صحيفة المثقف

بصمات ثقافة الشرق ظاهرة على رواية دون كيشوته (1) / كاظم شمهود

من الثبات والارتقاء والتطور  خاصة في مجال الادب والشعر  وكتب الاخلاق والدين و الفن .. وهي قلما يعتريها تغيير لانها تتعلق بطبائع البشر ووضعه النفسي والعقلي  ..

فاذا قرأت مثلا  لشعراء الجاهلية او لعلماء الاغريق او وصف العواطف البشرية او الانفعالات النفسية ستجدها لا تختلف عن عواطف وانفعالات واحاسيس الانسان الحاضر ...

الحديث عن الاعمال الخالدة التي كتبها الاقدمون خاصة في مجال القصص والشخصيات الخيالية والحكايات الاسطورية، في الواقع  كانت منابعها الشرق بحكم كونه مهد الحضارات وتتابعها وتعاقبها  وقوة االعقل والادب والفن والاختراع .. كتاب –كليلة ودمنة- الذي الفه الفيلسوف الهندي – بيديا – منذ نيف وعشرين قرنا هو واحد من الكتب التي رسمت شخصياتها في عالم الخيال ومن عالم الحيوان ولكنها تعكس في مضامينها  فلسفة الحياة الانسانية  في كيفية التعاطي في الحكم واصلاح النفوس والمجتمع ... ويذكر انه كان اول كتاب يفتح الطريق الى النوادر والحكايات والقصص والطرائف والشخصيات الخيالية ،  وان كل ما جاء بعده فهو مكتبس منه سوى كان في الشرق او الغرب . وقد ترجمه  من الفارسية  الى العربية ابن المقفع في منتصف القرن الثاني الهجري .. واحب هنا ان اذكر بان بعض الديانات الهندية القديمة كانت ولازالت  تؤمن باستنساخ الارواح ولهذا فانه من الممكن ان تكون الشخصيات الحيوانية التي تظهر في الكتاب هي في الحقيقة انسانية ولكنها  باشكال حيوانية ...

وهنا ايضا ندخل في موضوع معقد حيث ذكر القرآن الكريم بان الله قد مسخ بعض الناس خلال التاريخ القديم  الى قردة وخنازير .. (البحث طويل)،  بعض المفسرين قال ان المسخ حدث في الشكل والبعض الآخر قال لا، ان المسخ حدث في الداخل اي في الروح والقلب والمشاعر و..  ولهذا نرى ان بعض الحكام العرب اليوم  هم في الحقيقة قردة وخنازير ....

  

و جا من بعده كتاب – الف ليلة وليلة – والذي يعرف بالانكليزية Arabian Nights  اي الليالي العربية – وهو ايضا من اصل هندي ولكن اضيفت اليه بعد ذلك بمرور العصور قصص وفصول اخرى  من مختلف البيئات والبلدان وكان اكثر البيئات التي اشتهرت بها هي  بغداد خاصة  ايام الرشيد . وتحتوي قصص الف ليلة وليلة على شخصيات خيالية مشهورة منها السندبات البحري وعلي بابا واربعين حرامي وشهرزاد وشهريار، وغيرها ..

و كانت بغداد هي الرمز التصويري لهذه الحكايات .. وكانت قصص الف ليلة وليلة تصف عالما مشغولا بالسحر والطرب والحكمة والشعر  وليالي غرام وعشق وهيام وحكايات ونوادر وفكاهة وطرائف من ابدع ما انتجه الفكر في ذلك الزمان ...

و يذكر المؤرخ ابن مسعود في- مروج الذهب -  ان الكتاب من اصول هندية وفارسية وكان يسمى بالفارسية (هزار افسانة) يعني الف ليلة وليلة ... وهو عالم ملئ بالقصص والاساطير الخيالية الساحرة ...

في سنة 358 هجرية /969 م  ظهر المفكر والكاتب والاديب بديع الزمان الهمداني في مدينة همذان وهو من عائلة عربية الاصل استوطنت همذان ..   وكان من اشهر مؤلفاته المقامات، وله الفضل في اسس هذا الفن حيث فتح الباب للكتاب الذين جاءوا من بعده مثل الحريري ..  ومقامات الهمداني هي عبارة  مجموعة من الحكايات القصيرة جمعت بين النثر والشعر بطلها شخصية وهمية اي خيالية تسمى ابو الفتوح  الاسكندري، ويروي هذه الحكايات شخص آخر وهمية يدعى عيسى بن هشام ... والبطل شخصية فكاهية ضاحكة تروي بدائع الطرائف والحكم باسلوب سبك اللغة جميل الالفاض مؤثر في الاعماق ...

الكتاب الاخر هو- مقامات الحريري -  ولد الحريري في البصرة سنة 1054 وقد  كتب   مقاماته  على غرار مقامات الهمداني من ناحية ادوار الشخصيات وعددها ومن ناحية الاسلوب اللغوي السبك الجامع بين النثر والشعر. ويذكر انه استنسخ منها 600 نسخة  قبل وفات المؤلف  سنة 1122

 وقد نالت شهرة كبيرة بعد وفاته وترجمت الى جميع اللغات خاصة الاسبانية في حوالي سنة 1222 م وكان بطل الحكايات او المقامات يدعى ابو زيد السروجي والذي يرويها شخصية اخرى  هي  الحارث بن همام وكلاهما شخصيتين خياليتين.

و  امتاز الحريري باسلوب فريد من نوعه حيث يملك قدرة عظيمة في لغة التخاطب والتأثير . والسجع، وجاءت  المقامات متراصة في اسلوبها وسحرها ومؤثرة في النفوس .. اما بطل الرواية ابو زيد السروجي  فقد امتاز بطرافة الحديث وجدية الالغاز وبين المكر والخداع ...

 

انتقال الثقافة المشرقية الى الاندلس

لقد انتقلت الثقافة المشرقية الى الاندلس  اما عن طريق الوافدين اليها من المشرق او الذاهبين الى المشرق  من الاندلسيين لطلب العلم  وكان من ابرز الشخصيات الاوائل التي ذهبت الى العراق للدراسة  هم:  محمد بن عيسى القرطبي سنة 179 هجرية،  وعباس بن ناصح الثقفي حيث كلف من قبل الخليفة عبد الرحمن الاوسط سنة 201 هجرية  لجلب المخطوطات العلمية والادبية  من العراق،  ومحمد بن حيون الحجاري  وابن مسرة القرطبي (ايام الدولة الفاطمية) ومنذر بن سعيد البلوطي قاضي قرطبة في زمن عبد الرحمن الثالث  وغيرهم ...

 وفي عصر  حكم الطوائف ازدهر الادب والشعر و اصبح هناك فسحة وحرية لمختلف الوان الثقافة خاصة المشرقية بعدما كانت الخلافة الاموية تفرض عليها رقابة قوية وتختار ما يناسبها  وتدين او ترمي ما سوى ذلك ..  ويمكن مراجعة كتاب- نفح الطيب – حيث يذكر بالتفصيل العلماء الذين ذهبوا الى المشرق لطلب العلم وكذلك الذين جاءوا الى الاندلس ..  وانتقلت الى الاندلس في هذا الوقت رسائل اخوان الصفا   وكتب  بديع الزمان الهمداني  وابو بكر الخوارزمي وكتب الشريف الرضي ومهيار الدليمي ومقامات الحريري   وغيرهم الذين اثروا تأثيرا كبيرا على الادب الاندلسي .. وقد استفاد الاندلسيون من معظم هؤلاء عن طريق المجموعة الادبية الضخمة التي الفها ابو منصور الثعالبي النيسابوري  سنة  384 هجرية  باسم – يتيمة الدهر – حيث كان لها مكانة ممتازة واثر عظيم في الاندلس ..

و قد كتب في هذا الموضع الدكتور محمود علي مكي في مجلة المعهد المصري – المجلد الثاني العدد 1 – 2 – سنة 1954 وكان يشغل مدير المعهد المصري في مدريد  يومذاك ..

 

 رواية دون كيشوته وتاثيرات ثقافة الشرق

ظهرت رواية دون كيشوته للكاتب ثربانتس بجزئيها سنة 1605 و1615 بعد عدة قرون من دخول مقامات بديع الزمان الهمداني ومقامات  الحريري الى الاندلس  حيث  ترجمت الاخيرة  الى اللغة  القشتالية وبالتحديد سنة 1222 م وانتشرت في جميع انحاء شبة جزيرة ايبيريا .. وعند مقارنة اسلوب  رواية كيشوته بمقامات الحريري ومقامات بديع الزمان الهمداني نجدها متقاربة ومتأثرة من حيث . اولا:  هناك وجود  شخصيتين خياليتين في الرواية وفي المقامة . ثانيا: من حيث الالغاز واسلوب الطرائف والحكايات الخيالية . ثالثا: من حيث اللغة التي تجمع بين النثر والشعر وسبكها. رابعا: الجمع بين الهزل والسخرية  والجد او بين الواقعية والخيال . خامسا ان النقاد يذكرون بان ثربانتس قد جعل بطله يروي عن رجل اندلسي اسمه حامد بن نخلة . سادسا: ان احد الكتاب والمحللين الاسبان المدعو ميلان كونديرا يذكر بان ثربانتس كان متأثرا بالثقافة والادب العربي . سابعا: ان ثربانتس كان قد سجن في الجزائر لمدة خمسة سنوات ولابد انه قد اطلع على ثقافة الادب العربي . ثامنا: ان العرب وحضارتهم لازالت  موجودة  في اسبانيا اثناء حياة ثربانتس وكتابته لرواية كيشوتة  . حيث ان اعلان  الطرد للعرب والمسلمين صدر سنة 1609 . تاسعا: ان احد الاخوة العراقيين المتألقين  وهو الكاتب والروائي الصديق  محسن الرملي قد كان موضوع رسالته للدكتوراة  هو  - روايه دون كيشوته –  حيث ذكر ان هناك  32 شخصية اسلامية في الرواية منها شخصية سيدي حامد بن نخلة، وهناك 220 كلمة من اصل عربي بالاضافة الى عشرات الامثال العربية ..

وعلى اية حال فان الشخصيات الخيالية   و القصص والحكايات الاسطورية   والنوادر والطرائف  كلها تعود في  منابعها الاصلية الي المشرق كما بينا ذلك سابقا . وهذا لايعني التقليل من اهمية  رواية دون كيخوتة  حيث يعتبرها بعض  النقاد الاوربين من اعظم الروايات التي ظهرت في  القرن السابع عشر. وهذا ما سنتحدث عنه في المقامة القادمة انشاء الله .      

 

كاظم شمهود

 

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2131 الجمعة  25 / 05 / 2012)

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم