صحيفة المثقف

لوطنة العالم

 على نحو بريء ندي كالجنة

هريرت فيشته

 

شكلت الخطابات الثقافية في العالم العربي، تأويلات متعددة عن العلاقة بالغرب وبالذات الخطاب الروائي، فمنذ (عصفور من الشرق) توفيق الحكيم و(موسم الهجرة الى الشمال) الطيب صالح و(الحي الللاتيني) سهيل ادريس، رسمت هذه النصوص الروائية صور افتراضية (هويات جماعوية) بشأن الغرب وهي جزء من الانفعالات المريعة للحركات القومية واليسارية والاصوليات الدينية، هذه الاعمال الثقافية كتبت في عصر الدولة الوطنية العربية وخطاباتها الثورية، في هذا الفضاء الايديولوجي حددت احكام مسبقة ومستديمة للتعارض الجذري بين الشرق/ الغرب، واسست ثيماتها المركزية وفق علاقات جنسانية افتراضية (ذكورة/ انوثة) ذكورة الشرق/ مقابل/ انوثة الغرب لم تكشف هذه الاعمال الثقافية الاشياء الكامنة في الغرب الكوني، (الميراث الحضاري، الدولة المؤسساتية فصل السلطات، سيادة القانون، التعددية السياسية والاجتماعية والفكرية وتنوع الهويات).

 

وبهذا النسق جاءه مشروع (ديوان الشرق – الغرب) المدعوم من قبل معهد غوتة وبرلينر فستثيله وكلية العلوم البرلينية ليعد بناءات العلاقات الحضارية والثقافية، هذا المشروع قائم على جمع اديبين من عالميين مختلفيين (عربي/ الماني) حيث تجري عملية استضافة متبادلة لفترة زمنية، حيث يزور الكاتب العربي بلد الكاتب الالماني ثم يزور الكاتب الالماني بلد الكاتب العربي وتجري نشاطات ادبية ومجتمعية، بهدف اقامت حوار ثقافي بين الكتاب والمثقفين والمفكرين.

 

وقد تم اختيار الكاتب الروائي اللبناني رشيد الضعيف مقابل الكاتب الالماني يواخيم هلفر، بعد انتهاء فترات الاستضافة المتبادلة اصدر رشيد الضعيف كتاباً وهو عبارة عن نص روائي وتقارير وملاحظات أي كتاب متعددة البنية السردية بعنوان (عودة الالماني الى رشده) في حين كتب يواخيم هلفر كتاب (خطاب مقابل خطاب) تعليقات حول كتاب رشيد الضعيف، هذه التعليقات والملاحظات والنص القصصي صدرت بعنوان (لوطنة العالم) وهي تعكس بدوره ذاتية كل منها ومعارفة المسبقة واحكامه ومنظوراته الفكرية والسياسية والانساق الثقافية التي ينطلق منها.

 

العقل العربي القطيعي

عندما يتصل توماس هارتمان مدير برنامج حوار الشرق/ الغرب بالكاتب الروائي اللبناني رشيد الضعيف وهو استاذ اكاديمي وكاتب تنويري يساري فضلاً عن ذلك انه خريج احد الجامعات الغربية يزوده بمعلومات تفصيلية عن شريكه في الحوار الثقافي الكاتب الالماني يواخيم هلفر قاص وروائي مسرحي ذو ميول جنسية مثلية..

 

وقد هيمنة هذه الثيمة (الهوية الجنسية البيولوجية) على تفكير الروائي رشيد الضعيف، جاعلاً منها البؤرة المركزية في ملاحظاته واحكامه الشخصية والثقافية لتخليق قطيعة مع الاخر الالماني ووضعه كشخص بشري ومجتمعي وثقافة وحضاره في موضع الشك والتساؤل والعداء المضمر للمثلية الجنسية، حيث لم يعالج الروائي اللبناني في عمله السردي وحواراته الثقافية المعطيات الحضارية للكون  الثقافي للمجتمع الالماني ولم يذكر الادب والفكر والفلسفة. وانما تحول المشروع التثاقفي والحواري (الالماني/ العربي) الى نقطة تتمركز حول ظاهرة هلفر المثلي. بما فيها بناء ستراتيجية تسمية النص السردي والذي اخضعه الرشيد للتغيرات الواقعية في حياة هلفر اليومية والواقعية خلال اقامته في بيروت، حيث يلتقي هلفر في بيروت بصحيفة المانية ويحدث نوع من الانسجام والزواج. يوصف رشيد الضعيف هذا الحدث بوصفه عودة الى الرشد من عالم الهوية الجنسية المثلية الى عالم الهوية الجنسية الغيرية فمن خلال النص السردي الروائي والتقريري نكتشف حجم تجذر رشيد الضعيف (الاكاديمي) التنويري، اليساري بالفضاء الفكري التقليدي فضلاً عن احكامه المسبقة والمناهضة للمثلية الجنسية، حيث يمارس النقد اتجاه التصورات الاخلاقية للمجتمعات الغربية من منظور الثقافة العربية. فهو يقدمها مطبوعة بكثير من الفجور ويعدها انهيار للمجتمع بحد ذاتها. اضافة الى ذلك يوصف المثلية الجنسية والتي هي جزء لا يتجزأ من الحريات الفردية والتي تصل الى حد القيم المقدسة في المجتمعات الاوروبية. حيث يتم الفصل بين العام والخاص بوصفها رمزاً للازمة الحضارية لهذه المجتمعات بل ان ذهنية الروائي رشيد الضعيف متوجسة دائماً من احتمال قيام هلفر بالتودد اليه وهي جزءاً من اسلوب يتربص في المخيلة العامة للمجتمعات والانتلجتسيا العربية وعندما يلتقي رشيد الضعيف بالمفكر المصري نصر حامد ابو زيد في المانيا يخبره انه بدعوة من برنامج ديوان الشرق/ الغرب وحين يسألة عن الكاتب الذي سيعمل معه اجابه بانه (كاتب مثلي) لكنه لم يشأ ان يقول (لوطي) لانها تحمل دلالات سلبية. فاستعمل كلمة (مثلي).

 

الحيادية المستحدثة في اللغة العربية، لكن نصر حامد ابو زيد سمعه يلفظ مثلي لا مثلي أي بدون الشده على الياء فسأله مستفسراً: مثلك؟ سارع رشيد الضعيف الى النفي والتوضيح كمن داهمه الرجس والدنس،< اردت فوراً الا يبقى في ذهنه بقية من شك>.

 

ان هذا الحادث فضلاً عن النص السردي يحمل في ذاته ادانة كاملة لاخلاقيات الحداثة الغربية المتنوعة وهي جزء من الثقافات الذكورية للوعي العربي والتي تقوم بناءاتها، على معادلة <العلاقات الجنسية هي علاقة ولوج، واختراق وسيطرة وهي عودة الى عالم ما قبل الحداثة بوصفها معطى طبيعي وليس نسقاً انتربولوجيا..>

 

ان رشيد الضعيف يحول جسد يواخيم هلفر الى نظام من العلاقات الدالة المنتجة للمعاني السليية حيث لم يستحضر الانساق الفكرية والاقتصادية والفلسفية الحافة بالجسد الانساني (الذكوري/ الانوثي) والعلاقات القائمة بين الفرد/ المجتمع أي الفضاء الجماعي للجسد يقول هلفر: اما واني قد اضحيت الان كشخص وليس ككاتب موضوعاً للتبادل الثقافي فهذا امر لم اتوقعه لكنه لا يضير في طالما يخدم المعرفة رغم ان كلانا ليس الممثل المثالي لمجتمعه في نهاية الامر لا يستطيع ان يقوم أي منا بتمثل وضعيته ثقافية بشكل مطلق.

 

وهنا نكتشف من خلال النص السردي الثقافي ان المجتمعات العربية تفتقد للتمايز الوظيفي بين ماهو بيولوجي وماهو اجتماعي، حيث يتم تحويل البيولوجي الذكوري (الطبيعي) الى امتيازات هوياتية ودينية وهيمنة وتسلط لتكريس دونية الاخر (المرأة، الاوربي، الغرباء ، المثليين ،> والسبب يعود الى غياب البناءات العقلانية الفكرية في العقل العربي انه يقوم على ثنائية مانوية متشددة بالتمركز حول الهوية الجنسية اما انوثة مطلقة واما ذكورة مطلقة.

 

فالبنية العقلية البيطرياركية والثقافة العربية بشكل عام تمنع رشيد الضعيف من اعادة انتاج الادوار والهويات الجنسية حيث يرى (ان الفراش هو المكان الذي يقوم عليه الصراع الفعلي بين الشرق والغرب وهو احد الجبهات المفتوحة) ويعيد الثيمات المركزية في السرديات الروائية للدولة القومية العربية.

 

خطاب مقابل خطاب

يرى هلفر انه من خلال الادوار والهويات الجنسية يمكننا معرفة الكثير عن المجتمعات، صراعاتها الداخلية، تصوراتها العقلية، انساقها المتخلية، شكل العلاقات الخفية، حيث ان رشيد الضعيف يتعامل مع المثلية الجنسية للكاتب الالماني يوخيم هلفر بدون تعريفات وتحديدات. وهنا يكشف التباسها في الحقل الثقافي والمجتمعي العربي. لكون الضعيف ينتمي الى جماعات بشرية  تعاني القحط الثقافي وتتعامل بنوع من الخرافية المعادية للعقل والانسان مع الهويات الجنسانية، يبين هلفر (ان احتقار المثليين في العالم العربي لا ينفصل عن احتقار المرأة) حيث ان الثقافة العربية تخبئ في طياتها الكثير من نقاط النقص في النظام السياسي والذي لا يزال عاجز عن تقديم حقوق البشر الا وفق انتقائية تشترط عدم التعارض مع النظم الدينية والتقليدية واحياناً حسب مقتضيات السياسية والتميز العنصري، ويحدد

 

هلفر ان المجتمعات العربية والثقافة العربية لا تتمكن ان تطور كينونة الانسان الا بعد التحقق من هويته الجنسية لانها قائمة على منظومته من المعادلات القروسيطة المعادلة الاولى.

 

رجولي = مولج = غيري الجنس = متفوق، والثانية، أنثوي = مولج بها = مثلي الجنس= ادنى منزلة، وفي هذا تفاضل للذكر على الانثى، وامتياز يعطى في السرير للمولج على حساب المولج به. وهذا من شأنه ان يعكس ما تعانيه المجتمعات العربية حصيلة قرون طويلة من الانغماس في العتمة والتخلف الذهني والخوف ، من المرأة، التي وان وضعناها امام وجوهنا، او اجسادنا العارية، فسنجد في ذواتنا خوفاً من مثلية، او من احتمال وجودها، وهو خوف غير مبرر في كل حال من الاحوال، ذلك ان الكثيرين من المشاهير والفنانين والسياسيين كانوا مثلي الجنس، وهذا الامر لم يقلل من شأنهم او دورهم الاجتماعي على الاطلاق، اكثر من ذلك يعتبر هلفر  الكتابة بمثل هذه المقارنة الدفاعية، امراً يشي بانه يحاول رفع المثليين الى مستوى حق البشر العاديين، وهذا ما لا اجده لائقاً ههنا، لانني اؤمن بان هؤلاء لا يحتاجون الى من يبرر وجودهم في المجتمعات، اكثر مما يحتاجون الى تجاوز هذه المجتمعات سؤال حقوقهم المدنية والسياسية، وضرورة اقرارها كاملة بلا أي تحفظ، وهم الموجودون دائماً، الى جانبنا كشركاء لنا، بل فلنقل اننا الموجودون كشركاء لهم: الاسكندر المقدوني، فاتح معظم بلاد العالم، فريدريش ملك البروسيين العظيم، كريستينا ملكة اسوج في القرن السابع عشر، الامبراطور الروماني ادريانوس في القرن الاول للميلاد، الملك الفرنسي هنري الثالث في القرن السادس عشر، اضافة الى ليوناردو دافنشي، وميشال فوكو، وادباء امثال اندره جيد واوسكار وايلد وبول بولز، وموسيقيين مشاهير امثال التون جون وجورج مايكل، والممثل راندي هاريسون، من المؤكد ان القاموس الانساني يضم اسماء مثليين كثر ممن اثروا تاريخ البشرية وتطور ذائقتها الفنية وخياراتها السياسية والاجتماعية، لكن كما تقول الجملة المعروفة فان المجال لا يتسع لتعدادها هنا ان الخطابيين الثقافيين خطاب الروائي رشيد الضعيف (عودة الالماني الى رشده) والخطاب الثقافي لـ يواخيم هلفر (خطاب مقابل خطاب) يقدمان محصلة فكرية حول استحالة التعايش في نمطين من البناءات. مجتمعات ما قبل الحداثة/ مجتمعات الحداثة وهنا يكمن تقاطع الثقافات وذلك ان الخطاب الثقافي العربي ينطلق من العلاقات البيولوجية/ الطبيعية، الجسدية لتحديد هويات سياسية، اجتماعية، فكرية خطاب يلوطن  العالم ويعهر العالم من اجل تأكيد الذات وتضخيم الانا.

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1193 السبت 10/10/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم