صحيفة المثقف

أنا طالع الشجرة / دينا نبيل

...

ترتج الشجرة بقوة وتهتز أغصانها .. وتأخذ أوراقها في التهاوي والتبعثر حتى بدت كرأس زنجي أشعث صوته مرعب كصوت حفيف أوراقها ..

 وفجأة ..

وبعيداً عن أي توقع ..

 سقط جسد عارٍ !! ..

 فراغت الأصوات بين صرخة وزعقة .. وانكسر الإيقاع

-- " جمال !! "

هبّ الناس نحوه .. قلّبتُه .. وجهه أصفر شاحب قد تجمدت دماؤه في عروقه

 ماذا حلّ به ؟؟

وبين حسبلة وحوقلة، مرت الأحداث سراعاً أمام عيني في لحظة شرد فيها فكري وشلّ فيها عقلي ...

 

" قرية البقرة " .. قريتنا ..

وسبب التسمية وراء موت صاحبي " جمال "، رفيق عمري .

 كانت تتداول الأخبار منذ زمن بعيد حول حديقة عمدتنا التي تحوي شجرة وارفة ؛ تضرب بأغصانها في الأرض فينبت لها الجذور، فتخرج منها شجرة أخرى وهكذا حتى بدت كسلسلة أشجار ملتفة حولها .. وكان فيما يُروى عن هذه الشجرة أن هناك بقرة تسكن أعلاها ولها من الكرامات ما يطير له العقل تعجباً ... إنها بقرة تتكلم بل والأدهى أنها تحلب نفسها وتسقي عمدتنا " بملعقة صيني " !!

 

طبعاً كان الجميع مصدقين، فكل مرة تسقي البقرة فيها عمدتنا يخرج علينا بوجه غير الوجه الذي ذهب به ؛ يسود شعره الذي اشتعل شيباً ويعود ممتلئاً حيوية وكأنه ابن الثلاثين .. وما كان أحد ليشك فيما يقوله العمدة وبطانته من ورائه أن البقرة ستسمم البهائم إن امتنع أصحابها من دفع الإيجار أو أنها ستشعل النار في المحصول إن طالب الفلاحون بحصة سماد زائدة، وأنها ستفعل وتفعل .. وبالفعل كانت كثيرا ما تفعل .. كان حلم البعض وكابوس الكثير أن يجن جنون البقرة وتنزل من الشجرة .. ترى ما شكلها ؟ .. وماذا ستقول لنا ؟؟

 

كنت أنا و جمال كسائر الصبية في القرية نجري ونتحلق في حلق ونشدو :

يا طالع الشجرة ... هات لي معك بقرة

تحلب وتسقيني ... بالملعقة الصيني

 

 حلم يراود أحلامنا البريئة " أن نطلع الشجرة " ونقابل البقرة بل وننزل بها ليعم خيرها الجميع فتعطي هذا كوب لبن ليتغذى عليه .. وذاك ليصير أكثر شباباً ويقوى على إطعام أولاده .

كانت هذه من المسلمات لدينا، فكل ما حولنا يؤكد ذلك ؛ العمدة وبطانته وبعض من تراءت لهم البقرة في المنام .. ومن كان يشك فيها لحظة كان مصيره وصمة الجنون والجحود.

كبرت أنا وجمال، وكما كنا لا نفترق في القرية كنا لانفترق في الدراسة بالعاصمة، وعندما عدنا كانت القرية غير القرية .. ماذا تغير فيها ؟ .. ما هذه العيشة؟ .. ألا يرون صورهم في المرآة ؟ .. أشباح تمشي على الأرض .. أحياء أموات سلبت من أعينهم الحياة .. ملامح بلا معان، عقول تائهة وآذان من طين كالذي يدوسون عليه !!

 

أخذت أنا وجمال نتجول في القرية نتفرس الوجوه ونقلبها بأعيننا مصدومين، وكانت صدمتنا الكبرى عندما سمعنا شدو الأولاد :

يا طالع الشجرة ... هات لي معك بقرة

تحلب وتسقيني ... بالملعقة الصيني

--" أتذكر يا جمال ؟"

-- " أجل، ماذا يقولون !! "

-- " يقولون ما يقول أهالو القرية !"

مقطبا جبينه .. ( بجلابيته ) الزرقاء انطلق إلى والده :

-- " ما موضوع البقرة يا أبي ؟ "

-- " بقرة الكرامات والنعم يا بني .. . ربنا يحميها لنا !"

-- " يا أبي هذه خرافة !"

-- " اسكت يا بني لا ترفع صوتك فيسمعك الناس "

-- " ألا تسمع يا أبي ما ينشده الصغار ويردده الكبار ؟!! ... كيف تعيش بقرة فوق شجرة ؟... وكيف تحلب وتسقي بنفسها ؟!"

-- " تسقي بالملعقة الصيني "

-- " الملعقة ( صيني) أم صنعت في الصين ؟ .... ويا ترى البقرة جنسيتها (إيه)؟ ... أمريكاني؟ ! ... والشجرة شجرتنا ومزروعة في أرضنا وتسقى من مائنا ودمنا !"

-- " اسكت يا بني .. (كفاية) كلام "

-- " نعم (كفاية) كلام .. ويبقى الفعل !"

جريت وراءه .." ماذا ستفعل يا جمال ؟ " ....

-- " أنا طالع الشجرة !"

أخذت اجتهد في العدو خلفه إلا أنه كمارد خرج من مصباحه حديثا، لا يمكنني اللحاق به أو إيقافه، أخشى إن اعترضته أن ينفث النار ويحرقني ! .. قد استشاط غضبا فصار لا يرى سوى الشجرة في حديقة العمدة ماثلة أمامه تحوي هذه البقرة الشاذة التي رضيت مفارقة قطيعها من الأبقار وآثرت العيش منعزلة، وقد مسخت طبيعتها فبدلا من حرثها الأرض صارت تسكن الأشجار وتنظر إلى الناس من علٍ وتخور مستهزئة بهم، وطمست فطرتها فبدلا من خضوعها لثورها صارت تحلب نفسها بنفسها وتسقي عمدتنا وترضعه لبنها فيعود شابا من احضانها !!

-- " جمال .. جمال .. انتظر لا تدخل على العمدة هكذا .. لا بد من تصريح ! .. انتظر حتى يخرج من الشرفة أو ينزل يشرب الشاي في الحديقة .. لا تتعدى حرمة الدار ! "

وتعالت أصواتنا واختلفت أيدينا بين شد وجذب، فاجتمع أهل القرية حولنا فانتهز جمال الفرصة ووقف خطيبا :" يا أهل القرية !! .. قد عشتم سنوات طوالا في خرافة ... خرافة البقرة التي تسكن الشجرة .. لا يوجد شئ كهذا ! .. سأدخل الدار وأطلع الشجرة وألوح لكم من فوق .. و سأثبت لكم أنه لا يوجد لا بقرة .. ولا ملعقة صيني!"

 

ارتفعت الأصوات وامتزجت بين سب ولعن، نصح وتحذير وخوف وترقب، كاد الأمر يتطور للصقع والصفع والرجم والحثو إلا أن هلّة العمدة علينا من شرفته كانت أَذْهب لكل هذا

وسط سكون ترقب جاثم على صدور الأهالي شق صوت العمدة الأجش السكون

-- " ما هذه الجلبة ؟ .. وما هذا التجمهر ؟ "

-- " أريد أن أطلع الشجرة !"

 و كانت المفاجأة ..

-- " حسنا .. افتحوا له الأبواب .. تفضل !"

أ بهذه السهولة يكون الأمر؟!، إذن لمَ لم يطلبه أحد من قبل؟ .. ولم سكتنا عليه الدهر ولم يجسر أحد بالتفكير فيه حتى؟!

تردد جمال .. يمشي .. يجري .. يخطو خطوة ويتلفت حوله خشية طلقة غدر .. ينظر إلى الأهالي رؤوس مطأطئة، أعناق مشرئبة وأعين متعلقة بين الخوف والأمل، يرى في أحدها الدموع وفي أخرى التبسم .

فما أن اطمأن لمسيره حتى أخذ يعدو نحو الشجرة المحفوفة بسياج الأشجار .

 

يا طالع الشجرة ... هات لي معك بقرة

تحلب وتسقيني ... بالملعقة الصيني

وسريعا شمر (جلابيته) حتى بدت ساقاه السمراوان النحيلتان وأخذ يتسلق الشجرة، راح يتشبث بالأغصان فتتشبث به الأعين والأنفاس ؛ إن انزلقت قدمه انزلقت قلوبنا وسقطت تحت قدميه !

فما إن وصل إلى قمتها حتى استوى قائما وأشار لنا من بعيد منفرج الأسارير ..

وكانت اللحظة ..

 لحظة ولوجه في الشجرة ليغيب وسط أوراقها الكثيفة كطبقات وحجب بيننا وبينه

 

خرجت (جلابيته) الزرقاء ملوحة في الهواء معلنة الظفر والنصر، فانفرجت على إثرها الأفواه مكبرة !

 ثم..

 سقطت !

-- " هل سيخرج الآن ؟ .. بلا جلابية .. عاريا ؟!"

بين ترقب الرجال وغض طرف النساء، صاح صوت عالٍ هزّ الأركان .. خوار بقرة !! .. خارت على إثره القلوب وذابت من الرعب .

-- " هل هناك بقرة ؟ .. ولم لوح (بجلابيته)؟ .. ما الأمر؟"

وكان ما كان.. انكسر الايقاع .. واهتزت الشجرة وسقط جمال عاريَ الجسد

ووسط الصراخ والعويل وذهول الألباب، أخذت أقلب جسده ..

ماذا حلّ به ؟

 

وفتحت فمه ..

وإذا الملعقة الصيني محشورة في حلقه

 

.. فحبست بذلك أنفاسه !

 

دينا نبيل - مصر

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2116 الخميس  10 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم