صحيفة المثقف

المختصر .. المفيد / وديع شامخ

ونسعى جاهدين بكل ما أوتينا من قوة بأسٍ  وحكمة وطيبة قلب ودبلوماسية معا، لكي  نكون لطفاء، نمد جسور الوصل والمحبة فيما بيننا، رغم الهوة  التي تفصلنا، وهذا هو نظام البشرية في توافقها الإجتماعي والإنساني معا..  وكلما اقتربت الجماعات البشرية في محل إشتراكها من بعضها وتلازمت وقتا طويلا  صارت لها  لغة خاصة، مختصرة وموجزة وقصيرة الإرسال وغير مكلفة .. وسيكون حصاد الناس من هذه اللغة المقتصدة الإشارية  مزيدا من التفاهم  وعدم الهدر في الحب والوقت معا .

فمثلا  أن التحية بين الناس قد اختصرت من " جنجلوتية طويلة "  تبدأ بأسم الله ولعن الشيطان  الى مجرد كلمة لطيفة  وربما إشارة وهي تكفي تماما للتعبير عن المشاعر، وبالتالي تحول قاموس التحايا بين الناس الى نظام إشاري .

فالجيل الحديث الذي يعيش بيننا  قد أختصر حياته ومتطلباته  في نظام  المختصرات ..من السلام الى الختام .. فكلمة" هلو او هاي .. الخ " مع  ابتسامة معبّرة  كافيه جدا للتعبير عن مودة اللقاء دون عناء التطويل والمجاملات السمجة وهز الأيادي  هزا شديدا وتبويس اللحى والأكتاف  والجباه ..دون طعم ولا لون  ولا رائحة  إنسانية حميمة .

بل أن  وراء هذا الإحتفاء المفرط  ثعلب يلبط في عبّ هذا أو ذاك .

.......................

الحياة الإنسانية  الآن  تميل الى المختصرات .. الى إختصار الزمن  والعواطف  والأفكار .. والعالم كله يتجه الى القرية الصغيرة والأفكار السياسية الكبرى والمكونات السياسة الدولية تميل الى  الإندماج  في تحالفات  مجتمعية  ذات قيمة إقتصادية  أولا، غير تلك الأحلاف  اليديولوجية  والعسكرية  والتي كانت تشطر الغرب والشرق  وتؤسس جدرانا،  لا تبدأ  بجدار برلين ولا تنتهي   بسور الصين العظيم .. العالم الأوربي أختصر الكثير من الرطانات الوطنية والكرامات القومية  فسعوا الى إنشاء تكتل أوربي سميّ بالاتحاد الأوربي، جاهدت دولة أسلامية مثل تركيا جهادا مميتا من أجل الدخول في هذا المختصر العلماني  الصليبي !!!!!..

كما أن الدول العربية قد مارست هذه الصورة المستنسخة  لبناء تجمعات  مثل " مجلس التعاون الخليجي  الذي تأسس العام 1981 من الدول الخليجية الست " المملكة العربية السعودية، دولة الامارات العربية المتحدة، الكويت، البحرين، قطر وسلطنة عمان".   في حين  إن إنضمام الأردن واليمن والمغرب  للمجلس، كان  دليلا على وعي درس التكتل والإندماج وضرورته  مستقبليا .. وهي الدول التي أعفيت مؤقتا ولحد الآن من زوابع الربيع العربي ..

أي ان المختصر لا يمكن أن يكون مفيدا جدا إلا إذا  احتوى على عناصر قوته الحقيقية  والتي تحمل معنى وجودها  من داخل الكيان أولا  وليس مفروضة من الخارج  دائما  .

...................................................

في حياتنا الإجتماعية ونحن نصغي الى الناس، لا نحبذ الخطابات الطويلة  بناء على خبرتنا السيئة مع الخطيب  ومنبر الخطابة .. لأننا في منطقة الشرق العربي والغرب العربي والأفريقي  إعتدنا على خطابات دينية وسلوكية وسياسية تمتد على حياة المجتمع فتُغطي  اللسان والعين والفم  بغبار كثيف .. خطابات ماكرة في الإستحواذ على الحواس  وتحفيزيها  وفقا للمطولات .

الإختصار إتفاق  والمطولات فضاء للثرثرة والعي والفهاهة .. الإختصار موضوع فكري منظم  وجهد يشترك فيه الجميع  بينما الإجماع مادة الرعاع  والتغييب الفكري والعاطفي .

...............................

في حوار العاشقين،  سنجد  أن الحب يزدهر في الاختلاف أولا، ثم في الصمت إذ  يكون الصمت مؤشرا عاليا على لحظة إختمار للإختصار ..الاختصار المفيد هو ما تفرزه  العلاقات والعقول المنتجة في حقلها ..

نحاول في أحلام  اليقظة  أن  نستعيد النماذج التي تختلف معنا لقتلها رمزيا، والتخلص من آثارها الاجتماعية  والعاطفية والسياسية لكي نتخلص من سطوة  الهذيان  واللغو .

........................................

قال  المتصوف  الشهير عبد الجبار النفري " إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة "   أي  أن الناس يختصرون لغتهم  في التفاهم كلما زاد إقترابهم فيما بينهم .. وهذا أس خطير  في الحياة  تترتب  عليه  خلاصات غاية في الخصوصية  .. الرؤيا تعني المشترك  وهي دال  والعبارة مدلول .. اي أن الرؤيا  كدال عام  والعبارة كمدلول ذهني  مخصوص  يفترض أن كل الذين يشملهم الكلام  هم في حصانة المفيد من المختصر ..

لذا فأن الذي يريد أن يكون في باب المختصر المفيد، عليه أن يتعلم  السباحة في أفق الرؤيا أولا .. لكي يعبر الى جسر الدلالة والاشارة .

...........................

عندما  أقرأ مطولات  العرب  وخُطب قادتهم  وداء النسيان  الذي يصيبهم  في الوفاء  لما قالوه ..  أذهب الى المختصر لكي أنجو من  رطانة القول وسوء النية معا ..

هكذا سقط القول وصاحبه  وبقيت الإشارة ..

سقط صدام حسين لعدم إجادته فن المختصر المفيد وأهماله لإشارة الضحية .. وهكذا سقطت الديكتاتوريات العربية  كما  أحجار الدومينو تراتبيا ..

سقط الشاعر  لأن المنصة أخذت صوته  وأستحوذت على حنجرته وقامته ..

سقط الداعية  لأنه  لم يعرف فن الصمت في حضرة الآخرين .

سقط  المعلم  لأن  سواد السبورة أعلى من بياض طبشوره ..

تسقط الحياة  لأنها معلقة على قرن ثور  شرطا ..

المختصر والمفيد  هما  الحلم الذي نسعى  له  درسا  في حياتنا ..


 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2102 الخميس  26 / 04 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم