صحيفة المثقف

الغيوم الدلالية بين هيمنة الماء وانتفاء سلطة المطر

تماما والمغامر في لعبة الحداثة التي انفتحت على النمطية القديمة فقد اشتركت معه في مسابقة صوت الطلبة عام 1981 وفاز في قصيدة حمدية ونشر في صحف متعددة نشرت فيها معه وكان بحق صوتا مميزا لا ينكره احد ومازال مرفأ خصبا للشعر الصارخ وقد فارقته السنين العجاف وكنت أتوقع بزوغ نجمه مضيئا في سماء الإبداع حتى وصلتني مجموعته غيوم ليست ممطرة وقد اختلف عنوانها مع مجريات الداخل فقد كانت فيها غيوم تمطر وتمطر وتملا الجفاف زهرا لا ولست بحاجة لمجاملة احد وقد كتبت للنص وليس للشاعر وأقولها معترفا للشاعر أن المجموعة وصلتني بيد الأستاذ نائل الساعة السادسة ليلا ونشرت البحث عنها في التاسعة لأني قراتها بساعة وفهمت دلا لتها واجد المجموعة تفترش قناعات تسقط ورقة التوت من جسدها القرمزي فقد كشف الستار وحان للشاعر أن يقول قولته ولكن لمن يقول وقد سكت المتلقي بل خدرت أعصابه وماتت قواه وتناسل الصمت في عينيه حتى غدا حجرا على زاوية النسيان

فالمجموعة غيوم مضمون قصيدة واحدة تضيف تراكما نوعيا وجدانيا على الشعر وهي تضيف للشعر ثوبا وتستر عري النعامة التي دفنت رأسها في التراب

ومجمل القول أن شعراء ميسان والذين درستهم بعجالة  ومنه الشاعر عباس باني والشاعر رعد زامل والشاعر ماجد الحسن  والآن حصة اليوم الشاعر ماجد البلداوي وبعده الشاعر نصير الشيخ وربما لم أنصفهم فقد كانوا يتعاملون مع الواقع بضياع وخيبة وربما أغلق الشاعر البلداوي نافذته عن العطش والأمل وبدا يصرخ الجفاف الجفاف فهل نشارك البلداوي ايحاته الرائعة علينا إن نفهم الشعر أولا وكم وصفت الشعر دربا صعبا ويحتاج إلى متمعن وقارئ مثقف وليس سطحيا يطالع لسد الفراغ وكم تألمت على ماجد وأمثاله المبدعين أن يموت صوتهم الذي يعلن عن عطش وجفاف وتجمد برؤيا معاصرة وضمن تنحيات سياقيه يجمعها كاس واحد اسمه الدلالة والهيمنة انه ينسف الطريق بمتفجرات غير الألغام ويقتل الساكتين مرتين بايحاءات مؤثرة ومؤلمة حقا وثمة مغزى استثنائي لتداعيات الأنا بين اليقظة والحلم فالشاعر يحمل رؤيا وأيدلوجيا مفكر لااعده قارئا وناظما لا بل شاعر ا يحترم كلمته فالمكان الميساني ورد مرة ولكنك تشعر أن حرائق ميسان بفكرها أعلنت صوت الاحتجاج وبمستوى هيكل مسطح تتسرب في دواخله تجريدات من الزمن وبها مجموعته شغل كبير وإتقان ممتع ولكني لعجالة كتابتي ركزت على ثيمة أسميتها مهيمنة الماءواقول أن أشياء كثيرة تفرح المتلقي ولكن الماء الجفاف اخذ حصة الأسد وحجر الزاوية في المجموعة الرائعة

والسؤال هل اكتمل الحلم الماجدي بل تشظىالى منهل الماء وهو يعيش قرب المشرح عطشا وعلى حد تعبير جومسكي صاحب نظرية التحويل أن التحليل الاسلوبي ينطلق من مفهوم خاص للأسلوب وهو أن الكاتب يستعمل أنواعا معينة من التحولات بحيث تصبح هذه التحولات مميزا أسلوبيا 

 

مدخل في جسد المجموعة

يرى أرسطو ان المستهل جزء من البرهان على الشيء لا نذكر الشي الا من اجل البرهنة عليه ومن عوامل نجاح الكلام ان يكون الشاعر صاحب حجة ولسان بليغ وصوت جذاب واسترسال وانتقالات واضحة  وهذا ما ورد عند ماجد في عنوانه اصلا0غيوم ليست ممطرة) بل أراد العكس فقد بللنا بالمطر حتى ارتوت قلوبنا وشفاهنا وجفافنا وحدائقنا فالعنوان يعكس الدلالة وهذا سر القدرة عند الشاعر, المستهل يقول لنا شيئا مضادا أن الغيوم ليست ممطرة والعكس تماما فثمة غيوم انقعننا بوابلها وسقيت ورودنا العطشى من هدير غمامها وقبلها أن الشاعر قد صفن للمستهل وفكر به دون أن يعي هيمنة الماء فيها فقد كان مشرط التشريح بيدي ولست طبيبا بالطبع بل ناقدا وشاعرا اسمع واعرف الدلالات فكيف وقد رقصت القصائد بين يدي وهي تحمل ايدولوجيا من وجهة نظر الشاعر وأقول ثمة شبكة علاقات معقدة تضم مفاصل هذا الخطاب,وكلنا نعرف سقوط المطر ذو مغزى كبير وعميق في التفكير الإنساني فكما علمنا النقاد أن قطرات المطر كالمني ألذكوري التي يطلقها الذكر لإخصاب أرضه وربما هذه فلسفة دينية وجدت في فكر البشر وهل يختلف اثنان بان الماء عنصر رمزي للتنظيف والطهارة وغسل الذنوب عند البشر وهل ننسى الله الخالق الذي خلقنا من ماء وتراب وهل ننسى السيد المسيح متعمدا بالماء الجاري وقتها في طقوس تتنوع الرؤى فيها وعلى قراءتي المتواضعة لأدبيات الدكتور العالم جواد الطاهر يرى ان قوة خفية في الماء توهب صاحبها طقسا ثابتا ومادام الماء جاريا نازلا من السماء الواهبة فثمة إشارة للشاعر ماجد أن الله سينزل الماء ويخلق البشر ويرزق العباد وتلاحقت صور الماء باشكال رائعة حقا وانا امسك قلما الرصاص اكتشفت سريعا مهيمنته,في إحزان الناي يشتعل الماء,انظر قوله:

يطلع الغيم من ليله

ويمسد حزن العصافير

يشتعل الماء او تنطفيءساعة الاحتراق

 

ودلالتنا يطلع الغيم وماذا يعمل يمسد وهنا دلالة الاحترام للطير في عدم العبث بحريته فكما اغتدى آمرو القيس (وقد أغتدي والطير في وكناتها) والشاعر ماجد في نصه الأول يمسد طيرها ناء اشتعال الماء وكم أعجبني فعله يشتعل بدلالة شعرية لشاعر صاحب تجربة وخبرة وامتهان للشعرية وبعد سطرين ماذا يفعل الشاعر قال:

اعمد ورد الندى

اسكب الماء

استنشق الذكريات

 

هل تابعتم معي العل اعمد ,يذكرنا برؤيا يوحنا المعمدان وقومه يعيشون قرب المياه كي يعمدوا أطفالهم انه طقس رمزي مااتي صدفة في فكر الشاعر وهو يبحث عن ماء ينقي نفسه بنفسه جار لاغبار فيه ولاشائبة ,ثم يقوم بعملية سكب للماء وفي القصيدة نفسها في مقطعها ذاته قال:

يسكب الماء حزن الظمأ

وفي العيد يحتفل القتل بالدم

 

عذرا أيها البلداوي ثمة رؤيا اعرفها احتفظ بها لنفسي وسوف أخبرك في الاتصال الهاتفي بيننا أن صورتك هذه مفهومة لاتحتاج الى دليل وقد انهى النص بنهاية رائعة وهو يشعل أوراق الماء فكل شيء يغير الوانه وهو يتناص مع مجموعة للشاعر شاكر ألعاشور الذي اشرف على دراسة عن شعره في الماجستير فعنوان ديوانه يغير ألوانه البحر ولكن الشاعر ماجد ذكي فقد البس الصورة ثوبا جديدا وقال ويزول الزوال متماشيا مع الفكر الذي رسمه سامي مهدي في الزوال

 

لوحة من جسد المقطع الثاني

الغيمة في مقطعه الأول كانت في مجريات ثلاثة اسطر وفي الثاني كانت الأولى قائلا:

ما بال الغيمة تبكي حجرا

 

أما قلت لكم أن الغيمة تحتل حجر الزاوية في دلالات الظمأ عند ماجد  ثم يردف مؤيدا قولتي السابقة

ما أعذب أن تتطهر بالذكرى

 

وبعد خلع قبله وتمريغ وجهه بالطين وصراخه الموجع يتورم جسده يرجع للاداء الصوتي الناي ثانية قائلا:

ياشجن الناي

وهو يترجم حزن الماء وحزن الطين

 

هذه اشارات ناطقة عن التكوين البشري من ماء وطين يؤكد عليها في غيبوبة الحق الانساني وينتهي واقفا عند شواطيء العشالق قائلا:

اتدفا بالماء وبالآلام  وبالإمطار

 

ومازلنا في حرائق ماجد وبكائيته على المطر السيابي وهو يقف عندجبل قاسيون قائلا:

اتيك محمولا على طبق من الإمطار فانتظري هطولي

 

هذا شعر كبير ايها الشعراء لاسفط ولانظم ولاخواطر ولامليء صفحات للطباعة المنبوذة فحرام على اللاشعراء ان ينتموا لشجرة العائلة الشعرية فلو كان الامر بيدي لحاكمت هولاء المتطفلين على الشعرية قولوا لهم بيع الخضار سهل فانفعوا الناس ودعوا الشعر للشعراء واقول لاول مرة اقرا لشاعر ياتي حبيبته محمولا على طبق من الامطار ولم يتوقف عند هذا بل جسد للمطر روحا ومشاعرا وقال في نصه العنوان:

لك أنت كل شيء قابل للاشتعال

لا لست استر خيبتي وشهيق أمطاري ولوعة ذكريات الطين

لقد ارصف شبكة معقدة كما اشرت في البداية من التوليفات الممسرحة ومنها قوله

ثمة من يسمي الماء مصيدة

 ويركض لاهثا نحو الغبار

 

وهو يقترح لغة ليفهما الناس لغة التاويل وكم تابعت الفعل ارمم عند ماجد ولم اسمع بحياتي شاعرا يقول:

ويرممون الماء بالإمطار

فلو نهض السياب من قبره لصفق لك على هذه الصورة الرائعة في انشودة مطره الخالدة

ونصل الى قلب الحدث وكشف الأوراق في شجرة الصهيل هنا تلاقحات فكرية وتجسيدات خصبة الشجر والصهيل فمازالت الطبيعة تتناسل والأحلى قوله:

دعي خطاي تمر

دعي الماء يغسل كل الشبهات

 

انه يحمل شكا انه يحمل بلوى لاندريها ربما الانتماء للزمن فلما يطهر الشبهات ويرمم شفتيه بالماء

ياماجد يابلداوي ماذا جرى لك في عملية الترميم اصرخ ولا ترمم وأنت المعترف في صرختك:

سأشكو صرختي للماء

 

وربما تتذكر قصيدتي صرخة في عنق الزجاجة نشرتها في المثقف وها أنت تصرخ للماء وترتق الكلمات وقد تثاقل عليك الهم تخشى أن يغمض جفنه الماء وهنا تجسيد آخر وشخصنه للماء  قولك:

هل سيغمض جفنه الماءالموشح بالنخيل

 

هذه بوادر الانتماء أيها العراقي المتشبث بأرضه حتى الموت وبعد رحلة لمسك القمر تعود ثانية للماء قائلا:

فوق الوسادة

في الماء في صمتك الحجري

 

إذن تنمي لشجرة البريكان صامتا ولكنك فاعلا في عطائك مهدما بمعولك صخرة الجهلاء

وخلاصة البلداوي شاعرا يريد أن يقولها باختصار شديد وقالها في قصيدته أسئلة للقصيدةص58

أي معنى لخارطة ضيعت في خطوط الدوائر

لون المكان

أي معنى لاشرعةلاتدل على العاصفة

أي معنى لذاكرة لا تشيخ

لعل القصائد أدرى

فتوجزنا ما سيحدث بالضبط

فماذا سيحدث بعد الذي قد حدث

 

رائع وفوق الأروع فقد قدمت لنا مائدة على طبق مكشوف قل قولتك للجلاد للصوص لمن تشاء فلن تموت مرتين وهيهات ان يسبح المرء في النهر مرتين

ولم يقف ترميمك عند حد فقد رممت المقاهي بعزلة خانقة والتماثيل بالفراغ لذا مسحت من حنجرة الماء مهينتك قائلا:

كي نحرق كل تقاويم الزمن الغابر

نمسح من حنجرة الماء خرير الوجد وتاريخ الاحزان

شعر يولد شعرا وصور تبتكر افكارا بتلاحق مرئي وتستانف قولك:

ادعوك الليلة

كي نغسل في صفحة هذا الماء

قصائدنا من حزن الناي

 

فمازال نايك مشتعلا بالحرائق وماؤك مشتعلا بالوجد أنواعا عجب من شاعر يمسد أوراق التفاح الناضج ويجهش بالبكاء ثمة قضية ثمة ضياع تلتقيه على أجراس الخيبة وصرخاتك معلنه في نهاية المطاف فقد أطلقت صرختك الأخيرة في قصيدة شجر الصهيل وجئت مكررا مؤكدا في قصيدة هيا التصقي

وماذا تفعل في حربك مع التفاح وتطوق خارطته انه رمز جمالي متقن تنام على دفئه وتعود ثانية لتؤكد للناس في قصيدة طفولة قادمة ولو أسميتها متأخرة لأبدعت حقا قلت:

سأغسل الماء من الشبهات

 

كل شيء يحتاج إلى التطهير والغسل وكم وقفت حائرا في قصيدة ترويض للطرق للزمن للكلمات والماء قضية الدراسة قلت:

سأروض الماء المعبأ في بطون البرتقال

وأقول يا بحر اضطجع بين الرمال

 

هذه دلالة فكرية ناصعة لايفهمها الا متبحر بالشعر فكيف يتسنى لك ذلك ان تروض من البرتقال شرابه المحتضر وأنت تؤكد اختصارك للكلام ولم تترك الترميم أيها المهندس الشاعر ولكنه ترميم للأخطاء ولا يسمعك احد فالقافلة تسير خطا وتعترف لا احد يشبه وجعك كلا فآنت في ميسان واحد من المنسيين من ألوف المبدعين وغيركم هم الذين خرجوا إلى الخيمة بقايا سقط المتاع وبصقات الفكر على زبد الزمن قولك:

لاناي الغربة

لاشجن الماء ولاصمت الشاعر

 

أترى كم عزفت بالناي متعبا ولم تترك إلا الشجن في مهيمنتك وكم أدهشت في حكتك الواقعية التي رضيت بها واقتنعت حيث لاشيء في يديك قائلا.":

أمنياتنا كالشظايا

يوزعها الانفجار على الجميع

دون تمييز

 

نعم ايها الشاعر فأنت عراقي لاتصرخ سينطفئ رماد الجهل وستولد الحرية يوما ويقول الشعراء قولهم الفصل واقتنعت أخيرا بانك ترمم أخطاءك المفرشة في قلوب منافسيك الضانين بك سوءا قائلا :

بحقائبي المتعبة

أرمم أخطائي واجلد ذاكرتي بالصمت

وكم صهلت خيول امانيك تنبش في الرماد قائلا:

ودع الرماد يفتش عن شبابه الغائب

خذ كل شيء واترك لي بقايا الحلم

 

ورجعت مقتنعا بانك لاتلوي الريح الى خيمتك حتى ان لملمت شظاياكوكم اقنعتني شاعرا يائسا مثلك بهذه القناعة الاخيرة قولك:

سابحث عن لغة ليس يتقنها الآخرون

وأدعو طيور القصيدة إن تترجل عن عشها

 

فقد سبقوك مترجلين عن صهوة الجواد وأنت أطلقت طيور الآمال فما أروعك ورضيت أن

 تقفل بابك عن الريح

كي تستريح

 

وأحسدك حقا أيها المخطط المفكر للشعر كيف وفقت في نهاية المطاف بانك زرعت وسادة في الختام:

تجدني أمامك

قربك-تحت سريرك-فوق الوسادة

في الماء

في صمتك الحجري

ايها الوطن ستجده شاعرا يفتح عينيه لمحبتك

 

وكم أعجبني نهاية الاختيار:

واختر من الأصدقاء الرماد

 

فثمة امل أن يشتعل الرماد ولكن املك ضاع ورحل عن هولاء أصحاب الخرس والخوف والانسحاق حتى الموت للضمائر

وبعد كيف تشكرني على عملي النبيل بل انا أشكرك على فيضك الرائع وأقول لك في مسك الختام يوما ما أرادوا قتلي وإعدامي وهياوا الإناء لإيصال الدم إلى عائلتي هدية فقلت لهم:

ياقاتلي !!!ماهمني تقتلني!! وتخرج الروح بسر عمي

أرجوك بل أرجوك يا قاتلي ماهمني الموت وماهمني

إناؤك القذر يلوث دمي

 

محبتي واعتزازي بك شاعرا مبدعا واقسم للجميع باني لم ارسم المديح إليك بل قلت الحقيقة والسلام

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1195 الاثنين 12/10/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم