صحيفة المثقف

من هو العراق؟ أمة تتشكل؟ أم دولة تتحول؟ .. عن الأزمة ومراتبها - والحالة و وصفها / علي السعدي

فيقع في مطبّ هنا ويحاول النهوض هناك من دون ان يحسم في السؤال الذي بقي معلقاً منذ قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921 إلى حين انهيارها  في التاسع من نيسان 2003 ومايزال : ماهو العراق؟ أو من هو العراق؟ هل هو امّة أنشأت دولتها؟ أم دولة  حاولت تكوين أمّتها؟ وكيف ومتى تحسم العلاقة الملتبسة بين أمة قائمة بذاتها واقعاً، وبين (أمم) مازالت  قيد الافتراض.

لاشك ان الأمّة كبُعد اجتماعي ثقافي، والدولة كمضمون اعتباري – سياسي وقانوني- هما مفهومان يحملان من الاختلاف بمقدار ما يحويان من التكامل، تلك جدلية التي لم يجر العمل عليها في العراق بالشكل الذي يسهم في بلورة وتطوير كلا المفهومين بما يتلاءم والوضع العراقي بتنوع مكوناته الاجتماعية، لكن التخبّط في السلوكيات السياسية، جعل من التنوع مشكلة بذاته، لا ثراءاً وغنى كما ينبغي أن يكون .

أولى المشكلات وأهمها، كانت قد ظهرت في عجز الفكر السياسي عن إيجاد صيغة معيارية لتحديد ما يمرّ به المجتمع العراقي ربطاً بالدولة من جهة، ومشكلات الدولة مع المجتمع من جهة أخرى .

من المتعارف عليه ان هناك خمس مراحل تقطعها المشكلة، فهي تبدأ أولاً بكونها إشكالية، وذلك حينما تكون تعارضاً  في الرأي حول قضية معينة، أما إذاً تعمقت الإشكالية وتفرعت وصولاً إلى التناقض، فتصبح عندئذ في موقع المشكلة، وفي حال تراكمت المشكلات وتنوعت، تتحول إلى مأزق ومن مجموع المآزق تنتج أزمة، وتلك عندما  تستعصي على الحلّ تصبح معضلة .

 تلك المراحل ليست تراتبية بالضرورة، ولا تصنف كذلك على درجة واحدة، إذ قد يقف  كلّ منها عند حدوده  التسمية من دون تجاوزها، وقد تقفز الى مراحل متقدمة بشكل متسارع، كأن تصل الإشكالية الى مأزق  دون مرورها بمرحلة المشكلة . 

أما المظاهرالمرافقة لكلّ من المستويات أعلاه، فيمكن إيرادها ضمن الآتي  :

-            الإشكالية – تعارض بحكم الخلاف.

-             المشكلة – خلاف بحكم التناقض

-             المأزق – تناقض بحكم الخصومة

-             الأزمة – خصومة بحكم العداوة

-             المعضلة – عداوة بدرجة تصادم (ثورة أو حرب) .

يمكن مقارنة ذلك بالحالات الصحية التي يمرّ بها الجسد، حيث الإشكالية تعادل العارض أو الوعكة – فيما المشكلات تقارب الأمراض الشائعة، والمأزق يساوي الإختناق، أما الأزمة فتقابل المرض الخطر، لكن المعضلة تعادل المرض العضال .

 إذا اعتمدنا تصنيفاً كهذا وتتبعنا على ضوئه مسارات العملية السياسية في العراق بدءاً  من مراحلها الأولى، سيظهر أنها كانت في مستوى (الأزمة) طوال الأعوام الثلاث الأولى للتغيير، حيث ترواحت علاقات الأطراف السياسية بين خصومة حادّة رافقتها تهديدات معلنة، وعداوة وصل بعضها درجة المشاركة الفعلية في العنف أو المراهنة عليه (1) لكنها هبطت بعد ذلك إلى مرحلة (المأزق) ومن ثم تراوحت العلاقات السياسية،بين خصومات أحتفظت ببعض حدّتها مع خطاب متشنج واتهامات متبادلة أستمرت طوال الفترة التي تلت ظهور نتائج الإنتخابات في 7آذار 2010، وبين حركة دؤوبة وحوارات مكثفة تراجعت حدّتهانسبياً بعد الإتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية بولاية ثانية للمالكي . 

بعد ذلك، وبعد أن تم الخروج من المأزق لتشكيل الحكومة، وصلت الحركة السياسة إلى مرتبة (المشكلات) وفيها استمرت الخلافات السياسية بين الأطراف المشاركة، فرواحت بين إرتفاع وإنخفاض وتوتر وتراخ وتفاهم وتناقض،لكن ذلك بقي يدور ضمن إطار الحراك العام للعملية الديمقراطية في محاولة كلّ طرف تحسين شروطه وتوسيع دوره وتعزيز نقاط قوته – بما فيها بعض تصريحات الكرد بالإنفصال -  أما الإشكالات،  فقد تواصلت  في كلّ مفاصل العملية السياسية لتظهر على شكل  تعارضات حتى في الكتلة الواحدة.

تلك هي المراحل التي شهدتها العملية السياسية في حيثياتها ومفرداتها، لكن الخطاب السياسي - ولارتباك المفاهيم وعدم الدقة في تحديد كلّ منها ودرجته- أخذ بمصطلح (الأزمة)  ليطلقه على العملية السياسية برمتها، من دون رؤية موضوعية للمراحل الحقيقية التي قطعها العراق منذ التغيير في شكل الدولة وبنيتها السياسية ونظام الحكم فيها.

لكن في وقت يحضر مصطلح الدولة باعتباره الأكثر إشغالاً للفكر واشتغالاً في السياسة، يكاد مفهوم الأمة ينحسر عن التداول، إلا باحتلاله مقدمة الشعارات الحزبية أو المقولات الآيديلوجية، في ظلّ غياب شبه تام لتجسيدات ذلك المفهوم، الذي مازال يثير التباساً ولغطاً، وهو مايعيد السؤال الى مبتدئه، هل العراق امة أنشأت دولتها؟ أم دولة ولدت قيصرياً وحاولت قسراً إنتاج امّة؟

لاشك ان الولادة الطبيعية للدولة، انما تأتي كتعبير عن هوية الأمة، ذلك لأن  الأمة التي تتشكل أولاً من جماعات ترتبط بمجموعة من العلاقات المتشعبة والمتشابكة تحتاج  معها الى نظم وقوانين لتدير شوؤنها وتضبط ايقاع حياتها، لذا فحين تتكون الأمة قبلاً ومن ثم تقوم بإنشاء دولتها، تظهر الأخيرة بكونها تعبيراً عن هوية تلك الأمة وكينونتها المجتمعية والسياسية والقانونية .

ان الدولة على هذه الشاكلة، غالباً ما تحمل (الجينات)  التالية:

-            تنشأ توافقياً أو اتفاقاً بين مكونات الأمة  .

-             تتميز بقابليتها للتغيير تبعاً لتطور الأمة ونموها .

-            يبرز مفهوم الأمة باعتباره  تكويني بطبيعته، فيما الدولة مفهوم وظيفي، لذا تقوم بينهما معادلة من نوع : امة متطورة – دولة متغيرة، أي ان الأمة تستطيع تغيير شكل السلطة ونظام الحكم ومواد الدستور بما يتلاءم وتطورها السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي - - الخ .

ذلك في المسار العام لقيام  الد ولة، اما اذا تغيرت المعادلة كأن تقوم الدولة أولاً، فإنها والحالة هذه، تتحول الى أداة قهرية  ضد الأمّة، فيما تصبح الأمة وسيلة استخدامية بيد الدولة، لذا تفتقد الأمة هويتها السياسية ووحدتها المجتمعية، في الوقت الذي تنحرف فيه الدولة عن وظيفتها الوطنية، وفيما تشهد الدولة واقعاً قلقاً وغير مستقر إجمالا، تعيش الأمة واقعاً (انفصالياً) عن الدولة، لتكون المعادلة بينهما على الشكل التالي: دولة قهرية – أمة مقهورة .

العراق الحديث، قد يكون من النماذج الأكثر وضوحاً  في هذا الجانب، فقد نشأت دولته الحديثة عام 1921 بفعل عامل خارجي، وفيها تسلمت مقاليد السلطة فئة حاولت تكوين أمّة على نظرة أحادية  ومقاسات غير مكتملة، فجاء بناء الدولة فضفاضاً من جهة، ومتصدعاً من جهة أخرى، ذلك لأن الدولة الحديثة اصطدمت بمجتمعيات متنوعة كانت تعيش على بقعة ارض محكومة قسراً بواسطة احتلال خارجي فرض سلطته على الأرض وحاول طبع السكّان  بملامحه الخاصة (الدولة العثمانية) التي لم تكن معنية بمفهوم الأمة إلا في كونها جزءاً من الأملاك السلطانية .  

وعندما انهارت الدولة العثمانية، قامت على أنقاضها دولة أخرى لا تختلف عنها في الجوهر، إلا في أقامة  سلطتها على بقعة جغرافية مؤطرة بحدود سياسية، لذا بقيت الدولة في كلتا الحالتين، مجرد مخلوق هجين لا يمثل سوى السلطة بوجهها القسري، وفي حالة كهذه، تصبح  الدولة عائقاً أمام النمو الطبيعي للأمة، وهو ماحدث فعلاً طوال العقود الممتدة من تاريخ إعلان قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1921، إلى لحظة انهيارها عام 2003 رغم التبدلات العديدة التي طرأت على شكل الدولة ونظام الحكم إبان تلك العقود ولم يرافقها تطور في مفهوم الأمة للدولة العراقية .

العقود الأربعة الأولى من عمر الدولة في العراق،  تنازعتها (أمم) ثلاث جميعها افتراضية على بساط  آيديلوجي (العربية – الكردية – الإسلامية) أما (الأمة) الوحيدة المتحققة في الدولة (العراقية)  فقد كانت خارج السياق فكراً وشعاراً وآيديلوجيا، فيما اكتفت السياسة بوجه عراقي  مركّب على مضمون خارجي، وهكذا لم تكمل الأمة تشكّلها، ولم تقم الدولة بوظيفتها ليبقى العراق متأرجحاً بين الاثنين .

 

لم تختلف المعادلة كثيراً في الخمسة عقود اللاحقة من العراق الجمهوري سوى في التغييرات العنفية المتلاحقة من اجل الوصول إلى السلطة، أما المعادلة بين الأمة والدولة، فاستمرت قائمة على مشكلاتها التي ازدادت حدّة وتعقيداً .

 

وباجتماع العوامل المذكورة  آنفاً، دخل العراق في مساحة رمادية، لكنها مفصلية في الوقت عينه، إذ انها المرّة الأولى في تاريخ العراق الحديث التي تنفتح فيها الاحتمالات على إمكانية تشكلّ امة عراقية وصولاً إلى ولادة طبيعية لدولة جديدة.

العملية السياسة القائمة منذ 2003، يمكن اعتبارها بمثابة مرحلة انتقالية، قد تفضي بنتيجتها إلى تكوين أمة عراقية  متحققة وفق ملامح واضحة

تجسّدها دولة تعبّر عن هويتها السياسية،بالتفاعل مع مكوناتها المجتمعية والانسجام  مع موقعها الجغرافي، لبناء من ثم تاريخ جديد يقطع في الذاكرة مما ناء ت به أزمنتهم، حيث بات العراقيون بحاجة لمن يبشّرهم بالمستقبل لا من يذكرهم بالماضي .

لكن تكوّن الأمّة في العراق  الجديد،لا يسير بدوافع ذاتية وحسب، بل عليه مواجهة سلسلة من المعوقات  وتقليم مجموعة من المخالب التي تعمل على منع العراق من تكوين أمتّه استناداً الى مكوناته المجتمعية بتنوعها.

 يأتي في مقدم تلك المعوقات، القوى والشخصيات السياسية التي مازالت تدفع نحو مشاريعها الخاصّة، ومن مثالها الأبرز مسعود البارزاني وخطابه (القومي) المتشدد في المكون الكردي، والسلوكيات السياسية  بسياقها الطائفي في المكون الشيعي- خاصة تلك المتمثلة بالمليشيات وقادتها -  والتنظيمات القومية والدينية في الجانب السنّي،التي مازالت على  انشدادها لمقولات تتغنى بجزئية العراق واشتقاقه من امّة أكبر (العربية) .

المكون العربي بشقيه (الشيعي / السني) قد يكون مرشحاً لتجاوز الخصوصيات الطائفية الموظفة سياسياً في المرحلة الراهنة، لصالح تشكلّ الأمّة في المستقبل، وبالتالي الاتفاق على شكل للدولة أكثر مرونة وقابلية لهضم المشكلات وتأطيرها  من ثم في  دستورحيوي يتخلص من ثغراته السابقة .

ومما يؤشر لتوجه من هذا النوع، هو الإزاحة  التدريجية لرموز تقف بالضد من تشكّل الأمة، وربما جاءت الضربة القانونية التي وجهت للهاشمي،وقبلها تلك التي تلقتها المليشيات الشيعية، كواحدة من الخطوات البارزة في هذا السبيل .

اما الخطوة التالية، فربما تتجه نحو البارزاني، الذي قد لايقلّ في مشكلاته  عن الهاشمي، إضافة الى كونه قد أصبح بمثابة جزء من المنظومة الدكتاتورية الآخذة بالانهيار، أما الحديث عن الانتخابات التي جاء بها إلى رئاسة الإقليم، فليست عبرة بذاتها، إذ طالما شهدت المنطقة مجيء رؤساء بطريقة مشابهة.

ان وجود شخصية كالبارزاني، ترمز إلى مرحلة ماضية هي الأكثر دموية وعنفاً في تاريخ العراقي الحديث، لم يعد مناسباً للتلاؤم مع بناء مرحلة مغايرة  تقطع مع الماضي، ولما كان المشروع السياسي للبارزاني  يقوم في أهمّ ركائزه،على استحضار مفردات تلك المرحلة والتلويح بتأجيجها مجدداً، في وقت  يسعى العراق  جاهداً لتجاوزها، لذا أصبح موضوع غيابه عن واجهة الأحداث، خطوة ما وفق ضرورية إذا أريد للأمة العراقية ان تتشكل على أسس حضارية بعيداً عن الفرض والمصادرة والتهديد بالحرب .

  (لولا أنبياء المهجر الذين كانوا لا ينفكون عن تنبيه اليهود إلى أخطار الانصهار،لاندمج  اليهود في الشعب الكلداني اندماجاً تاماً، بسبب ما توافر لهم من رغد العيش والأمن والاستقرار).

ذلك ماجاء في وصف  لأحد الباحثين اليهود، الذي توصل فيه الى خلاصة مفادها : ان اليهود لو حققوا ذلك الاندماج، لتجنبوا ماتعرضوا له  من مآس وويلات عبر آلاف السنين، ولم يحصلوا بنتيجتها سوى على كيان صغير (إسرائيل)مطوق بالكراهية ومهدد باستمرار، همّه الأكبر أن يعيش بشكل طبيعي، في دولة يدفن فيها الأبناء آباءهم وليس العكس  – على ماذهب إليه يوري افنيري - .

أما الكرد. فلولا (أنبياؤهم) الذين مازالوا ينفخون في آذانهم محذرين من خطورة الانتماء إلى امة عراقية متشكلة على أسس حضارية جديدة، لكان طريقهم سالكاً الى عراقيتهم، فهل يتعظّون؟؟ ذلك هو التحدي أمام أمّة تتشكّل، ودولة تتحول.

 

...........................

(1) الحديث هنا يتم عن القوى التي شاركت في العملية السياسية، أما المنظمات الإرهابية، فلها أجندات وحسابات خاصّة تراجع بعضها في العراق، فيما وجد بعضها الآخر ساحات أخرى للممارسة الإرهاب .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2131 الجمعة  25 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم