صحيفة المثقف

حَلقةٌ مُفْرَغةٌ / دينا نبيل

    

من خلفِ السّتارِ لاحتْ على زُجاجِ النافذةِ تلك الصُّورةُ التي تغبّرتْ .. لا من التُّرابِ العَالقِ على الشِّيش كالعادةِ ، ربّما بسببِ ذلك الإطارِ الذي حاولتُ على مرّ الأسابيع الماضية أن أستعيدَهُ .. أجترّه ، فيأبى إلا أن يتقزّمَ ليتوارى في زاويةٍ حادةٍ من ذاكِرتي .. أخشى انطبَاقَ فكّيها فتقصِمني .. وتُلقي بي في زوبعَةٍ تشُدّني إلى قَاعِها .. بحلقةٍ مُفرغةٍ ..

حلقة .. تصنعُ الإطارَ ..

...

مُفرغة كالعدسةِ التي أمسكتُ بها منذُ أسابيع .. في وسطها تقوقعَ ذلك الصّغيرُ كحلزُونٍ تحت سريرٍ قديمٍ .. زائِغَ العينين .. حابِسَ الأنفَاس كما طلبتُ منه ، والسريرُ كالجاثِمِ على ظهرهِ يزنُقُه في أسفلِ الحلقة .. تَسيلُ على رأسِه قطراتٌ حمراءُ متقّدةٌ .. وكفاه كالكعكةِ الصغيرةِ يرتجفان .. يكادان يتفتّتان بينما يتشبثانِ بالأرض ! ..

...

" واحد .. اثنان .. ثلاثة !

انتهينا ..

هاكَ الشطيرةَ ! .. كما اتفقنا !"

وضعَها بجانبِه ! .. خلتُه سيلتهمُها التهاماً ، نعم لم تكن طازجةً ، لكن ظني أنهُ لم يأكُلْ منذ أيّام ..

أنّى له ذلك ، وأعلى السريرِ يرقدُ والداهُ جنباً إلى جنبٍ وقد قُطٍّعتْ أطرافُهُما واختلطتْ معاً في بركةِ دماء تجمّعَ حولها الذُّبابُ ؟! ..

الصّورةُ حارةٌ حرارة تلك الدماءِ المتقطّرةِ ..

طازجةٌ طزاجة إحساسِ الخوفِ .. الترقّبِ .. وعينين انطفأ منهما النورُ .. لم يبقَ بهما سوى ظلامٌ آتٍ مجهولُ المدى !

 

تسمّرتُ أمامَه وأنا أشعرُ نحوه بالدَّينِ الكبيرِ .. لم تكُنْ تلك الصورةُ التي أهداني حيويةَ نبضِها مجرد صورةٍ إشهاريةٍ في جريدةٍ من جرائدِ المُعارضةِ ، وإنما صُورةٌ ستعبرُ إطارَها لتجُوبَ كُبرى المعارضِ ، ربّما طمعتُ أن تستفزّ مشاعرَ العالمِ كصُورةِ الفيتناميةِ *كيم فوك لتُنهي حرباً رعناءَ .

ربَّتُّ على كَتفه .. " لا تقلقْ .. قريباً سينتهي كلُ هذا ! "

قطعتُ له لقمةً من الشّطيرةِ ، ووضعتُها في فمه .. لم يُحركْ ساكناً

هو لا ينطقُ .. رأسُه منكّسٌ ، لا يلتفتُ حتى !

...

غطّيتُه ببطّانيةٍ .. وخرجَ أمامي من البيتِ .. خُطواتُه مُبعثرةٌ ككرارِيسِه هُنا وهُناك .. تائِهةٌ كلوحاتِ بُيوتٍ لم تكتملْ بعد وأطفالٍ بلا ملامحَ ونبتاتٍ دُهسَتْ بالأقدامِ .. رسمَتْها يدٌ لا تُحسنُ خطَّ القلمِ .

وعندَ الصَّليبِ الأحمرِ .. في سجلٍّ كبيرٍ تمّ إدراجُ اسمِه ، وزَميلي بجانبي يُقيّدُه في دفتَرِه رقَماً .. واختفى بينَ رُؤوسٍ وأجسادٍ متشابهةٍ في الحجمِ واللونِ .. لتنقلهُم عرباتٌ رماديةٌ كبيرةٌ ..

هذا هُو سلاحي الوحيدُ إذن ! ..

هنا داخلَ تلك الآلةِ المُزعجةِ .. التي تقتحِمُ العامَ والخاصَ !

أحتضِنُها .. أخبئُها داخل سُترتي بعدَ أن حبسْتُ في بؤبؤها لحظةً وإلى الأبد .. كمْ أصيرُ صيداً ثميناً وأنا أحملُها ، وأعدوا مع زُملائي في شوارِع ما يُمكنُ القولُ عنها أنها لا أكثرَ من حطامٍ لمدينةٍ .. ساعتُها لا نعبأُ إن كان شريطُ ألوانٍ معتمٍ في صُندوقٍ أسودَ صغيرٍ أكثرَ أهميّةً من ألوانِ طيفٍ تعجّ بها السّماءُ!

السّماءُ سقطَ عنها شمسُها وقمرُها .. ترتفعُ عن الأرضِ .. تعلُو .. ترتجّ من أزيزِ طائراتٍ تتعقبّ اللاشيء .. والأرضُ جُنّ جنونُها .. تتقاذفُنا من على ظهرِها المُخرّقِ بالرّصاصِ الطّائشِ! ..

فقط هي بضعةُ أمتارٍ ! ..

بضعةُ أمتارٍ ونصلُ إلى مقرّنا لنُخرجَ تلك المُنمنماتِ التي في حوزتنا ..

لم يكن سوى ذلك الحَاجز القاسِي كالصُّلبِ الذي ظهرَ فجأةً أمامَنا .. حائلٌ ضبابيٌّ حارقٌ اصطدمنا به كفَراشٍ هائجٍ .. وارتددنا ..

اصطدمنا وتساقطنا ..

وتوقّفَ كلُّ شيءٍ ..

وتوقّفَ الزمنُ عدا عَجلة ذاكرتي المُفكّكة ..

تتحركُ ببُطئٍ شديدٍ وسطَ غماماتٍ .. تستجمعُ تروساً مُكدسّةً مشحُوذةَ الأسنانِ .. صُندوقاً أسودَ به شريط ملفوف .. سريراً يقطرُ .. حلزُوناً صغيراً!

بارْتجافٍ .. العجلةُ

تدورُ .. !

وتعودُ تدورُ ..

وتدورُ حولي أرجاءُ غرفةٌ لا أعرفها ..

أفيقُ على ...

" تلك هي صورةُ السّاعة ! ..

واحد .. اثنان .. ثلاثة ..!"

ووميضٍ ..

وأقمطةٍ .. تلفُّني من رأسِي حتى أُخمصِ قدمي كالمُومياءِ ومَشدّاتٌ تُصلبّني كدُميةٍ بلاستيكيةٍ .. أردتُ أن أفتحَ فمي .. أسألُ عن ( كاميرَتي ) ..!

أنفاسي مُتوهجةٌ تخرجُ بضيقِ ثقبِ آلتي المفقودةِ !

الأصواتُ حولي تغمغمُ .. تتعَالى .. وعيناي حُبيسِتا المحجَرين ، أصحابُ المعاطفِ البيضاءِ يهرعُون بسرعةٍ بين الأسِرّةِ ..

هممتُ أن أزعقَ .. باسمي .. بصُورتي الضائعةِ !

انحشرَ صوتي بين حلقي وخُرطومٍ دقيقٍ خارجٍ منهُ ..

..

بينما الطّبيبُ يقيّدُني في سجلِ المفقُودين رقماً !

----------

*كيم فوك : صاحبة الصورة التي هزت العالم عام 1972 ، في حرب فيتنام ، وفي الصورة الشهيرة كانت الطفلة – كيم فوك - تركض عارية فزعة تحت قنابل النابالم الحارقة المحرّمة دولياً.

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2085 الاثنين 9 / 04 / 2012)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم