صحيفة المثقف

منشور سري / احمد فاضل

وزعيمها الذي أحبوه لم يخرج أحدا منهم ليمنع قتله في دار الإذاعة، وهكذا وببساطة تلقى الناس كلمات فجة عبر الأثير أن ( الطاغية والخائن المجرم ) قد قضي عليه وقتها تسائل عقلي بلساني وأنا أتحدث إلى أبي مستفسرا:

- يابهَ صدك الزعيم طاغية وخائن مجرم مثل ميكولون؟

فأجابني والدي جوابا حكيما مع أنه لم يك له باع في السياسة:

- شميكلون خلي يكولون .. إذا بيهم خير خلي يشتغلون مثل ما اشتغل؟

راح الناس في محلتنا يغطون في نومهم بعد ليلة تمردت فيها ألسنتهم لأول مرة غيرهيابين من الذين بسطوا هيمنتهم على مقدرات البلد، وراحوا يتوافدون أمام الصورة التي رسمها رسامهم عبد الهادي على جدار أحد بيوتهم للزعيم يترحمون عليه وعادوا إلى صمتهم ليحفروا له قبرا في صدورهم كما حفروها له في عهود سابقة .

قامت أمي إلى صلاتها فجرا فحمدت خالقها أنها وآل بيتها بخيروتعطرفمها بصلاة أخرى على محمد وآل محمد ثم اقتربت من الماء وتوظأت، لكنها أحست أن باب بيتها احدث صوتا فاستعاذت من الشيطان واخذت تنظر اليه بوجل فرأت ورقة تدس من تحته لتستقر غير بعيدة عنه وكأن ريحا حملتها إلى الداخل فاقتربت منها وأخذتها بيدها وهي ترتجف قائلة:

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. شنهو هالورقة هايهَ؟

ولكونها لاتعرف فك شفرة حروفها فقد دستها تحت وسادة نومها بانتظار أن يجلس جميع من في الدار لإطلاعهم عليها .

تسللت الشمس إلى دارنا وسط لهفة أمي التي راحت تسحب الورقة من تحت وسادتها لتسلمها الى والدي قائلة:

- عيني أبو أحمد .. الفجر وآني اتهيأ للصلاة لكيت هاي الورقة مذبوبة تحت بابنا الرئيسية .. مدكلي شكو بيهَ؟ تره جسمي ديرجف إلى هسهَ بسببها؟

تناول أبا أحمد الورقة وقلبها ثم سلمها إلي ّكي أقرأها وقد حاولت أن تكون قراءتي لها بصوت عال حتى يسمعني الجميع:

- بيان من الحزب الشيوعي العراقي ... الى أبناء شعبنا العراقي الحر السعيد ....

هنا صاح بي أبي أن أتوقف وأناوله الورقة فقد فهم موضوعها حتما وأمرني أن أنهي فطوري كي أعجل بالذهاب الى مدرستي مع أنني فهمت أنه يريد إبعادي عن هذا الموضوع جهد الإمكان وحاول أن يهدئ من روع والدتي وأخواتي اللائي لايعرفن سر هذه الورقة بالتأكيد، وفي ذلك الصباح خالف والدي قاعدته بالذهاب الى المقهى كعادته وسبت في بيته يفكر في أمر هذه الورقة مستعرضا جميع الإحتمالات التي قد يجد منها مخرجا واحدا يدله على أمرها، وهكذا حتى إذا ما تهيأت الشمس للرحيل خرج يجر قدماه بتثاقل حيث يلتقي بأصدقائه في مقهى الملا، وحينما التقاهم تعجب أبا قسمة من عدم حضوره صباحا حيث أطال النظر في وجهه الذي رآه قد غيمت عليه سحابة همْ فخاطبه قائلا:

- أبا أحمد .. شبيك اليوم؟ أكو شي صاير بالبيت؟

لم يحر في البداية جوابا لكنه قال وهو يقوم من جلسته ساحبا كرسيه الى مكان قصي من المقهى:

- كوموا يابهَ خلي نكعد ليغاد منا .. عندي سالفهَ أريد أطرحها إلكم وما أريد أحد يسمعهَ غيرنهَ؟

جلس الأصدقاء الثلاثة بعيدا عن المقهى قليلا وتلفت والدي يمينه ويساره ثم إبتدأ كلامه وأبا قسمة وأبا محمد يتطلعون له بلهفة:

- إليوم الفجر ذبوا على بيتنا منشور سري؟

- إشلون ..؟

صاح الإثنان لكنهم سرعان ما سكتوا كي لايثيروا انتباه رواد المقهى، وهكذا راح أبا أحمد يقص عليهما ما يحويه ذلك المنشور حتى إذا ما انتهى من حديثه بادره أبا محمد بالقول:

- أشوف المسألة عادية أبو أحمد ولتشغل تفكيرك بيه .. وانتهَ تعرف هسهَ أكو صراع بين الشيوعيين والقوميين والبعثيين وأظن أن المنشورات السرية رح تكثر علينهَ ابهاي الأيام؟ بس آني أريد أعرف بس إنتوا ذبوا عليكم المنشور لو أكو بعد غيركم؟

نفى أبا أحمد أن له علم بذلك ما جعل أبا محمد الذي يعرف الكثير عن هذه الأمور لعمله سائق في السلك الدبلوماسي وبمعية أحد السفراء أن يؤكد عليه أن يتحرى بسرية تامة عن هذا الأمر، وعادوا يطلبون من الملا أن يأتيهم بالدومينو وكأن شيئا لم يحدث من ذاك الذي أقلقهم قبل قليل .

الأيام كانت ثقيلة وهي تمضي على بيتنا وكنت أرى والدي على غير مزاجه الذي اعتدنا عليه فقد أخذ يحصي عليّ خطواتي ويسألني كثيرا عما أقرأ في يدي من صحف ومجلات، وعن الذي ألتقيهم من أصدقاء، أين يسكنون؟ ما هي أحوالهم؟ وكنت أجيبه بما ملكت نفسي من صدق حتى تأكد أنني لايمكن أن أتورط في هذا السن بالذات مع أي حزب من تلك الأحزاب الناشطة حينذاك والتي كانت تتصارع فيما بينها على السلطة، إلا أنه جائني يوما ليسألني عن بيت جارنا أبا ياقو ذلك الإنسان المسيحي الوادع الطيب والذي كان يخشى أن يكون لأولاده الشباب وابنه الكبيرعلاقة بالحزب الشيوعي الذي رمى منشوره علينا، أجبته حينذاك بأن الذي يربطني بهم فقط السلام ليس إلا وسعيد إبنهم لاأراه كثيرا، لكنه ظل متوجسا منهم واستعرض في مخيلته اسماءا أخرى من الذين يسكنون زقاقنا لكنه لم يكن متاكدا من ارتباط أي واحد منهم بهذا الحزب أو ذاك، ترك والدي هذا الأمر للأيام علها تكشف خيوطه خلالها وفي مقهى الملا ظهرت أصوات لم تكن تجرؤ على الكلام وقتها بهذا الذي تتحدث به الآن، فقد احتدمت النقاشات حول من هي الجهة الأقوى التي يمكن لها أن تتسلم الحكم في البلاد، القوميون كانوا يرجحون أن تؤول الدفة الى عبد السلام عارف لمساندة عبد الناصر له، أما البعثيون فقد بدأوا حراكا سريا من خلف الستار بعد انقلاب عارف عليهم، بينما راح الشيوعيون يتهاوون تحت ضربات وملاحقة السلطة لهم فتشتت قياداتهم وباتوا يراهنون على جماهيرهم الكبيرة دون أن يكون لهم موطأ قدم واحد في الدولة، والمفاجأة التي لم يكن يتوقعها رواد المقهى هي في ظهور أبا صباح الذي لم يكن يعرف عنه أن له باع في السياسة فقد احاطت به مجموعة من سكنة حينا يستمعون له وهو يتحدث بقوة عن عبد السلام والقومية العربية وعبد الناصر:

- شوفوا عيني .. المستقبل فقط للقومية العربية والرئيس عبد السلام راح يحقق الوحدة مع مصر وبعد لاأكو شيوعية ولا غيرها من الأحزاب تلعب بكيفهَ هنا؟

هنا رد عليه من كان يجلس بجانبه ومن خلال مخالفته لرأيه فقد استرعى اهتمام البقية بطريقة تناوله للموضوع:

- أستاذ أبو صباح.. إنتهَ تعرف العراق يعيش بيه العربي والكردي والمسيحي والصابئي واليزيدي فإذا طبقت هذه الشعارات فلا يكتب لها النجاح بدليل أننا لم نتقدم خطوة واحدة للتصالح مع الأكراد بعد سقوط الزعيم .

ظل هذا النقاش محتدما لكنه أشر بنفس الوقت سلبيات وإيجابيات ما يتعرض له الواقع السياسي في البلد مع عدم اقتناع الجميع به، وهكذا خيم الموقف وبقسوة على من راح يراهن بفوز هذا الحزب على غيره حتى حدثت المفاجأة الكبرى بسقوط طائرة المشير عبد السلام عارف في البصرة وتقلد أخيه لمنصب رئيس الجمهورية بإيعاز من بعض السياسيين الذين لم يروا أضعف منه لقيادة البلاد في مرحلة لاحقة يعدونها قصيرة في حساباتهم .

لم يكتف أبا صباح بعقد جلساته الحوارية في مقهى الملا لكنه نقلها الى بيته ولما كنت صديقا لإبنه صباح فقد كنت أتردد على بيته ومشاهدة تلك الجلسات عن بعد وهالني ما وجدت من صور كبيرة لجمال عبد الناصر وعبد السلام عارف وهي معلقة على جدار الغرفة الكبيرة التي تدار فيها تلك النقاشات علمت آنذاك مدى محبة أبا صباح لهما، ومع أننا نسينا ذلك المنشور السري إلا أن سعيد إبن جارنا أبا ياقو فاجأني في أحد الأيام قائلا:

- هلو أحمد .. ممكن أتكلم وياك شوية إذا ما عندك مانع .

- إي ليش لاسعيد ..

- طيب .. أريد أسألك سؤال بدون إحراج؟ لكيتوا بالبيت مرة ورقة أو منشور من هذا القبيل ..

فغرت فاهي من اثر الدهشة وقلت له بعد برهة:

- إي نعم سعيد .. وما عرفنهَ منو الذبهَ علينهَ؟

- الحقيقة هاي الورقة جتكم بالخطأ .. المفروض آني استلمهَ .. تعرف هيَ وين هسهَ؟

- يم ْ أبويهَ ..

- ها .. يعني يم عمي أبو أحمد .. زين عرفتوا شبيهَ ما بيهَ؟

- الحقيقة هيَّ مثل ما كلت منشور من الحزب الشيوعي العراقي ..

هنا إحمر وجه سعيد وتهلل بسعادة غير خافية عليه ثم قال:

- هذا اللي ذبهَ تيه وي بيتنا وبيتكم .. على كل المهم مراحت بعيدة ..

- شتقصد؟

- أقصد هم زين عدكم مو يم غيركم .. والوالد أعرفهَ يوزن الأمور أحسن من غيرهَ ..

ودعني سعيد ولم أفهم كلامه الأخير الذي حاولت أن أفاتح به والدي لكني تأخرت دهرا حيث رحل الى الأبدية دون أن يعلم مني ذلك حتى جاء ذلك اليوم الذي عثرنا في داخل بيتنا على ورقة أخرى تبين أن جماعة البعث هم من رماها علينا وعلى بيوت عديدة من زقاقنا، حتى اذا ما بسط هذا الحزب سيطرته على البلاد بعد ان أزاحوا عبد الرحمن عارف من طريقهم بعد ان وقف الشيوعيون من عهد العارفين في تخبط وصراعات داخلية حامية مابين خط آب الذيلي والاتفاق على شعارات هشة بالإسقاط بالعمل الحاسم، ولاشك أن انقسام الحزب والصراعات الحادة في الحركة الشيوعية عموما والسياسة المتشددة تجاه عبد الرحمن عارف ومعارضة خطواته الانفتاحية لاسيما الهدنة مع كردستان كانت من بين العوامل التي سهلت الانقلاب البعثي الثاني في تموز 1968 .

بدأ المسرح السياسي في " الطوبجي " يأ خذ لونا آخرا غير الذي تعودنا عليه سابقا فقد بدأنا نتعرف على شعارات جديدة ووجوه أخرى لم نألفها سابقا، أما أبا صباح وأبا ياقو فقد رحلا من محلتنا الى اماكن غير معروفة واستعدت محلتنا لاستقبال عهد جديد اصطبغ لونه بالدم مع لون آخر زيتوني أكثر قتامة جر علينا الويلات وكنت كلما مررت من جانب ذلك الجدار الذي حمل صورة الزعيم عبد الكريم في شارعنا الرئيسي أراها باهتة غير أن هناك شعاع غريب كان يحاول أن يتسرب من بين الشقوق التي أزاحت الصورة ولم يعد لها أثرا بعد الآن .

?

أحمد فاضل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم