صحيفة المثقف

أريد جثة ولدي .. فقط ...! / وديع شامخ

 

في المأثور الشعبي العراقي، وعندما يعجز الإنسان عن إثبات حقوقه فأنه يتوصل الى حلول إنهزامية محضة تمليها عليه قوة الآخر المُستبد، فلسان حاله يقول :" جزّنا من العنب .. وإنريد سلّتنا .."، وهذا هو آخر مفعول الجور، ونهاية يأس الضحية .

في حياتنا العامة يخضع ُ الأنسان لقَدرهِ المفروض غصبا بالكثير من الأمور العملية والواقعية .. فهو يستسلم لرجل الدولة وهو يسحقه عن طريق رجل مرور َنزق .. ويسحقه في المستشفى نتيجة لفساد إداري ومهني، ويندحر في محكمة الأحوال الشخصية لأنها سمحت لطليقته بأخذ حق الوصايا على الأولاد رغم قصور عقلها وتوفر كلّ الأدلة الطبية على منغوليتها .. وكذا تخسر المرأة حق تربية أولادها بقضية َنصب من رجل سكير وعربيد وسفاح ومجرم يعرف مفاتيح لعبة القضاء .

كلّ هذا يحصل .. بل يحصل المزيد في حياتنا الواقعية والإنسانية لأننا محكومون بالنار والحديد، ولاننا بشر أيضا ونحب الحياة كثيرا، لذا فيأتي تشبثنا فيها دائما من الباب الخلفي؟؟

نريد الحياة ولكننا نقصد موت الآخر .. نريد الرفاهية ولكننا نعني أفقار الآخر .. نريد الشهرة ونحن نقصد تهميش الآخرين ..

كلّ هذا يحدث لأن باب الحياة موضع تأويل وتفسير وإجتهاد، فالشيء المادي الملموس حسيّا سيتحول الى رجس أو طهر في نفس اللحظة .

يتحول القتل الى بطولة والقاتل بطلاً، والجبن شريعة وحكمة وسنّة متبعة، والشجاعة رعونة وتهور ... وكلنا سنساهم في حفل التطهير الجمعي لذاوتنا الخاوية .. للقاتل فينا، والضحية وهي تدور حولنا ونحن نلّوح لها بالسكوت .

كلّ شيءٍ جاهز للقبول .. الحرب الرعناء وهي تسرف في شراهتها، الأمهات يمزقن ثيابهن .. لعتاب الله .. لعقوق الأبناء، لخيبات الزمن، لبوار الأرحام ....

كل شيء يحدث ..

 النول لا يكون طوع صاحبه .. الِسجاد لا يحتفي إلا بالسائرين عليه بأحذيتهم اللماعة وعقولهم الباشطة بالمكر والحيل والدجل ..

كلّ هذا يحدث يوميا ولا غبار على واقعية حدوثه .. أما أن تقبل الأم موت وليدها .. فليست فكرة معقولة تماما لإرتباط الأم بعواطفها الجياشة بأبنائها . ولكنها في عراق " المدافن الجماعية " ولا أقول المقابر " لأن المقابر معروفة العنوان والتقاليد أيضا، أما الدفن فهو عشوائي" .. في عراق المدافن بدت فكرة تقبل الأم لموت أبنائها في غاية المعقولية، والأعجب جدا أن الأمهات جزعن من البحث عن سبب الموت ومقاضاة الجناة للوصول الى مقايضة الفرح بتسليم الجثة !..

الأم العراقية ستكون فرحة جدا ومتنازلة عن حقوقها وحقوق الضحية . بل ستدفع الأم والوالد والعائلة معا ثمن الرصاصات التي أعُدم بها ابنهم شرط أن يسلموهم جثته فقط..

لم يجري إطلاقا في أيّ عرف بشري، مثل هذا التعسف على الخيال قبل الحقيقة .

نعم جلجامش دفن أنكيدو ليتعلم درس الموت ..

ولكنها الأم " التي عجزت عن تفسير موت إبنها " في ظل أسباب الديكتاتوريات وانتصاب أصنامهم وبقاء كراسيهم .. نعم

الأم أرادت مساومة رخصية جدا ..

أعطوني جثة ابني .. مقابل السكوت عن سب قتله .. عن سبب الظلم ومصادره .، هل سمعتم بهكذا معادلة غير متكافئة ؟؟

هل تقرون بهذه القسمة الضيزى؟؟

في العراق .. نعم في العراق .. حدث هذا .. أمٌّ عجزت عن إثبات براءة إبنها .. فتقبلت الجثة قربانا لصبرها .. ولكن الأشداء من أبناء وطني لم يعطونا جثة الأبناء ..، هم يخافون من الموت والميت معا ..

أعطوني جثة إبني فقط ؟؟؟؟؟؟

ايّةُ مأساة تقف وراء خراب النفوس وخراب العقول وشحة العواطف الإنسانية ؟

هل من المعقول أن تكتفي المرأة بولدها ميتا دون تهمة .. لمذا تريد الجثة ؟

أيُّ سببٍ يقف وراء غريزة الأمومة وتخلّيها عن القصاص ؟

هل كان العراقيون حكماء ورحماء .. كما الأم التي قايضت دموعها بالصمت وجثة ابنها بالفرح ..

أيّ كارثة تحلّ علينا نحن الشهود ... القتلة ؟؟

نعم أنا اقصّ عليكم متوالية المدافن الجماعية :

يحكى إننا من عائلة تمتلك لسانا سليطا وإرثا عاليا في التصدى للإرهاب وللحكّام والجور..،

في عام 1981 وبتوقيت صيف البصرة اللاهب، داهمتنا قوة من أمن صدام والقوا القبض على أخي صبري شامخ،

ومن يومها ضاعت جثته وأنقطع ذكره ..

كنا ننتظره طيفا، وكانت أم فراس تنتظره فارسا لأحلامها ..

وكان تلاميذه في ثانوية الجمهورية ينتظرونه، كان الجيران ينتظرون أيضا ..

كانت الأرض والسماء تنتظر أخي صبري ..ولكنه لم يعد..

فتوخينا التقيّة .. وقلنا لهم .. أعطوناه ميتا .. فأبوا، أخبرونا بموته بوثيقة فقط .. وقالوا لنا:" .. لا مجلس عزاء .. لا عويل، لا جزع .. هم يصادرون حتى دموعنا ويحرمونا من الحزن ..

فلذنا بالسكوت .. نطالب بالجثة كي نكذب فيها آخر الأمنيات ..

نريد جثته كي نشم عطره الأخير ونرسم لوجهه آخر صورةٍ في ذاكرتنا ..

وربما نريد أن نبقيه في أحضاننا زمنا .. لأننا نشعر بالموت أيضا .. كي نتفسخ معا

لكنهم .. يعرفون مفعول الموت .. فرفضوا تسليمنا الجثة !

يا الله .. كلهم ... يخافون حتى من الجثث .. ودموع الأمهات جهرا .

.........................

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2137 الخميس  31 / 05 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم