صحيفة المثقف

المكسيكي الأنيق / أحمد فاضل

 

الثلاثاء الخامس عشر من مايو / آيار سيتذكره المكسيكيون بألم ولوعة ، فقد خرج عليهم خوليو أورتيغا ليقول لهم :

- لقد مات كارلوس فوينتس ..

أورتيغا هو صديقه وكاتب سيرته الذي قال له فوينتس مرة مازحا :

- كتابة سيرتنا الذاتية هي عبارة عن حفر قبر لنا .. خوليو ..

وفوينتس الذي بدأ القارئ في الولايات المتحدة بالتعرف عليه حينما ترجمت روايته " الغرينغو العجوز" عام 1985 وهي حكاية عن الكاتب الأمريكي أمبروز بيرس الذي اختفى اثناء الثورة المكسيكية ، أصبحت من أفضل الروايات القادمة من أمريكا اللاتينية في ذلك الوقت وقد تلقفتها هوليوود لتصنع منها فيلما ناجحا ظل في الذاكرة عام 1989 من بطولة غريغوري بيك وجين فوندا .

ومع أنه كاتب وروائي محسوب على الواقعية السحرية التي تميز بها كتاب أمريكا اللاتينية من أمثال غابرييل غارسيا ماركيز وماريو فارجاس يوسا وخوليو كورتازار ، لكنه يختلف عنهم كون أغلب كتاباته تنطلق من آيديولوجية أكثر مما هي سياسية كما يقول انتوني دي بالما الكاتب والناقد الأمريكي في النيويورك تايمز ، بميله الى اعتناق العدالة والدفاع عن حقوق الإنسان ودفاعه عن الثورات التقدمية كثورة فيدل كاسترو في كوبا التي انقلب عليه بسبب استبداديته الطويلة على نحو متزايد بحسب قوله ، وأبدى تعاطفا كبيرا مع هنود ولاية تشياباس المكسيكية الجنوبية في تمردهم الشهير على السلطة ، وتوجيهه انتقادات شديدة لإدارة جورج دبليو بوش بشأن تكتيكات مكافحة الارهاب وسياسات الهجرة واصفا إياها بالقاسية على نحو غير ملائم ، كما انتقد زعيم فنزويلا اليساري هوغو شافيز واصفا إياه ب " موسوليني القارة " مشيرا بذات الوقت على فشله بإدارة بلاده وعدم قدرته على القضاء على تجارة المخدرات والعنف المستشري نتيجتها ، وفي يوم وفاته نشرت صحيفة ريفورما المكسيكية مقالا له كان قد أرسله لها فبل أيام يشيد فيه بالتغيير الحاصل في فرنسا التي عمل فيها سفيرا لبلاده المكسيك عام 1975 ، لكنه استقال بعد عامين احتجاجا على تعيين الرئيس المكسيكي غوستافو دياز أورداز سفيرا في إسبانيا والذي كان قد تورط بشكل كبير في مذبحة تلاتيلولكو والتي راح ضحيتها العشرات من الطلاب عام 1968، تفرغ بعدها كليا للكتابة التي يعتقد أنها تجعل صوته أكثر مسموعا في المحافل السياسية وغيرها داخل بلاده وخارجها ، لكنه أعيد مرة ثانية للخدمة في السلك الدبلوماسي وفي نفس موقعه السابق في فرنسا .

انتج فوينتس أكثر من خمسين عملا توزعت بين الرواية والقصة والمسرحية والمقالة بحث فيهم عما هو مفقود من تاريخ المكسيك الحديث خاصة في رواياته التي راح يستكشف من خلال أبطالها موضوعات لم تعيها الذاكرة كرواية " موت أرتيميو كروز " الصادرة عام 1962 الذي يصف فيها بطلها أرتيميو بعد ان هده المرض والشيخوخة وهو على فراش الاحتضار يرثي نفسه بعدما كان اشبه بدون كيشوت قبل أن تغدر به الحياة متطلعا الى الوراء وكيف جاهد للخروج من دائرة الفقر ومآثره البطولية في الثورة المكسيكية .

ظلت رواياته طموحة وموضوعية ، فقد وصف الناقد الأمريكي مايكل وود في مقال له في صحيفة نيويورك تايمز متحدثا فيه عن رواية فوينتس " المصير والرغبة " الصادرة عام 2011 أنها ليست بالضبط محاكاة ساخرة لرواية تولستوي الحرب والسلام ، لكنها بالتأكيد قريبة من فكرتها وفيها شيئ من التنافس التاريخي وهو يقدم كميات سخية من الكوميديا والهجاء والخيال في رواياته الأخرى ، كما تحفل على التعليقات السياسية والاشارات المشفرة لبعض المشاهير هناك .

ورغم أن فوينتس كان قد كتب أعمالا مسرحية منها ما هو مستوحى من حياة بعض الرجال الذين خلدهم التاريخ ومنهم الجنرال أنطونيو دي سانتا لوبيز الذي قاد الثورة في ولاية تكساس المكسيكية ، إلا أنه امتنع عن كتابة سيرته الذاتية واصفا تلك العملية بحفرة القبر التي نحفرها بأنفسنا .

ولد كارلوس فوينتس في 11 نوفمبر / تشرين الثاني 1928 في بنما لأب كان سفيرا لبلاده في عدة أماكن من العالم ، وقد أمضى طفولته في العديد من دول أمريكا الجنوبية ، وفي عام 1936 تم انتقاله مع أسرته الى واشنطن بمعية أبيه الذي عين سفيرا للمكسيك هناك حيث تعلم اللغة الإنكليزية وتمكن من التحدث بها بطلاقة ، وفي عام 1940 تم نقل الأسرة من جديد وهذه المرة الى سانتياغو في شيلي حيث بدأ تجربة الكتابة ، في مقابلة له مع صحيفة التايمز عام 1985 قال انه كان أول من قرر ما إذا كانت الكتابة في لغة والده أم لغة أساتذته ، لكنه اختار الإسبانية لأنه يعتقد أنها أكثر مرونة من الإنكليزية .

بعد 16 عاما عاد أخيرا مع أسرته الى المكسيك وعندما سأله أحد الصحفيين كيف تسنى له معرفة تفاصيل مبهمة من تاريخ وطنه وهو يعيش بعيدا عنه قال " من خلال قصص الجدات التي كنت استمع لها خلال عطل الصيف التي كنت اقضيها معهم هناك وأعتقد أنني أصبحت كاتبا لأنني سمعت هذه القصص منهم ، وقال أيضا انه في عام 2006 أجرت معه أكاديمية الإنجاز الفكري في واشنطن مقابلة تحدث فيها عن هذه المسألة وكيف كان مفتونا بأحاديث جدتيه عن الثورات المكسيكية وقطاع الطرق والحب الطائش ، مضيفا أن مخزونا كاملا من الماضي كان قد استقر في رؤوسهم وقلوبهم ، لذا كان هذا شيئا رائعا جدا لي ، وهذه العلاقة أثمرت إثنان من الكتب كنت قد أصدرتهما حينذاك " .

في متحف المتروبوليتان في نيويورك اجتمع المئات للاحتفال بعيد ميلاده الثمانين وقد تحدث بلتران روبين القنصل العام للمكسيك بنيويورك قائلا :

" الحديث عن كارلوس فوينتس هو الانخراط بلا هوادة في التاريخ المكسيكي ، ولايمكننا فهم التقاليد الأدبية والإنسانية دون أن نمر على إسمه " .

* انتوني دي بالما / صحفي وكاتب أمريكي كان يدير مكتب صحيفة نيويورك تايمز في المكسيك منذ عام 1993 وقد غطى بعض من أكثر الأحداث الصاخبة في تاريخ المكسيك ، بما في ذلك انتفاضة زابا تيستا واغتيال مرشح الحزب الحاكم للانتخابات الرئاسية وأزمة البيزو التي أثرت على الاقتصاد المكسيكي بشكل كبير ، وقد كان معجبا بفوينتس وأجرى معه العديد من اللقاءات الصحفية وحضر معه احتفالا كبيرا له في بيته وكيف كان يتمتع بحيوية الشباب وهو يراقص زوجته سليفيا ، ومن الظلم العظيم أن جائزة نوبل لم تمنح له طيلة سنوات حياته كما كتب دي بالما .

 

عن صحيفة / نيويورك تايمز 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2133 الاحد  27 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم