صحيفة المثقف

محمود صبري يغادرنا ويترك .. واقعية الكم / كاظم شمهود

قبل ايام في لندن 13 /4 / 2012 عن عمر تجاوز 85 عاما الا ان نظريته – واقعية الكم – ستبقى حية سرمدية بيننا، وهي تذكرنا بتلك المرأة الشاعرة العربية الاصيلة عندما رثت اخيها يوم رحيله . (يذكرني طلوع الشمس صخرا – واذكره عند كل غروب). وستبقى في الذاكرة دائما منجزات المبدعين والباحثين الجادين من الفنانين والادباء العراقيين رغم الاختلافات في الرؤى الفكرية او المذاهب وطرز العمل والتقنية . وستبقى واقعية الكم محل نقاش وجدل وتطبيق خاصة ونحن نرى اليوم ان العلم قد دخل بعمق جميع مرافق الفنون التشكيلية وليكشف لنا اسرار وخفايا المادة ...

 166-mahmodsabri3

كان محمود صبري من رواد الفن العراقي - ومن جماعة الرواد التي تأسست سنة 1950 حيث اشترك في نشاطاتها الفنية والثقافية - هاجر الى خارج العراق واستقر في براغ عاصمة يوغسلافيا في مطلع الستينات وكانت دوافع الطموح تدفع به الى ابتداع شئ يحرره من سلطان الاسلوب الاكاديمي . لهذا مع البحث المتواصل واتصالاته الدائمة مع الفنانين والادباء في المهجر استطاع ان يستلهم منهم ما يحقق الهدف الذي يحلم به وهو الانقلاب على الواقعية القديمة ... وقد تأثر بالاجواء الاشتراكية العلمانية وصب جهده على دراسة المادة دراسة علمية كيميائية .

 

 معنى كم

جاء معنى كم او كمي في اللغة العربية بمعنى المستور والمخفي . كما ان كلمة كيمياء مأخوذة من الكمي ويعني الشجاع – والمتكمي يعني المتستر بسلاحه .. اما المصطلح العام فان الكيمياء تعني دراسة المادة وتفاعلاتها، وعادة ما تتكون من ذرات .. والكيميائي يقوم بدراسة هذه الذرات وتفاعلاتها وتكوين الجزيئات وتفاعلاتها مع بعضها البعض .. وباختصار فان هذا العلم يقوم بدراسة المادة – التركيب والخواص والبناء –  ...

 – انا لا اريد ان اتحدث عن الفنان محمود صبري  بنمطية او لغة مقامات بديع الزمان الهمذاني او مقامات الحريري (كما يفعل البعض) ولكن بلغة مراقب ومحلل ومؤرخ ان صح التعبير ...(خاطبوا الناس على قدر عقولها)

انا اعتقد ان هناك في الفن العراقي المعاصر قطبين بارزين في عملية التنظير والفلسفة والابداع والاختراع والحركة الثقافية والتي حاولتا ان تستقطب حولهما كثير من الفنانين الشباب المتعطش الى مراكبة المذاهب الفنية الاوربية المعاصرة وهذا لا يعني التقليل من اهمية الرواد الآخرين .... وهما شاكر حسن آل سعيد 1925 ومحمود صبري 1927 . الاول نادى باستلهام الحرف العربي استلهاما تأمليا وسرياليا وذهب الى طرحه ليس كقيمة شكلية وزخرفية فقط وانما اعطاه قيمة روحية او معنوية من خلال كتابته بشكل عفوي للتعبير عن كينونة الانسان بشقيه الواعي واللاواعي . وعلى هذا النحو شكل مدرسة –البعد الواحد -1971 سنة . وقد انتشرت تأثيرات هذه المدرسة بين الفنانين العرب واستخدم الحرف العربي على نطاق واسع في اعمالهم التشكيلية حتى ان الفنانين الاجانب تأثروا بذلك ولكن تناولوه بمفهوم جمالي تشكيلي بحت ...(ليس الفن عملية خلق، بل كشف او تأمل –/ شاكر حسن)

اما محمود صبري فقد ذهب باتجاه معاكس تماما لنظرية شاكر حسن التأملية الروحية الصوفية . فقد اتجه الى المادة وتحليلها كيميائيا – كم – والتعبير عنها بأحالتها الى سطوح والوان، و هو ما يذكرنا بقصة افلاطون وعالم المثل وتلميذه ارسطو الذي خالفه واتخذ اتجا آخر، وهو علم التجريب . ويعتقد محمود بان الفنان الجديد يجب ان ينقل الواقعية القديمة الى واقعية جديدة تتمثل بتحليل عناصر الموضوع الى ذرات اي انه يدخل الى اعماق المادة .. ولكن من ناحية المظهر فهي لا تختلف عن اعمال كاندنسكي وموندريان وغيره من التجريديين ... فهو يقول (ان هذه الواقعية الجديدة تقوم بقلب الفن التجريدي رأسا على عقب وايقافه على رجله) وربما كان محمود يقصد من بحوثه هو ان المادة التي نراها امامنا من سطوح والوان هي عبارة عن ذرات وجزيئات متحركة تفصح عن خصائصها ومعبرة عن كينونتها على سطح اللوحة، ولو ان العين لا ترى ذلك الا بواسطة ادوات علمية حديثة لكنها واقعية في حركتها الجوهرية . اذن فهي حية متحركة وليس مجرد سطوح وخطوط والوان .


166-mahmodsabri4

لقد اطلعت اليوم على رقاقة الكترونية مكبرة 22 مليون مرة بمجهر الكتروني وقد شاهدت فيها شرائط من الالوان المتنوعة وهي ذات منظر رائع وجميل يذكرني باعمال محمود صبري ونظريته – واقعية الكم – كما اطلعت على صور اخرى مكبرة للقرنابيط وورق السجائر عندما يحرق، وكلها تشير الى خفايا المادة واسرارها التي لا يمكن ان نراها بالعين المجردة .

في مرحلة من حياة محمود صبري كان متأثرا باسلوب الفنان الفرنسي تولز لوتريك، ويظهر ذلك من خلال بعض الاعمال التي نفذها في الخارج والتي نرى فيها بنات الملاهي . في هذه الاعمال يلعب الخط دورا غزليا في ابراز وتحديد الاشكال ويأخذ احيانا عفوية في حركته . ام الالوان فهي بسيطة مسطحة تذكرنا بتقنية غوغان .   

عاد محمود صبري الى العراق في مطلع السبعينات وطرح بحثه العلمي الجديد في متحف كولبنكيان وكان الذي قدمه الى الجمهور على ما اعتقد الفنان  قتيبه الشيخ نوري ، وكان هناك جمهور غفير متعطش قد حضر للاستماع الى ذلك الرجل القادم من الخارج .. حيث يومها كان العراق مغلقا عل نفسه، لا نعرف ماذا يدور في الخارج من تطورات وتحولات في حركة الفنون الا ما ندر ... وعندما خرجنا من الصالة كان احدنا يلتفت الى الاخر تعبيرا عن عدم فهمه او شكه فيما يقوله الاستاذ محمود صبري ... وفعلا اثبتت الايام انه كان متقدما في بحثه كثيرا على الفنانين العراقيين في ذلك الوقت .....

    

ولكن السؤال الذي يقفز امامنا هو اين دور التذوق الحسي العاطفي من نظرية محمود صبري وردود الافعال الوجدانية في عملية التعبير ...؟

ليس هناك فرق بين عمل يتسم بالسمة الاكاديمية وبين آخر يتسم بالصفة الحديثة المعاصرة كالتجريد مثلا وهي ظاهرة مرجعها الى ان لكل فنان طبيعة ذات تكوين خاص وعلى هذا الاساس يتحدد الاسلوب الشخصي لكل فنان .. ويذكر العلماء بان هناك ثلاثة عوامل اساسية لها اثر كبير في عملية الابداع الفني وهي العامل البيولوجي والعامل الفسيولوجي والعامل السيكولوجي، وتشير الحقائق العلمية بان هذه العوامل الثلاث بينها اتصالات وثيقا لا تنفصم عراه حيث يرتبط عمل كل منهما بالآخر ..

ورغم كل التطورات في الفنون والفلسفة والعلم يبقى الفنان يعبر عن ذاتيته الحسية وهي حقيقة قائمة وموجودة حتى في الاعمال التقدمية المعاصرة مهما كانت موضوعيتها .. (كما ان التيارات المعاصرة التي خرجت على كل القيم الكلاسيكية السابقة، بقت محافظة على القيم الميتافيزيقة التي تعبر في الاشكال الجوهرية لاتجاهات هذه المذاهب عن حقائق الاشياء في صورتها الموضوعية وذلك باعطاء صورة لمطلق مشاهد تراه العين ..)  

 

 

خاص بالمثقف

.................................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (عدد خاص لمناسبة تكريم الفنان التشكيلي الراحل محمود صبري اعتبارا من 20 / 4 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم