صحيفة المثقف

نافذةٌ للوجد: حينَ يخضرُّ العطر / محمد صابر عبيد

حين ينجح المرء فجأةً في التقاطها فإنها ستتجذّر فيه، وتستعمر حواسّه، وتصبح جزءاً لا يتجزأ من كيانه الوجدانيّ العميق، ويكون من الصعب عليه بعد ذلك الاستغناء عنها أو التنازل عن فداحة حضورها، إذ تتغلغل في مساماته ولغته وحساسيته وأنفاسه، ويندبغ بها جلده، فتستعمر جسده وروحه وجنونه إلى ما شاء الله، وحينها يكون للمكان معنىً آخر يخضرّ فيه العطر خضرة أبديّة مكتظّة بالنور لا تدانيها خضرة، خضرةٌ هي العطرُ نفسهُ، وعطرٌ هو الخضرةُ نفسها .

كان إيقاع هذه الرائحة يتردد في مسامعي الظامئة قادماً من بطون الأقاصي وسراباتها، تحتفل به روحي الملتاعةُ وتعطّر وعدَها ببروقه التي سرعان ما تضيء وتختفي مثل شُهُبٍ خجولة متمرّدة، تاركة في فضاء الحلم كِسَراً من نورٍ لا تشفي الغليل لكنّها تلوّح بإشارات قادمة في بريد الأفق، أفتح نافذة الانتظار بولهٍ مدوزن باليأس كي لا أُتعبَ طفولة الرائحة وهي تتسلّل إلى سهولِ عالمي في غفلة مني، ولتجدني كما تتوقّع متحفزاً للقائها ضامئاً متّقداً ساخناً على سرير الانتظار .

في مكتبة كلية التربية للبنات في جامعة تكريت ومنذ خريف عام 1991 حيث باشرت عملي مدرّساً لمادّتي الأدب الحديث والنقد الحديث في هذه الكلية، كنتُ أغزلُ وقتي وأهدهده وأحرره من مللٍ محتملٍ أو كآبةٍ متوقعة، فبعد أن أنتهي من محاضراتي لطالبات السنة الرابعة بمعدّل ساعتين في اليوم تقريباً على مدى أيام الدوام الأسبوعي، لم يكن لي من ملاذ سوى المكتبة، أراجع فيها ما أكتب، أو أكمل فيها ما كتبت، ولي فيها مآربُ أخرى، حتى تتجاوز الساعة الثانية بعد الظهر فأضطر إلى مغادرتها لأنّ دوام الموظفات فيها ينتهي، وحين كنت لا أشعر تماماً بوقت انتهاء الدوام كانت الموظفة الأخيرة تبدأ بإطفاء الأنوار والقيام ببعض الحركات المزعجة لتلفت انتباهي إلى تنمّرها وتذمّرها وضيقها من وجودي المتأخر الوحيد، فلا مناص إذاً من المغادرة تمهيداً ليوم جديد قادم يخضع للطقوس نفسها ويتقدّمُ في كلّ شيء خطوةً إلى الأمام .

ربما بعد أسابيع قليلة من مكوثي في تكريت بدأت حاجتي للتواصل مع الفضاء الثقافي والأدبي الممكن والمتاح في المدينة، لم أكن أعرف سوى القاص فرج ياسين بما قرأت له ويمكن، أو أتوقع أن أتواصل معه على أكثر من مستوى، وحين طلبت مساعدة الصديق الملاك الدكتور زكي الآلوسي (رحمه الله) الذي كان رئيساً لقسم اللغة العربية، قام على الفور بمهاتفة فرج ياسين ورتّب أول موعد بيننا، وسرعان ما انعقدتْ بيننا صداقةٌ جميلةٌ تكشّفت فيما بعد عن أشياء مهمة جداً، ربما ستتيح لي هذه اللحظة الطللية استذكار ما يمكن استذكاره من شذراتها.

وبما أنّ  فرج ياسين (بيتوتيّ) من طراز رفيع، فإنّ منزله صار ملاذاً جديداً لي في مساءات حائرة، ما كان يمكن لها تمضي لملولٍ ومزاجيّ مثلي من دون كآبة لولاه، فكانت المكتبة بيتي حين أنتهي من محاضراتي في الكلية حتى ما بعد منتصف النهار، ومنزل فرج ياسين يلفّني بالمحبة والودّ والكرم بلا حدود في تلك المساءات، وهكذا احتميت بالأمكنة وقد تحوّلت إلى نافذة للوجد يخضرّ العطر فيها وتتورّد الأحلام ليتّقد المعنى في قلب الزمن، وتتهدّج الأيام على إيقاع غريب غامض كنت أستشعره منذ زمن بعيد وولد بين يدي المكان بكل عنفوانه وألقه وسلطانه .

صار لي هناك أربعة أمكنة، الأوّل هو الفندق البائس الذي كنت أنام فيه وسط المدينة (فندق حلب):

فندقٌ يحرسُهُ ليلٌ أمينْ

فندقٌ يقضمُ سأمَ العابرين

وغالباً ما كنت أذهب إلى الكلية  مشياً على الأقدام فلم تكن المسافة بعيدة فضلاً على أنني من عشاق المشي، وهو فندق يقطنه العمال غالباً، وليس فيه ضمانات كثيرة لعدم سرقتك وأنت نائم، لكنه بالرغم من كل ذلك مأوى منفرد لا يشاركني في غرفتي أحد، وهو أمر بالغ الأهمية لي، والثاني هو الكليّة التي تأخذ نصف نهاري، بما في ذلك المكتبة التي تسحق ما يقارب ثلاث ساعات يومياً حتى نهاية الدوام الرسمي، والثالث هو منزل فرج ياسين مساءً، وكان ثمة مكان آخر كان له حصة من امتصاص حليب الملل والحيرة الذي كان ينزّ به جسدي، هو المركز الثقافي الاجتماعي لجامعة تكريت وسط المدينة، إذ كنّا نلتقي يومياً مع ثلة من أساتذة الجامعة وقد جاءوا من كل حدب وصوب، باختلاف مللهم ونحلهم وأشكالهم وألوانهم، منها ما هو أليف ومنها ما هو غريب ومنها ما هو عادي أو أقلّ من ذلك، وهناك تعرفت على طبيب أسنان متخصص في جراحة الوجه والفكّين اسمه سعد الصالحي (هاوي أدب)، تحوّل منزله فيما بعد إلى مكان آمن لي يمكن أن يضاف إلى تلك الأمكنة الآمنة التي تحدثت عنها .

منذ مباشرتي في الجامعة تعرّفت أيضاً على الدكتور محيميد مدّ الله الجبوري أستاذ علم الأحياء في كلية الطب، وهو (هاوي أدب) أيضاً، وكان منزله حيث يقيم فيه وحده ملاذاً آخر من ملاذاتي، كنت في ليالي كثيرة أسهر معه وأبيت عنده هرباً من الفندق البائس ليوصلني صباحاً إلى كليتي، وكنت أسعى إلى مساعدته في ترتيب ما يكتبه من شعر كي يقترب من حدود المعقول، وأفعل ذلك مع سعد الصالحي صحبة فرج ياسين، هذا قدرنا كما يبدو أنا وفرج ياسين نبقى معلمين دائماً، هذا كان مناخي باختصار، وكان فرج ياسين الشاهد الأصيل عليه بكل طبقاته وجيوبه وخفاياه، وهو شريكي في صوغ الفضاء الخفي في مكتبة كلية التربية للبنات حيث كنّا نعتقد أنا وهو أنّ ثمة حيوات تبقى تعيش فيها حين نغادرها لتواصل تشييد أحلامنا واستكمال بناء رؤانا التي لا نستكملها في أثناء الدوام، فتسعى هذه الحيوات الغامضة إلى استكمالها نيابة عنّا .

وإذاً فرج ياسين حاضر حضوراً استثنائياً في كل حراكي الثقافي والإنساني (الظاهر والباطن) طيلة مكوثي في تكريت، وصار أن اقترحت عليه أن يواصل دراسته للماجستير في كليتنا بعد أن توافرت فرصة خاصة للمبدعين والمتميزين من موظفي الدولة، وحيث استحسن الفكرة أولاً لم يبادر كما كنت أظن إلى تفعيل هذا الاقتراح عملياً، وربما مرّت سنة من دون أن يفعل شيئاً، لكنني حسمت الأمر مع نفسي وراهنت على قدراتي الخاصة في الوصول بفرج ياسين إلى منصّة الدراسات العليا، وكان لي ما أردت بالرغم من كسله وقلة اكتراثه، ولعلّ هذا الأمر من الأشياء القليلة التي أفخر أنني أنجزتها هناك .

هكذا أصبح فرج ياسين طالباً للماجستير في فرع الأدب العربي أدرّسه مع زملائه مادة (تحليل النصوص الأدبية)، وكان وجوده في قاعة الدرس بهجة كبيرة لي حيث كان يتملّكني إحساس جميل بأن ثمة من يعرف ما أريد ويلتقط ما أقول بالسرعة التي أتمناها، طبعا يشاركه بعض من زملائه الجيدين لكن وجوده كان يملأ المكان كما أشتهي، وكما يجعلني أكثر تألقاً ومتعة في إلقاء الدرس وتقديم الأفكار وتحليل النصوص المنتخبة من الشعر والسرد، وأكثر تحرراً من ربقة الحساسية الأكاديمية التي تضغط عليّ لإخراجي من طفولتي وشعريتي ومراهقتي وصعلكتي، إذ كان وجوده في المحيط نافذة لي لتلك الحرية التي أتلمسّها بالرغم من أمنيات المحبين الباذخة التي تريدني أن أكون ملكاً، أو ترى فيّ ذلك، وكنت أهديت أعمالي الشعرية كلّها لتلك الأمنيات حين قلت فيه (قدر الملوك الذين يخطئون التقدير أن يظلّوا صعاليك حتى النهاية)، وأعدهم بأنني سأبقى أميناً على تلك الأمنيات الغالية من دون أن أتحوّل إلى ملك كما يشتهون، وسأبقى أحنّ إليهم فمائهم العذب لا يشبهه ماء في الدنيا .

تضاعف اللقاء بيني وبين فرج ياسين حين أشرفت عليه في رسالة الماجستير (توظيف الأسطورة في القصة العراقية الحديثة)، وللأمانة أقول بأنني لم أتدخل فيها كثيراً حيث كان هو على وعي كبير بعمله، وقد أبهر بعمله المناقشين الذي منحوه تقدير (امتياز) مع توصية بطبع الرسالة على نفقة الجامعة، كان ذلك عام 1996، ثم صدرت كتاباً بعد ذلك عن دار الشؤون الثقافية في بغداد، وحصل الأمر نفسه بعد عشر سنوات من ذلك حين أشرفت على أطروحته في الدكتوراه (أنماط الشخصية المؤسطرة في القصة العراقية الحديثة)، ونالها عام 2006 بتفوّق، وصدرت كتاباً فيما بعد عن دار الشؤون الثقافية أيضاً .

كنت أحرّضه دائماً على السعي إلى نقل خدماته الوظيفية إلى الجامعة بعد أن أمضى أعوماً كثيرة في التدريس الإعدادي، وأثمر ضغطي بعد لأي عن إقناعه بالعمل الجدّي في هذا السبيل حتى نجح أخيراً وانتمى إلى هيئة التدريس في كلية التربية للبنات، ففرحت بالأمر كثيراً كي يواصل ما حققته أنا هناك، وكي أضمن لجذوري فيها ماءً نظيفاً يجعلها قادرة على بعث الحياة في تلك التفاصيل الشفافة التي لا يراها أحد، وليشحن تاريخي في طيّات تلك الأمكنة بكلّ ما يجعله متّقداً ووحشياً وقاسياً على النحو الذي يذكّر بي ويشير إليّ مهما بالغ المشوّهون في قطع شرايينه وأوردته.

تمّ نقلي من كلية التربية للبنات إلى كلية التربية بفعل مؤامرة صغيرة من صغار كانوا يهابون مواجهتي ويوجعهم تألقي، كانت تحرسهم مناصب ومواقع وإمكانات، ولم يكن في صفّي سوى ثقافتي وثقتي بنفسي وكبريائي ومحبّة القلّة الهائلة التي تحيط بي، ضحكت عليهم كثيراً حيث اعتقدوا بأنهم تمكّنوا منّي، ولم تكن ثقافتهم البدائية أو وعيهم القاصر يدرك بأن تجربتي الأكاديمية والإنسانية في كلية التربية للبنات قد انتهت، ونهاية التجربة هي التي نقلتني إلى كلية التربية وليس هم، وفعلاً بدأت مشواراً آخر هناك وأشرفت على أطروحة الدكتوراه لفرج ياسين في كلية التربية ودرستّه في السنة التحضيرية أيضاً .

ظلّت علاقتي بفرج ياسين استثنائية بكل المقاييس، وظلّ منزله الكريم مرفأً أنعم فيه بالأمان والمحبة ومعنى الصداقة التي لا يمكن أن تتكرر كثيراً في هذا العالم الصاخب، وظلّ هو أميناً على مراهقتي وطفولتي وشعريتي وأكاديميتي أيضاً، فمن أقواله المشهورة فيّ حين يشهد تقلباتي العاطفية الباذخة: (والله يا أخي أنت تعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء))، وعلى الصعيد الأكاديمي قال: (من لا يمرّ من قنطرة محمد صابر عبيد في الدراسات العليا تبقى أكاديميته ناقصة)، وهو ما أعتزّ به كثيراً، وقد قلت سابقاً (صحيح أنني أشرفت عليه أكاديمياً لكنه أشرف عليّ في مجالات إنسانية أخرى أكثر أهمية عندي من الأكاديمية)، كنت معه في كامل الطمأنينة والحرية حيث لا أبذل جهداً في أن أمرر له ما أشاء بسهولة، ولم يتجاهل ذلك إلا نادراً، وعلى الرغم من طمعي غير المحدود في إطلاق عصافير رغباتي وأمنياتي بكل جنون أحياناً، إلا أنه كان حكيماً في استيعاب طوفاني على النحو الذي حرس فتنة علاقتنا بهذه الشعرية التي لا مثيل لها، فطوبى لي به غبّ ذلك الوقت الحرج من تجربتي مع الإنسان والمكان .

شهد فرج ياسين ولادة الكثير من قصائدي التي ضمّها كتابي الشعري (هكذا أعبث برمل الكلام)، والكثير من رسائلي التي ضمّها كتاب (رسائل حبّ بالأزرق الفاتح)، وهو الوحيد الذي لديه خارطة طريق دقيقة لتاريخ وسيرة وحياة كل قصيدة ورسالة منها، وبوسعه إعادة كل جملة بل كل كلمة فيها إلى مضانّها وبيتها ومرجعيتها، وكشف عالمها السرّي بكلّ زينته وبهائه وتموّجاته البديعة، كان شريكاً لي في إنجازاتي ومتواطئاً مع الكثير من حماقاتي وخطاياي الجميلات .

لا يمكنني في شهادة قصيرة مثل هذه أن أقول كلّ شيء عن تجربتي معه بكل شحناتها ومحمولاتها الحقيقية والسيميائية، ربما لأنها أوسع من الكتابة وأكبر من السرد والحكي، إنها حياة كاملة بمباهجها الكثيرة وأحزانها القليلة، ومن أراد أن يعرف شيئاً عن تجربتي الشائكة الموّارة الغزيرة الأثيرة الملوّنة الإشكالية فليسأل فرج ياسين، فهو أعرف منّي بها، لأنه كان شديد الانتباه والإحاطة والمراقبة وكنت شديد الانغماس والتجلّي والغوص في مياه رغباتي اللدنة، فكان يرى كل شيء وكنت لا أرى شيئاً، بصره من وراء زجاج العوينات حادّ كصقر، وبصري بلا عوينات منكفئ على ملذّاته لا يرى أبعد من مربع صغير لا يتجاوز الأربعة أمتار مربعة معلّق فوق الجميع ولا يحسّ به أحد، يا إلهي كم أحنّ إليه الآن وأتوق إلى لحظاته الجهنمية الباغية .

كنت وما أزال أنظر إلى شخصية فرج ياسين أقرب إلى كونها شخصية سردية طالعة من جوف قصة أو قبو رواية، يمشي بخفة وبطء كأنه لا يريد أن يوقظ نيام الأرض، ولا يوجع صدرها بالضغط عليه، ولا يجرح وردها الغافي على إيقاع قدميه، يسمع أكثر مما يتكلّم، الشاعر القديم فيه أكثر حضوراً من القاص الراهن، بالرغم من شكله الذي ينتمي بكليته إلى فضاء القص، لديه رغبات مدفونة تنطلق أحياناً من مفكرته الغائمة دون إذن منه فأفهم عندها لماذا كان يحرس لهب شمعتي بحبّ وسط مناخ صقيعيّ جاف وبليد، وأعرف أنني حين توجّهت إليه فقد توجّهت في الأصل نحو شاطئ تُكثر فيه الضفاف والنوارس والصخور المنحوتة  ببراعة الطبيعة التي لا تدانيها براعة، وأفسّر تماماً لماذا كنت أنعم هناك بنوم هادئ هانئ مثل طفلِ أليفٍ لا يخدشُ نسمة، ولا يفزّز عصفوراً، ولا يثير غباراً حين يبكي .

المرابد الأخيرة في تسعينيات القرن الماضي حتى ما قبل الاحتلال الأميركي كانت مساحة أخرى تنفّس منها ضيقنا ويأسنا وحصارنا، كانت نافذة أخرى للوجد يخضّر فيها العطر، كنّا ننتظرها بفارغ الصبر بما أنّ سفرنا إلى خارج العراق أصبح من الأحلام البعيدة، إذ كنّا نلتقي أصدقاءنا العرب القادمين من شتّى بقاع الوطن العربي وهم يحملون لنا الكتب والمجلات والمكافآت، كانت تلك المرابد احتفالاً حقيقياً لنا أنا وفرج ياسين وسعد الصالحي، نعدّ العدّة للسفر إلى بغداد لنقيم أياماً في فندق الميليا منصور، طبعاً لم تكن تعنينا الفعاليات الثقافية وخصوصاً الجلسات الشعرية التي نادراً ما كنّا نحضرها، في حين نحضر الجلسات النقدية بانتظام تقريباً.

الليلة الأولى في المربد من أهم ليالينا، نزور منطقة (البتاوين) مساء لنتسوّق منها حاجياتنا الليلية، ثم نأتي لنحتفل في غرفتنا التي غالباً ما نقتسمها أنا وفرج ياسين، وتبدأ بعد ذلك الطقوس التي تحقق لنا القسط الذي نحتاجه من الحرية والمتعة، وكنت أقول لفرج ياسين: كل مربد يعادل لنا نصف سفرة إلى الخارج، يا إلهي ما أروع أصدقاءنا المربديين زياد أبو لبن ومحمد القيسي (رحمه الله) ومحمد ضمرة وسعد الدين شاهين وعلوي الهاشمي ورفقة محمد دودين وغيرهم، وعلى الرغم من أن لي أصدقائي من الأدباء العرب ولفرج ياسين أصدقاؤه أيضاً، إلا أننا لم نكن نفترق أنا وهو إلا نادراً، وكان صديق فرج ياسين الرائع صباح القسّ الذي أصبح صديقي أيضاً أحد أهم وأبرز الأمكنة الدافئة الجميلة في رحلتنا المربدية، صديق كلّه كرم وصدق وثقافة وحيوية وحياة، ومازال طعم صداقته لا يفارق إحساسي ووجداني بالرغم من أنني لم ألتق به منذ أكثر من عشر سنوات تقريباً، لكنني كنت أطمئن على أخباره من فرج ياسين .

لم يكن القاص جمال نوري بوصفه صديقاً مشتركاً بيني وبين فرج ياسين بعيداً عن حساسية هذه العلاقة وجوهرها، فوجوده بيننا كما أراه الآن يُكمل بعض ما يشوب اللوحة من نواقص، ربما في اللون أو الخط أو الكتلة، إذ مع أنّ علاقتي بفرج ياسين شبه متكاملة على الكثير من الأصعدة لكنها كانت تفتقر إلى شيء غامض، أعتقد أنّ كلينا يشعر به على نحو ما لكننا قد لا ننجح في تعيينه على نحو محدد وحاسم، وفي ضوء هذا الشعور القَلِق كنت أطمئن على وجود جمال نوري بيننا، إذ كان يختفي هذا الشعور بحيث تبدو لوحة العلاقة بحضوره بهيّة بألوانها الطبيعية الزاهية، وبخطوطها الدافئة، وبكتلها التي تتوزّع على مساحتها بكلّ موسيقية وأناقة وجمال.

وفي هذا المدى من رائحة الوجد وهي تتغلغل في خضرة الإحساس بالأمل والذكرى والوجد الجميل، يلوح وجه عالم الرياضيات الصديق الدكتور سليم الكتبي محلّقاً بيني وبين فرج ياسين مثل عطر خلاب لا يعرف طعم الغياب، كان عنصراً مهماً من عناصر اكتمال اللوحة على نحو من الأنحاء بالرغم من أنّ لقاءاتنا قليلة نسبياً، فحين نلتقي أنا وهو وفرج ياسين يتملّكني شعور باكتمال اللوحة، إذ تبدو الألوان أكثر حرارة وتميّزاً وحركة تتيح لي رحابة أكبر في الحديث واستظهار الرؤية، وهو الشيء الذي يصنعه حضور جمال نوري أيضاً ولكن في سياق آخر وحساسية أخرى .

ثمة آخرون قريبون، آخرون بعيدون، آخرون بين بين، أصدقاء، محبّون، عشّاق، أعداء، أعدقاء، حسّاد، تافهون، مصلحيون، عاديون لا ملامح لهم، أرى الآن حين التفت إليهم كم هم ضروريون للوحةٍ مختلفةٍ ومغايرةٍ نتلبّث أنا وفرج ياسين في قلبها، هذه اللوحة التي تتشابك فيها الطبقات وتكتنز الظلال وتتموّج الرؤى، يظلّ فيها فرج ياسين كاهناً يحكي وحكواتياً يتكهّن، يتربّع على سطح اللوحة وباطنها مثل عرّاف غامض يشعر الجميع بوجوده لكنه لا يُرى، لابثٌ بين اللون وظلّه، بين الخطّ والتماعته، بين شكل الكتلة ومضمونها، متصوّف يبعثر شذرات العشق بعبث طفلٍ منسيّ، ويعيد ترتيبها بحكمة سلطان عادل، كلامه يمتدّ على قماشة اللوحة بامتلاء كامل مثل رواية طويلة لماركيز لا يمكنك حذف مفردة واحدة منها مهما بلغتَ من القسوة والعداء والجبروت، لا زيادة ولا نقصان، اللوحة مشبعة بزئير المعنى ومكتظّة بلحن العطر، بحيث تحار أين تضع هذا الحرف الزائد التي تودّ حشكَهُ مثل خنجرٍ بين لون الوردة ورائحتها، بين العين والحلم، بين الرغبة والخجل، بين الفعل والفاعل، بين الصوت والصدى .

وإذا كان لا بدّ لاكتمال فضاء اللوحة من تخوم وملحقات وديكورات ومساحات تتقصّد المجاورة، أو تفتعلها، أو تحلم بها، فبوسعنا القول إنّ فضاء اللوحة يزدحم بها، فراشات وأيائل وطواويس وجنادب وذباب كثير الطنين، ملائكة وشياطين، وكأن العالم كلّه بكل توافقاته وتناقضاته، حقائقه وتوافهه، عسله وعلقمه، وروده وأشواكه، يلتحق بهذا الفضاء الذي يضمّني مع فرج ياسين، حتى لنكاد نشكّ أحياناً أنا وهو فيما نرى أو نتخيّل أو نظن، لكنّ هذا هو ما حصل بالضبط بعيداً عن ربيع الغرور وخريف التواضع، وهو ما أسهم عميقاً في توسيع نافذة الوجد حيث يبدو العطر أكثر خضرة ونداوة ونفاذاً، وتبدو اللوحة أكثر تمظهراً وتحدياً، وأطول عمراً، ويبدو فيها فرج ياسين أكثر شباباً حتى لتعشقه عاملة أحد المولات في السليمانية ذات شتاء دوننا، وسط تعليقاتنا الحاسدة وقد لفّها عطر الرغبات المتناثر على أطراف الأردية المشتهاة، وضاعف من حجم حضور اللوحة وزاد من قوة تأثيرها في المحيط . 

 

هل تمكّنتُ يا ترى بهذه الهرطقة الاستذكارية الباسلة أن أشيّد (نافذةٌ للوجد) تليق بفرج ياسين؟ وهل استطعت أن أمسك باللون والرائحة (حينَ يخضرُّ العطر) في ضفافه؟ من أجل أن ينحني القمر لي، وتقبّلني الشمس، ويؤمن فرج ياسين من جديد بأنه يستحيل على التاريخ أن يعيد نفسه؟

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم القاص المبدع فرج ياسين اعتبارا من 14 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم