صحيفة المثقف

كاتب يهودي: إنها ليست عودة .. بل احتلال / جعفر هادي حسن

هو آخر كتبه، وربما يعتقد البعض أن الكتاب يناقش فكرة اليهودي التائه كما يوحي العنوان، حيث الكلمة الأولى منه صفة كانت قد أطلقت على اليهود في القرون الوسطى من قبل الآخرين، لكن المؤلف يوضح مضمون الكتاب بعنوانه الجانبي، الذي يشير إلى أنه دراسة للهوية اليهودية، حيث يستعرض فيه العناصر المحددة لهذه اليهودية والإختلافات حولها، وفيما إذ كان المحدد لها الدين او الأيدلوجيا، أو انها فقط حالة ذهنية. ولكن عتصمون لايقتصر في كتابه على هذه القضايا، بل يتجاوزها إلى قضايا هي موضع جدل ونقاش ليس بين اليهود وغيرهم، بل بين اليهود أنفسهم .وموضوع الهوية هو من بين المواضيع التي يهتم بها اليهود كثيرا ويناقشونه ويجادلون حوله. وكلما تقدم الزمن تظهر قضية جديدة تتعلق بهوية اليهودي. فالديانة اليهودية التي يعتبرها الكثير من اليهود هوية لهم، لم تعد ديانة موحدة، كما كانت من قبل، بل افترقت إلى فرق متعددة تختلف في معتقداتها وممارساتها، إلى حد أن بعضها أخذت لاتعترف بالبعض الآخر.ثم بعد عقود من ذلك ظهرت الصهيونية وبعدها الهولوكست،ثم ظهرت إسرائيل وأصبح لكل هذه ارتباط مباشر أو غير مباشر بالهوية اليهوية. وعلى غير مايتوقعه القارئ، فإن المؤلف لا يناقش قضية العرق، بل يهمله تماما ولايتطرق إليه أصلا .وهويقول عن ذلك في بداية الكتاب"إن القارئ سوف لايجد حتى ولا إشارة واحدة إلى هذا الموضوع(العرق)، "وهو يذكر أن السبب في ذلك هو تبنيه رأي شلومو ساند(زند)-الأستاذ الإسرائيلي- الذي عرضه في كتابه "اختلاق الشعب اليهودي" حيث يرى المؤلف أن اليهود ليسوا من أصل واحد، وإنما هم من أصول متعددة اعتنقوا الديانة اليهودية في مراحل مختلفة من تاريخهم، وأن فكرة وجود شعب يهودي هي فكرة من خيال اليهود، ليس هناك مايدعمها تاريخيا ووثائقيا. وهو أيضا يتبنى رأي ساند، في أن الصهيونية هي التي خلقت لليهود قومية لم تكن موجودة، وكان ذلك تأثرا بالقومية الالمانية، التي ظهرت في القرن القرن التاسع عشر.كما أنها قامت باستخدام التوراة ورموزها، واستعمال الأثار من أجل ترسيخ فكرة القومية، والتأكيد على وجود دولة عظمى للملك داوود، وربط التاريخ الحديث بالقديم، كما فعلت بعض الشعوب الأوربية لتاريخها. كذلك هو يتفق مع رأي ساند في أن الصهيونية، هي التي ابتدعت كذبا فكرة العودة إلى الوطن، على أساس ان الرومان طردوا اليهود وهم يعودون إلى حيث طردوا، وساند يدحض ذلك، ويرى بأن الرومان لم يكن من سياستهم  تهجير الشعوب المحتلة، وأن اليهود لم يهجروا من فلسطين، وحينئذ لا يكون للمهاجرين الحاليين من اليهود علاقة بالأرض كوطن يعودون إليه بل مايقومون به هو احتلال قبيلة. ولذلك يرى عتصمون أن الصهيونية نشأت وقامت وأُسست على أساطير.ونتيجة لهذا فإن الطريق تفتح واسعا أمام مناقشة القومية اليهودية، التي هي هوية للكثير من اليهود،وتفتح كذلك لمناقشة فكرة العداء للسامية، حيث لايكون لها معنى بعد أن يصبح لليهود أكثر من اصل، وحينئذ يكون نقد الآخرين لهم ضمن اطار النقد العادي ولاتعني تهمة العداء للسامية شيئا.

ومن القضايا التي تتعلق باليهودية التي يتطرق لها عتصمون، هي مايسميه الثنائية لدى اليهودي خاصة العلماني منهم. وهو يشرح هذا بالقول إن اليهودي يريد من جانب أن يعتبر نفسه متساويا مع الآخرين (في الإنسانية) وأنه مثلهم، وواحد منهم ولايختلف عنهم، ولكنه في الوقت نفسه يريد أن يكون متميزا عنهم، ومتمسكا بما يسميه المؤلف "القبلية". وفكرة التمييز هذه أكد عليها بعض زعماء الصهيونية، مثل ويزمن أول رئيس لإسرائيل، الذي يرى أن اندماج اليهودي بالآخرين يعني موته، لأنه فريد، وقبله أكد عليها موسى هس، حيث يرى أن الإختلاف بين اليهودي وغيره هو اختلاف عرقي، وهذا مايبقي الصراع مستمرا ولايمكن تفاديه كما يقول. ويرى عتصمون أن قضية الثنائية هذه  مازالت لم تحل إلى اليوم.وفي رأي عتصمون أن اليهودي بطبيعته لايمكن أن يندمج، وحتى الذين اندمجوا لم يكونوا يؤمنون بالإندماج حقيقة.

ومن القضايا الأخرى التي يتطرق إليها المؤلف ويناقشهاهي قضية خوف اليهودي من الآخرين، إذ يرى المؤلف أن الخوف يسيطر على اليهود جماعيا،  من توقع حدوث مايضر بهم ويؤذيهم، وأن هذا الخوف مترسخ عند اليهودي وملازم له، ولذلك فهم حذرون من الآخرين،وهو يقول عن هذا" إنه لكي تكون يهوديا، يجب أن ترى تهديدا لك في كل شخص غير يهودي، وهذا يعني أنك يجب أن تكون حذرا دائما".

وبسبب هذا الخوف كما يقول فإن اليهود يحاولون أن يكونوا دائما قريبين من مراكز القوى ومتعاونين معها، ومؤثرين فيها، عن طريق اصطناع لوبي،يركنون إليه ويعتمدون عليه وهذا ليس مؤامرة منهم كما يقول، وإنما هم يقومون بهذا علنا .وهو يعزو أصل هذا الخوف إلى التوراة  التي وضعت أسسه، وعمقت وجوده.  وهو يضرب مثلا على ذلك، القصة التي وردت تفاصيل أحداثها في سفر "أستير".

ثم ينتقل عتصمون إلى الحديث عن قضية الهولوكست، التي يعتبرها بعض اليهود هوية لهم حيث يقولون "هتلر جعلني يهوديا". فعتصمون لاينكرها ولا يشكك فيها، ولكنه ينتقدها، لأنها اصبحت كما يقول دينا،  له أنبياؤه وكهنته وأضرحته المقدسة التي تزار. وهو يذكر بعض هؤلاء الأنبياء والكهنة، ويقول إن هناك مصادر عالمية تمول هذا الدين وتدعمه، عرضها نورمن فنكلشتاين في كتابه "صناعة الهولوكست". وهو يريد لهذه القضية أن ينتزع منها المضمون الديني، وأن لاتعتبر قضية فريدة لامثيل لها في التاريخ، بل يجب  أن تبقى قضية تاريخية كالقضايا الأخرى،حدثت في زمان ومكان معينين، وأن تدرس وتناقش على هذا الأساس.

كما يرى كذلك بأن أسئلة يجب أن تطرح  حولها، مثل لماذا يُكره اليهود، ولماذا قتلهم جيرانهم، وماهي الفائدة من تشريع قوانين ضد منكري الهولوكست، "وإذا لم نسأل هذه الأسئلة، فإننا سنبقى ضحية اللوبي الصهيوني،ونبقى نُقتل باسم المعاناة اليهودية".،ثم يذكر أن قضية الهوكوست تستغلها إسرائيل منذعام 1967 كوسيلة سياسية، عندما احتاجت إلى تبرير أخلاقي، كونها محتلا غير أخلاقي، وتستعملها كذلك كحماية لها من الإتهام باضطهادها للفلسطينيين. ومن المفارقات التي يذكرها المؤلف، هي أن اليهودي يعتز بكونه يهوديا، ولكن ما أن يقال له أنت يهودي، أو سلوكك يشبه سلوك  اليهودي، فإنه ينتفض غضبا ويعتبر ذلك إهانة عنصرية له.

ويرى عتصمون أن اليهود العلمانيين في إسرائيل قد أضاعوا الكثير من يهوديتهم، وأخذوا يقلدون الأوربيين في حياتهم ويسلكون سلوكهم، وهم اليوم يهتمون بالبحث عن حياة رافهة ومريحة، أكثر من اهتمامهم  بالدفاع عن البلد والموت في سبيله،  بل الكثير منهم محبطون ويريدون الخروج منه.

وعلى الرغم من أن الكتاب مدحه باحثون، وأثنى عليه كتاب معروفون من غير اليهود، لجرأة مؤلفه وشجاعته في تطرقه لموضوعات يهودية حساسة، إلا أن اليهود على اختلاف مشاربهم وأطيافهم ومعتقدلتهم،انتقدوه نقدا قاسيا ومازالوا،  ومما يدل على سخطهم عليه وانزعاجهم منه، هو محاصرتهم لبيع الكتاب وانتشاره. لأنهم يرون فيه تجاوزا للخطوط الحمر، بسبب مايطرحه عتصمون من أفكار،منها ماذكرناه، ومنها رأيه في أن القومية اليهودية هي قومية توسعية وعنيفة على حساب السكان الفلسطينيين،وأن إسرائيل تقوم منذ إنشائها بالتطهير العرقي  ضدهم،وأن ماتقوم به هو تطبيق لما ورد في التوراة، ،إلى غير ذلك من آراء. وكان عتصمون قد نشر رواية عام 2001 بعنوان "مرشد الحائرين"  -والعنوان مأخوذ من عنوان كتاب مهم للفقيه والفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون-.وتقع أحداث الرواية عام 2052م حيث تتحول إسرائيل إلى دولة فلسطين.

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2093 الثلاثاء  17 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم