صحيفة المثقف

عندما يطرق الشعر أبواب الأسطورة .. قراءة تأملية لقصيدة الشاعرة العراقية المغتربة وفاء عبد الرزاق: "جواب كلكامش لي"

يتجسد أمامنا مصطلح المورفيولوجيا أو ما أتفق على ترجمته أنه الفوز بالتعبير عن جسامة الواقع الذي نعيشه جميعا وهو ما جعل الشاعرة تستخدم هذا الأسلوب للتعبير عن إحساس أكثر تعقيدا في نص باذخ إمتلك قواسم مشتركة بين الأسطورة السومرية الشهيرة والواقع المعاش حاليا ، وهي أي الشاعرة حينما تلتقط تلك القواسم فإنها تمنح بعدا دراماتيكيا موصولا بين ما كان يبحث عنه كلكامش وما نبحث عنه الآن بلغة واقعية لانغالي إذا قلنا أنها جديدة وذات قدرة لاتخطئ في وضع تجربتها الفردية في سياق أوسع من خلال الارتباط بالأسطورة كونها إبنة بلد مَلك الحضارات منذ خط أول حرف في هذا الكون ، فلا غرابة أن تستجير بها وبشخوصها الذين يعرفهم العالم من خلال ملاحمهم البطولية العظيمة ، ولهذا فهي تكتب الشعر بإيقاعية حادة واضحة مع ملاحظة تجربتها الشعرية السابقة في بناء هيكل معماري قوي يربط بين الماضي والحاضر ، وتعترف الشاعرة في سياق ردها على أحد التعقيبات على قصيدتها هذه أن كلكامش كان يبحث عن خلوده هو كحاكم ونحن نبحث عن خلود لشعوبنا ، من هنا يتضح أن كلكامش لم ولن يكون المُخلّص الذي نستدعيه في عقولنا وأحلامنا ليزيح عنا همومنا ويمسح جراحاتنا ، وقد يكون للأسطورة متنفسا لمشكلات أخرى كما في أودنيس أو تموز التي ترجمها جبرا ابراهيم جبرا عام 1957 فوجد فيها السياب ضالته المنشودة للتعبير عن مشكلاته الذاتية ومشكلات عصره ، فقد وظف اسطورة عشتار في قصيدته الرائعة " ليلة في باريس " حيث يربط فيها بين حبيبته العراقية وعشتار للتعبير عن عواطفه الذاتية فيقول :

تأتين أنتِ من العراق / أمد من قلبي طريقه / فأمشي عليه كأنما هبطتُ عليه من السماء / عشتار فانفجر الربيع لها وبرعمت الغصون / توت ودفلى والنخيل وبطلعه عبق الهواء / وهو الأصيل وتلك دجلة / والنواتي الخفاف يرددون / يا ليتني نجم الصباح .

أما قصيدة ت . س . اليوت " الأرض الخراب " فقد تأثر بها جمع كبير من الشعراء لأنها أثارت فيهم الإحساس بمأساة العصر وذلك بتوظيفه لأسطورة أودونيس وأوزوريس ولاتزال هذه القصيدة تثيرحنينا سحريا لكل من قرأها ، لكن شاعرتنا أثارت فينا سحرا آخرا بأن جعلت من كلكامش المتكلم عن ما أثارته هي من شؤون وشجون حينما قال لها :

أيتها البتول / صاعد إليك بوجهي الكتوم / وحنجرة قديمة / بين الباب والجرس مطر / لم يكتشف هويته بعد / هذا أنا / في الركن أخاف اللمس / وتجوال نظرة في عين جائعة / حميمي لم يزل باشتعاله / عباءاتك / ناضجة بقسوة الشتاء .

من يطالع مبتدأ القصيدة ب أيتها البتول يتراءا له وكأن كلكامش ينادى على المرأة العربية الطاهرة المطهرة التي انقطعت عن نساء زمانها فضلا ودينا ، أُم نقية وزوجة وفية وحبيبة مخلصة ، شاعرة تمسك بالقلم لتكتب للوطن الجريح فهو يصعد إليها دون أن ينظر أيا تكون فصوته قادر أن يصل لها مع أن بين بابها وناقوسه مطر .

في المقاطع العشرة الأولى من القصيدة تحدت الشاعرة القيود المفروضة على الشكل النثري الشعري في فتح نوافذ واسعة للصورة اللغوية الحديثة كما أسميه ، أو كما يطلق عليه الإنكليز بالتطور النثري الذي يغير عادة من القوالب الجاهزة أو الطارئة على النص حيث يمكن أن يُفهم الخيال فيه على أنه خطاب مكتوب وهو ما أكدته الأبيات الخمسة الأخيرة من مفتتح القصيدة وأعني بها :

في الركن أخاف اللمسَ / حتى : عباءاتك / ناضجة بقسوة الشتاء ،

ويستمر كلكامش يجيب البتول عما أجاش نفسها من هموم :

العابرون شبه منطفئ / وأمسية لرصيف خشبي / أعمق من عزلة مجنونها المائي / وأنا أخيب من طفل / قشر قمح صباه / وجمر مهده بحسرة بتول عنيد / أي طائر يرى قشرة الأرض ؟ / صليت على سفني / فلا عاصم سوى جديلتكِ / رأيتني أودع طفلا كنته / وطفلا جمع من كل غربة / زوجين اثنين / اشتهي لقاح كفيك / وخوفا / من اسئلة الحروب اعتمرت بكِ / لعلي أصير قليلا / كيف ألائم نفسي / في حوار يعتذر؟

هذه الصور التي قصدتها تعطينا من حس الشاعرة المتوقد للهفة الإجابة أبعادا قد نخترق معها حجبا بعيدة ، فهي تأخذنا إلى أماكن كانت مجهولة الرؤى استقرت عليها نفوسنا بعد أن غادرنا مقهورين عالمنا ذاك الذي احتضننا أطفالا حتى صرنا في عالم آخر ننظر إليه بحسرة ما فقدنا وهو ما قاله كلكامش للشاعرة بقوله : العابرون شبه منطفئ / وأمسية لرصيف خشبي ، ولا أجد أحسن

قولا مما قاله شاعرنا الكبير يحيى السماوي بحق هذه المقاطع بالذات من القصيدة تعليقا عليها : ( هكذا إذن تصبح عشبة كلكامش أن يجعل من قلبه سفينة نوح جديدة .. سفينة يجمع فيها زوج من كل غربة إذ يبدو أن الغربة غدت المعادل الموضوعي لعشب الخلود .. الخلود لابمعناه الفقهي ، إنما بمعناه الوجودي ) ، ولايزال كلكامش في جوابه يطمأن الروح أنه لم يعتزل وجودها لأنها زاد الله أينما تحل ُ ، ومع أنه يخاف ظنها أن يخذلها فهو يطمأنها أنه لن يعتزل قيامتها ويقينها يجعله فاصلة بينهما لكنه يعود ليخبرها أيهما يشبه بعض يقينه أم يقينها ؟ :

يا زلزلتي المختزلة / حبيبك المائي / خائف الظن / لم أعتزل قيامتك ِ / محبرة الأرض صحن / وأنتِ زاد الله / دمي واضح / وأخطاؤكِ أصابع طفل / من ألف لاجئة / حتى ياء طموح / لف لفته كتبغ محترق / وقهقه أصفر الاحتضان . / يا عذاب بتولي / وبتولي العذاب / اليقين فاصلة لاتدري / لاتخربي الصورة / إنه شفاف تجهش عينه بالجمر / أنتِ قلبه الذي يخشاه / وهو قلبك المفضوح / فمن يشبه من ؟

في هذه المقاطع الشعرية أو الأبيات التي أجاب بها كلكامش نتعرف على عدة رموز حاولت الشاعرة استظهارها ومع أنها سمة مشتركة بين غالبية الشعراء على مستويات متفاوتة من حيث الرمز البسيط إلى الرمز العميق كما يقول الدكتور أحمد الزعبي ، فقد اختارت شاعرتنا رموزها بعناية سيطرت على لغة القصيدة بشتى صورها المجازية والبلاغية والإيحائية تعميقا للمعنى الشعري ومصدرا مهما للإدهاش والتأثير وتجسيدا لجماليات التشكيل الشعري كالإختزال في الزلزلة الذي يتبعها خوف وقيامة وصحن لمحبرة الأرض واحتضان وعذاب ويقين وجمر وقلب مفضوح ، كل هذه الرموز وظفتها الشاعرة بشكل ينسجم وجواب الأسطورة باتساق فكري دقيق ومقنع أسهم في الارتقاء بشعرية القصيدة وعمق دلالاتها وشدة تأثيرها في المتلقي .

في نهاية جوابه نقرأ كلماته على أنها حوار دائم ما زال له بقية حتى يعيد الآخر فيهما أي كلكامش المتكلم والشاعرة التي استجارت بالرمز أيهما يصبو لأن يقوم من مرقده هذا إلى حياة أخرى ليس فيها كل هذه العذابات :

أيتها الطفلة الغاضبة / لاتعبثي باشتهاء ملائكي / ما زال الحوار / أنا / هي / متى / ومن يعيد الآخر فينا / ويصبو للنشور ..

 

أحمد فاضل

 

للاطلاع

 جواب ?لـ?امش لي / وفاء عبد الرزاق

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2081 الخميس 05 / 04 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم