صحيفة المثقف

تدوين الموقف في .. للدرس فقط / مثنى كاظم صادق

ولاسيما أن الشاعر يفصح لنا من خلال مجموعته الشعرية  (للدرس فقط)(1) عن معايشته الصادقة لتجربته أو لتجربة غيره، فثمة خصوصية للتجربة، لأنه يجيد ببراعة ملفتة، تدوين الموقف وإدانته و أخاله يطمح بشعره إلى هندسة الوعي العراقي، إذ شكلت نصوصه الشعرية ألواحاً إدراكية، بعنايته الفائقة بأحشاء النص الشعري . للدرس فقط مجموعة شعرية رقدت بين دفتيها مقدمة نقدية دسمة، وثماني عشرة قصيدة دافئة حفلت بالغنى والكثافة والنزعة السردية الحديثة حيث تترسخ فيها رؤية الشاعر للحياة، بتقنيات كثيرة، كان منها الصوفية المعاصرة، وهي من مرتكزات أسلوبه في هذه المجموعة، فهو يقول في قصيدة (آدم) بجدلية المصير (فما كنتُ (أنتَ) .. يوم عُرضت الأمانة ... / وما كنتَ (أنا) .. يوم حملتها رغماً عني ..) ص 20 إذ جعل الحشد الفلسفي كبيراً بهذا النص، الذي يحيل إلى الآية القرآنية الكريمة بتناصية كسرت المألوف لدى القارئ في قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) الأحزاب:72 إذ جعل (آدم) الحامل للأمانة رمزاً مؤطراً بالحركة، بثنائية التحول والمصير ولاسيما أننا نذكر هنا قولة السيد المسيح (ع): الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون، فقد حملنا هذه الأمانة من آدم دون محض اختيار، فالشاعر يريد أن ينسلخ عن مسؤولية هذه الأمانة التي حملها رغماً عنه وبدت تقنية تبادل الضمائر بين المخاطب (أنت) والمتكلم (أنا) جلية في النص لأن الضمائر تحيط بالذات وتعبر عن خلجاتها وخفقات تفكيرها . أما الصورة المركبة الإدهاشية، فجاءت مدمجة متناوبة، ليعيش المتلقي فعل التحول والمعايشة، ففي قصيدته (عتيق للبيع) نجد ستراتيجية التكتم والتحفيز واضحة جداً (أرسم .. شباكاً .. وظهر أمٍ مبتسمةٍ ... / فابنها في آخر الأفق يلوح عائداً .. / و(الخاكي) منزوعاً .. خلفه .. ومدفوناً في صناديق البريد) ص 11 إذ تتصارع في نصوص الشاعر فرضيات الخصوم بحدة، فنصوصه تخفي الجزء الأكبر من الصورة التي يريد الشاعر من المتلقي أن يقوم بإتمامها من خلال (تكديره) فيعمد إلى غمزه بمهماز الماضي المؤلم، فالمتلقي لا يلبث من أن يحاور النص من خلال تشجير النص وتفريعه وتغصينه، إذ كيف يتسنى أن نلمح الابتسامة وظهر الأم يواجهنا ؟! أنه ببساطة الشباك الذي يعكس هذه الابتسامة، صورة مشهدية جميلة تتجسم أمامنا، فالابتسامة مقترنة بالتلويح الذي ينم عن العودة بسلام لا عن الذهاب والوداع . يسبغ الشاعر على اللغة الفعل الخلاق، فهو يستغل فضاء الورقة الكتابي بامتياز ودقةٍ عالية، ليبوح لنا بمنعكسات الاغتراب والقلق القيمي، ففي قصيدة (كمان) نجد حساسية مفرطة باتجاه الأشياء (أربعةً كنا .. / يحسبنا الطرشان ماء ... ونحن ... ما ... ء ..) ص 29 فنثيث النقاط قد صير وغير دلالة كلمة ماء إلى صوت الماعز !! ويتساءل عمر السراي في قصيدته (صور من المحرقة) عن الضحية البريئة التي تذهب مصطبغة بلون خاكي في المعارك أو المحارق ، الذي أصبحت دلالته ممقوتة من العراقيين وسؤاله هنا سؤال استنكار وتعجب وربما غضب (من صبغ هذا النورس بالخاكي .. ؟! / من .. ؟) ص 48 يعتمد الشاعر على لغة رشيقة زيتية ليست عبئاً على النص، غنية ومكتنزة بالدلالات، هذه اللغة تحيل الواقع المحتدم المأزوم إلى صوغ نصي مشع، وإقامة علاقة عجائبية معه، إذ يعتمد الشاعر التكثيف النصي المركز، الذي يكهرب المتن الشعري ويجعله يتلألأ ويلمع بامتياز، باستعماله صيغ الأفعال المسندة للآخر، لتكون نصوصه حارة مؤثرة في المتلقي، ومن ذلك قصيدة (cv) (وتتمنى أن تنصب نفسك تمثالاً .. / كي يسحلك الآخرون ..) ص 3 وكذلك قوله في القصيدة نفسها (جنة .. وجهنم / إحداهما .. تقتلك حياً .. / والثانية .. تقتلك ميتاً) ص 4، فغالباً ما يستعمل الشاعر الطباق والمقابلة، لبث جدلية أو ثنائية تقوم عليها الحياة، كما عمد الشاعر إلى كسر أفق التوقع في متون نصوصه، ولاسيما في عنوانات قصائده ومن ذلك (غريب بلا خليج)، (وصايا العائد)، (صور من المحرقة)، (قلم ورصاص) .

 

....................

(1) للدرس فقط، شعر عمر السراي، ط1، الزاوية للتصميم والطباعة، بغداد 2011م . 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2115 الاربعاء  09 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم