانها، وبعكسها القيادات التي تضعها الصدفة أو تدفعها الظروف إلى الواجهة، فتسهم في تدمير بلدها ونكبة شعبها.

لقد إنهار الإتحاد السوفييتي، بعد ان جاء رئيس مهزوز إسمه غورباتشوف، ثم وصلت روسيا إلى الحضيض حين رأسها (يلتسين) أحاط نفسه بمجاميع من السماسرة والفاسدين وذوي الولاءات الشخصية، يومها انهارت روسيا فأصبح أستاذها الجامعي مرتشياً وجنرالاتها تجّاراً مستزلمين لأصحاب رؤوس الأموال، فتهالكت جيوشها وغرقت غواصاتها النووية مع طواقمها فيما فقدت شهاداتها الجامعية قيمتها العلمية .

ثم انتخب الشعب رئيساً شجاعاً اسمه فلاديمير بوتين، واصل الليل بالنهار في عمل دؤوب مع مجموعة من المخلصين لبلدهم، ففرض هيبة  الدولة، واحترام القانون، ثم إستعاد للدولة الشركات الصناعية والنفطية المسلوبة أو المعطلة، فضخ فيها الحياة ودارت عجلة التصنيع وإنعاش الثروات والاقتصاد، ووضع  قوانين للعمل والحفاظ على حقوق العمال، كما صان استقلال القضاء ونزاهته، وبدأ  عملية  واسعة لتحديث المنشآت الحيوية التي أهملت وتآكلت  .

فعل كل ذلك بمعايير دقيقة لبناء الدولة، بعيداً  عن الاستغلال والنهب والفساد التي كانت متفشية في مفاصل روسيا، وما هي الإ سنوات قليلة، حتى عادت روسيا دولة عظمى يحسب حسابها في الموازين العالمية  . 

المهم في مسيرة بوتين الروسي، انه تصرف بذكاء وحكمة مع موضوع السلطة، فعندما انتهت مدة ولايته، ولأن مشروعه للتحديث والبناء لم يكن قد اكتمل بعد، لذا دفع بأقرب أصدقائه وتلاميذه (ميديديف) ليكون الرئيس، فيما شغل بوتين موقعاً كان فيه المحرك النشط لمفاصل الدولة.

لم يصل المالكي إلى أن يفعل للعراق ما فعله بوتين لروسيا، لكن مما لا ينكر على الرجل، انه قطعاً شوطاً في بناء الدولة، رغم مظاهر الفساد واستغلال السلطة والانقسامات التي مازالت تعيق التقدم في عملية البناء، لكن إذا أراد لمشروعه الاكتمال  وللعراق النهوض سليماً موحداً، فعليه أن يكون قاطعاً ويقولها بشكل واضح : سأكون للعراق وليس عليه، وهذا يتطلب تهيئة  المرشح البديل لرئاسة الوزراء منذ الآن .  

 أما إذا أغرته السلطة وسحره الكرسي والنفوذ، فتمسّك بترشيح نفسه لولاية ثالثة،فذلك ما سيدّق إسفيناً في المشروع برمته، إذ سيتحول المالكي من بناء الدولة  إلى نهم السلطة، ومن المنقذ إلى المستولي، ما يهدد بإعادة  إنتاج الدكتاتورية وعرقلة البناء، كما يشوش صورته بنظر شعبه ويرسل أكثر من رسالة خاطئة إلى شعوب المنطقة بأن لا داع لثوراتكم وتضحياتكم من اجل الديمقراطية، مادامت ستنتج دكتاتوريين جدد .

لقد أدى المالكي دوره في الولايتين المتتاليتين، وأثبت انه من رجال الدولة الذين تستمر أدوارهم خارج السلطة، لذا عليه أن يعدّ نفسه منذ الآن ليهيئ بديلاً ممن يرى فيهم الكفاءة والنزاهة لإكمال المشروع الذي بدأه في بناء الدولة، على أن يبقى رئيساً للكتلة التي من المتوقع أن تكون كبيرة كذلك في الانتخابات القادمة، وعندها سيكون لتداول السلطة معنى، وللديمقراطية جذور .

 

2-       عمار الحكيم – حسن النية وتعثر النتائج

عمار الحكيم، شاب مثقف حسن الحديث هادئ الطباع، دخل السياسية من إرث عائلي ديني عريق، لكنه تحمل عبء مهمات كبيرة قبل أن يكمل استعداده للقيام بها.

 لقد فاجأته الأحداث بعد وفاة والده، فوجد نفسه وسط خضمّ،عليه أن يدير مؤسسات سياسية واجتماعية أسسها عمّه الشهيد ورعاها والده المرحوم .

عمل ما استطاع، محافظاً بنسبة ملحوظة على خطّ الاعتدال الذي انتهجه الحكيم الأب، لكن الاختبار الأصعب لبداياته السياسية، جاء بعد الإعلان عن نتائج انتخابات 2010، وما سبقها من مداولات حول تشكيل الكتل .

إصراره على رفض التعاون مع المالكي بداية، كان محقاً مبدءاً، لكنه غير مناسب شكلاً، فموقفه ظهر شخصياً أكثر من كونه سياسياً، ثم جاء تراجعه اللاحق وكأنه (إقناعاً ) ضاغطاً لا اقتناعاً ذاتياً، ليفقد فرصة استثمار الموقف في الحالتين، ثم ازداد الوضع غموضاً بعد انشقاق (بدر) بما تمثله من حضور داخل المجلس الأعلى .

النشاطات الذي يبديها الحكيم الابن بندواته الأسبوعية ولقاءاته المتعددة، لم تؤت ثمارها بعد، ولا يتوقع لها ذلك مادامت تراوح على وتيرة لا تشكّل بديلاً وطنياً يتمثل في مشروع سياسي مكتمل المعالم، خاصة أن الأطراف المنافسة  - الشيعية خصوصاً – عززت من وضعها، المالكي وفريقه في (نجاحات) الحكم – الحقيقية أو الشكلية -  والصدريون بخطابهم الشعبي والأداء النيابي المروّج إعلامياً .

لم يفت الأوان بعد، فالمجلس ورئيسه بإمكانهما طرح مشاريع سياسية برؤية إستراتيجية تخاطب الشعب العراقي على اختلاف فئاته وطوائفه .

هناك ثغرتان مازالتا قيد التجاهل رغم انعكاسهما الفعلي في الواقع العراقي، هما : الغموض في مفهوم الهوية الوطنية – والشكوى من المحاصصة خطاباً، مع ممارستها فعلاً، ما خلق تلك الازدواجية التي لا تكاد تنجو منها أية قوى سياسية في العراق .

المعيب في المحاصصة هو تطبيقها وليس جوهرها، إذ أنها تحولت إلى وسيلة لتقاسم المغانم،لا لتحمّل المسؤوليات وتوزيع المهام .

ما الذي يمنع من جعل (المحاصصة) وسيلة حضارية لبناء عراق جديد يعزز فيها وحدته  الوطنية، ويحدّ من تغوّل طائفيته؟

جرّب العراق مقولات الدولة الوطنية طوال ما يقرب من تسعة عقود، وكانت النتيجة اضطهاد وتهميش لمكونات، واستيلاء واستئثار لأخرى، ما أدى إلى شروخ وتصدعات مازالت تلقي بظلها الثقيل .

يقوم المشروع على تعديل الدستور إلى نظام رئاسي ينتخب فيه الشعب رئيساً للجمهورية لأربع سنوات مثلاً، شرط أن يكون المرشحون للرئاسة من طائفة واحدة لكلّ دورة، ولأن الشيعة يمثلون الأكثرية السكانية، فلا بأس من جعل حصتهم دورتين متتاليتين مقابل دورة واحدة للسنّة العرب ومثلها للكرد، وطبعاً سيكون لرئيس الجمهورية صلاحيات واسعة كما في أي نظام رئاسي .

 

ما المتوقع من ذلك؟

1: استعادة اللحمة الوطنية وسيادة الخطاب الوطني، ذلك لأن المرشحين للرئاسة أو الطامحين الى ذلك، لابد ان يروجوا لأنفسهم بالقيام بزيارات ولقاءات متكررة  لكافة المحافظات العراقية دون استثناء، وسيقدم كل منهم خطاباً وطنياً جامعاً يتعهد فيه الحفاظ على وحدة العراق ودستوره وتماسك شعبه  – الخ، ما قد يؤدي تدريجياً إلى انحسار التقوقع الطائفي أو ألاثني وانفتاح المكونات العراقية بشكل أكمل لمعرفة كل منهم بحاجته إلى الآخر، خاصة بعد توفر الحافز على أسس دستورية واقعية قابلة للتطبيق  .

2: إزالة الشعور بالغبن أو الإقصاء أو الاستهداف، وترسيخ حقوق المواطن العراقي بحظوظه المتساوية للوصول إلى أعلى مناصب الدولة (الرئاسة) من دون منّة أو ضغط أو اتفاقات جانبية أو سرّية تنفرط بمجرد اختلاف الزعامات السياسية، ذلك لأن الحقّ يصبح مقونناً ومصاناً بمادة دستورية تمنع استئثار الأكثرية الطائفية أو القومية بالحكم، لتأمينها أكثرية نيابية في كل دورة، ما يعيد الأمور إلى التعقيد، والمشكلات إلى التكرار   .

3: تقديم نموذج الى شعوب المنطقة – بل والعالم – على أهمية الاعتراف بمكونات الشعب من دون مواربة أو شعارات بلا مضمون، تعتمد على النوايا والمزاجيات، ما يعني رسالة اطمئنان إلى أن الجميع شركاء حقيقيون في الوطن وبرضا واتفاق بين أبنائه،المُعترف كذلك بخصوصياتهم الطائفية أو القومية .

4: افراغ المشاريع الدكتاتورية من مضونها بعد تجريدها أهم وسائلها، ذلك لأن جعل الرئاسة تداولية سيقطع الطريق على بناء الدكتاتوريات أوالتأسيس لها .

ولكي يتخلص هذا المشروع من مفردة  المحاصصة بكل ماعكسته بأذهان العراقيين، لذا يمكن تسميته  ب(التداولية)

أما الطرح الآخر الذي يمكن ان يميز المجلس ورئيسه، فهو تبنيه لمفهوم الأمة بمعناها العراقي والدفاع عنه وتقديمه على شكل مشروع فكري ثقافي سياسي واضح المعالم والسمات، بحيثياته ومبرراته ودوافعه ومن ثم العمل عليه وإنضاجه. 

 

3-        بين البارزاني وياسر عرفات

عبد الرؤوف القدوة أو ياسر عرفات كما عُرف، القائد الفلسطيني الشهير الذي مثّل شعبه طوال عقود، ومارس السياسة بكل إشكالها، فتحول من لاجئ إلى مناضل ثم إلى قائد تعزف له الأناشيد الوطنية ويستقبل رسمياً  كرؤساء الدول، رغم انه لم يكن يحكم دولة .

قضى الرجل حياته وهو يرتدي البزة العسكرية ( الفوتيك ) ويلفّ رأسه بالكوفية والعقال، على اعتبار انه يعيش مرحلة تحرر وطني من احتلال استيطاني،

لكن ما يسجّل للرجل انه لم يلجأ إلى الإرهاب، حيث بقي يمارس الثورة على أصولها ومبادئها، والسياسة بمهارة وقدرة، كي يقود سفينة شعبه وسط إعصار هائل من التناقضات العربية الحادّة وانقسام العالم إلى معسكرين متناحرين .

هاجمت مجموعاته، أهدافاً  إسرائيلية منتقاة،  لكنه لم يفجر سيارة في سوق ولم يزرع عبوة في مستشفى أو مدرسة، أطلق عليه لقب  (أبو عمّار) تيمناً بعمار بن ياسر التقي المعذب ووالده الشهيد في سبيل إيمانه (ياسر) .

أخوه فتحي عرفات، طبيب جراح تسلم مسؤولية الهلال الأحمر الفلسطيني وجعل منه مؤسسة طبية ناشطة تقدم خدماتها للملايين من المرضى في داخل وخارج الأرض المحتلة،  ليس له ابن أو ابن أخ أوكل له دور قيادي أو سلطة ما .

لكن ما الذي يجمع ياسر عرفات  مع مسعود البارزاني وابنه مسرور وابن أخيه نيجرفان؟

لاشىء على وجه التحديد، سوى إصرار البارزاني على ارتداء البدلة العسكرية ولف الرأس (بالجراوية) في إيحاء مقصود على انه يعيش المرحلة التي عاشها ياسر عرفات،  وبالتالي فهو يواجه ( استعماراً استيطانيا ) كما فعل أبو عمار .

لايهم المقارنة بين إسرائيليين حضروا من كل بقاع الأرض ليشردوا شعبا من وطنه  ويحتلوا أرضه، وبين العراقيين سكان هذه الأرض الأصليين وبُناتها التاريخيين، كذلك لا معنى للمقارنة عند البارزاني بين وطن يعيش فيه العرب والكرد منذ آلاف السنين ومعترف به  ضمن جغرافية موحدة، وبين كيان وجد بالقوة والاغتصاب يقوم على دعاوى دينية مختلقة .

لا فارق بين شعب فلسطيني يبحث عن مكان تحت الشمس ولا ينتمي إلى دولة ذات سيادة، وبين شعب كردي هو جزء رئيس من دولة ذات موقع مؤثر في منطقتها والعالم، بين بحث عن هوية، وبين نزعات انفصالية تلبية لطموحات خاصة، بين من يريد وضع شعبه على شاطئ الأمان كما فعل ياسر عرفات، وبين من يريد زجّ شعبه في أتون نار قد تحرق كلّ ما حصل عليه، ولن تكون نتيجتها سوى خراب ودمار من دون أن يجني شيئا أكثر مما هو فيه اليوم .

ذلك حارب إسرائيل، وهذا تعاون معها، ذلك سياسي  مناضل، وهذا سياسي انفصالي يتصور السياسة كما يتوهمها  .

لا شيء يجمع بين  ياسر عرفات ومسعود البارزاني سوى الإصرار على لبس البدلة العسكرية واليشماغ، في إيحاء البارزاني  غير الموفق، بأن كلاهما يواجهان عدواً استيطانياً، لكن كل من الرجلين انتهى دوره، ذاك غيبه الموت قائداً، وهذا ستغيبه السياسة (متهماً ) . 

 

صالح المطلك – أغنية فيروزية وقصة إدغارية

من الصعب الكتابة بحيادية عن هذا الرجل، فقد يعجبك خطابه الوطني لحظة الصفاء، فتعتقد ان سلال العراق ستمتلئ بالثمار، ودفاتره بالقصائد، لكن وعلى غير انتظار، وكأن فيروز تقصده بأغنيتها (يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً – كعاشق خطّ سطراً بالهوى ومحا) فهو وبتصريح ناري، يمحو ما خطّه في العراق ليعيد الجملة من أولها، فتحار أيهما الصحيح، الجملة الأولى على انسجامها ؟ أم الثانية على نشازها ؟ وأيهما صالح المطلك؟ الوطني العراقي ؟ أم ألبعثي ألصدامي ؟ الذي ينتقد دكتاتورية المالكي بدافع حرصه على الديمقراطية ؟ أم المدافع عن دكتاتورية صدام بدافع انشداد طائفي ؟ لتستنج بالنهاية، انه ربما يشبه تلك الشخصية الأنيقة التي التقاها بطل قصة ادغار الآن بو (تار) فشدّته بحديثها الناعم الجميل وأسلوبها السلس الرصين، ثم فجأة ومن دون سبب، قام المذكور بقلب إناء الطعام  ليقرع الطاولة بوجه ضيوفه .

المطلك لم يكن مخطئاً باتهامه رئيس الوزراء بالدكتاتورية، فقد بات الجميع يدرك نزوع المالكي، وان أتيحت له الظروف أن يقيم دكتاتورية حزبية نزولاً إلى عائلية ثم فردية كما تسلك الدكتاتوريات في العادة، فالأرجح انه لن يتوانى عن  ذلك،  لذا على المطلك أن لا يتراجع عن تصريحاته، بل يطورها في معللات مقنعة وأسباب واضحة جلية لا لبس في توجهاتها العراقية الوطنية، فلا تظهر وقتية أو انفعالية، بل جزءاً من مشروع وطني سياسي هدفه تعميق الديمقراطية ورسوخ مبادئها . 

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2080 الاربعاء 04 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم