صحيفة المثقف

آخر العشاق / احمد فاضل


"تعالي لأبحث فيكِ عني " ..

في أصبوحة رائقة من صباحات إتحادنا الأدبي وعلى قاعة شاعر العرب الأكبر " محمد مهدي الجواهري " الذي كان له الفضل في إرساء دعائم هذا الإتحاد، جلسنا في غرفته الرحيبة التي شعرنا أنه يحتضننا بروحه الرفرافة التي احتضنت العراق شماله وجنوبه، ومع أن الأصبوحة كانت مكرسة للإحتفاء بالشاعر والفنان التشكيلي المحامي سبتي الهيتي، إلا أنني آثرت أن أحتفي معه بشاعرآخر هو يحيى السماوي الذي ما إن جلست الى جانبه نستمع للهيتي حتى امتدت يده ليضع بين يدي ديوانه الأخير " تعالي لأبحث فيك عني " الصادر مؤخرا عن مؤسسة المثقف العربي في استراليا والذي وعدني به بعد أن وطأت أقدامه أرض العراق .

ولأن قراءة الشعر يزداد وقعها على النفوس كلما تخللتها أنغام الموسيقى كما يقول الشاعر الإنكليزي ت . س إليوت ( 1888 - 1965 )، رحت أقلب أشرطتي الموسيقية أيها أستمع لها وانا أقرأ قصائد الديوان التي تشعرك وأنت تتلوها أنك تجول حروفها حرفا حرفا، تشدك آهاتها، رعشاتها، وقد حاولت أن أكسر قاعدة القراءة بتناولي القصائد الأخيرة من الديوان لأنني أدرك أن الشعر لايمكن أن يكوي القلوب إلا إذا ازداد سعيره، فوجدت " آخر العشاق " قصيدة قد ازداد اللهيب بها مع ما صدحت به موسيقى باخ التي أججت النار في روحي وأنا أقرأ :

أنا آخر العشاق من أحفاد " أنكيدو " .. / وأنت بقية الوحشية الأشواق " سيدوري " .. / هبطت إليّ من فردوسك العلوي / أنسنت الضواري / في كهوف / الغابة الحجرية الأشجار / صرنا في هوانا / خارج التاريخ / والكتب القديمة والجديدة / واللغات السائدة .. / ترى لماذا - أي الشاعر - قالها أنه آخر العشاق ومن أحفاد أنكيدو ؟ لماذا لم يقل أنه من أحفاد قيس بن الملوح أو قيس بن ذريح أو عنترة ؟ أو أي مأزوم بالعشق أمثالهم، السماوي أراد لعشقه أن يكون أسطوريا، ساحرا، تتمثل فيه جميع الصفات فلم يجد غير أنكيدو مخلصا لايحيد عن مبادئه، " هو " اراد أن يكون تخيله الشعري لهذه الشخصية الأسطورية هكذا، أما " هي " فقد أرادها أن تكون بقية الوحشية الأشواق التي لايقف في طريق محبتها لحبيبها شيئ، أرادها كسيدوري آلهة النبيذ معتقة لايمضي بها العمر إلا وتزداد جمالا وحكمة، عليها قداسة أنها هبطت من فردوسها العالي فجعلت من الوحوش الضارية هيئات البشر، محبة، وهادئة، ووديعة بعد أن كانت تسكن الكهوف التي أشجارها حجارة، فصاروا في هواهم خارج التاريخ أو خارج ما تسطره ألواحه قديمها وحديثها، وبلغات الكون الآن :

علمتني كيف اصطياد غزالة المعنى / وكيف أسوق نحو البيد والواحات / قافلة الغيوم الشاردة / وأعدت للأشجار خضرتها / وللأنهار موجتها / وللعذق اليبيس نضائده / وأعدت لي / ما كنت قد أهرقت من ماء السنين / على رمال الأ مس في / وطني المخرز بالمقابر والمشانق .. / والمسيج بالخنادق .. / والمطرز بالتصاوير القميئة / والمحاصر بالجيوش الوافدة /، أجمل ما في الشعر هو الاقناع، وهو تأكيدا لموقف إليوت القائل أن الفن العظيم هو الذي يثبت وجوده بطاقة اقناعه كفن وليس بما يضفي عليه من تصورات فكرية مفضوحة لم تجد طريقها الى التعبير الأصيل، ومع أنني لا أريد هنا أن أعقد مقارنة بين السماوي وإليوت في صياغة أعمالهم الشعرية، فلكل منهما آلية قد لاتتشابه في الكثير من مضامينها، لكنهما يلتقيان بالتعبير فأبيات الشاعر الماضية عبرت عن روح وخصيصة كيف أنه قد تعلم من " سيدوري " في إشارة الى الحبيبة ما كان يجهله وأعادت له ما كان أهرقه في الأيام الخالية، شاعرنا هنا ينظر الى الوجود الخارجي نظرة ذاتية معبرة ومباشرة كما يقول الدكتور زكي نجيب محفوظ ( 1905 - 1993 ) وكأنما هذا الوجود خطرة من خطرات نفسه، أو نبضة من نبضات قلبه، وتلك هي نظرة الشاعر، وهي نظرة تتم على خطوة واحدة، بخلاف العلم النظري الذي تتم نظرته الى العالم على خطوتين - والكلام لازال للدكتور محفوظ - ففي الأولى يتلقاه كما تنطبع به الحواس انطباعا مباشرا، وفي الثانية يستخلص من معطياته الحسية نظريات وقوانين يصور بها مجرى الظواهر والأحداث ,, انظر الى العالم من باطن تكن شاعرا، إنها دلالات عبر عنها الشاعر في قصيدته هذه عن طريق مزج الماضي بالحاضر، الألم بالفرح، لكن الوطن يبقى على مسافة قصيرة من جرحه لأنه لازال يتذكره مخرز بالمقابر والمشانق، المسيج بالخنادق التي صنعتها الحروب، المطرز بتصاوير الحاكم القبيح، وطنه هذا ابدا محاصر بالغزاة الطامعين :

وأقمتِ لي / كوخا على سعة الهوى .. / النهر فيه الكأس .. / والخمر المسرة ../ والحقول المائدة / وأعدت رسم ملامحي .. / هذبت قافيتي / قتلت المارق الشيطان في جسدي .. / هدمت جميع حاناتي القديمة .. / والكهوف الفاسدة / آمنت بعد ضلالتي : / فالله واحد / واليقين الحق واحد .. / والتي ليست تسمى : / واحدة .. /، خطوات أخرى يمشيها بنا الشاعر لنقف عند كوخه الذي أقامته له ملهمته فيه الهوى لا حد له ولا حدود، فيه النهر، فيه الكأس، وخمرة رقراقة تبهج من يشربها، وحقول يانعات، وفوق كل هذا أعادت له صورته التي نسى ملامحها إلا بعد أن شاهدها فيها، فتهذبت أشعاره، ومات في أعماقه الشيطان بعدما تهدمت معاقله، آمن أن الله واحد بعد أن كان على شفا حفرة من النار، واليقين الحق واحد، والملهمة، الحبيبة واحدة، هكذا في لحظة صوفية ترتاح فيها نفسه الحيرى يقول عندها :

وأنا الفقير إلى هواك اثنان : / جذر ضارب في عمق طين الأمس .. / جذر لا رفيف له .. / وغصن دون ظل تستبيه الريح .. / أنت جمعتني / فأعدت ِ جذري للغصون .. / وللنخيل قلائده /، هذه الكلمات المرسومة بعناية ذكرتني بحديث الشاعر الهيتي المحتفى به في اتحاد الأدباء وهو يروي ذكرياته عن نزار قباني وكيف كان يرسم شعره بالكلمات، لكنه ليس الوحيد الذي رسم الشعر كلاما فالشعراء أغلبهم رسموا قصائدهم كذلك، لكن ألوانهم قد تكون قاتمة في جانب منها وقد تكون فاقعة، باهتة في جانب آخر، السماوي رسمها بشكل مختلف، ألوانه كانت حزمة من ضياء الشمس وعتمة السماء حين يدلهم ليلها فوق بلاده، فهو حين يرسم هواه يرسمه جذر ضارب في عمق طين الأمس أي بعمر العراق وحضاراته، جذر صلب كقوة نخيله، هذا هو هواه وهذا ما جمعته فيه الحبيبة فأعادت لجذوره الحياة مرة أخرى لتحياها الغصون بها، وللنخيل بهجتها وتألقها، لوحات يعجز عنها السوريالي لأنها ليست خيال وكل ما يقوله حقيقة :

وبعثتِ نهري من رميم جفافه / فاخضر شاطئه المقرح / واستعاد روافده / طوبى لنهري / في تلاشيه المبارك في حقولك .. / لانبعاثي فيك طفلا شاعرا / يلهو / فينسج من خيوط الماء / قرطاسا / ليكتب بالضياء قصائده / عيناي زائدتان / إن لم تطبقا جفنا عليك / ورحلتي إن لم تكوني يامقدسة / البداية والنهاية / زائدة *، الذي يلفت النظر في خاصية هذه الرسوم الكلامية عند الشاعر يحيى السماوي أنها مشبعة بإيقاعات داخلية اضافة لرسومها ما يعطيها تذوقا لدى المتلقي وإحساسا بها، وهو ما يؤكده أدونيس في هذا الجانب عندما يقول : ( أن من الخطر أن نتصور أن الشعر يمكن أن يستغني عن الإيقاع والتناغم )، " آخر العشاق " قصيدة تفصح عن خباياها في كلماتها الأخيرة فرحلة الشاعر في هوى الحبيبة جعلها البداية والنهاية كالوجود، وإلا لكانت غير ذي فائدة وقبل أن يختتم الهيتي كلامه بعد أن أحرق الجالسين بها دنا مني يحيى ليلقي في سمعي أنه يحتاج لتدخين سيكارة، فذهب الى خارج القاعة يدخنها وتركني لابتسامة حاولت أن أخفيها لأنني أعلم كم هو تأثير الشعر عليه، خاصة ذلك الذي يمتزج مع روحه فيزيد في حرقه فكان لابد من سيكارة لإدامة هذا الحرق !

" آخر العشاق " هي القصيدة الخامسة والعشرون بين قصائد مجموعته الشعرية الأخيرة " تعالي لأبحث فيك عني " والتي جاءت بطبعة أنيقة وب 130 صفحة من القطع المتوسط زينت رسومها الداخلية لوحات معبرة للفنان العراقي التشكيلي المغترب الدكتور مصدق الحبيب، قرأت في غلافها الأخير كلمات للشاعرة بلقيس الملحم وهي شاعرة سعودية تسكن الاحساء قالت فيها : ( .... فالمعجز في شعره أن الولادة التي يتأمل القارئ نهاية النص ما هي في الحقيقة إلا ولادة مستحيلة ! فمخاض الجمال يزداد صعوبة كلما انتفخ الرحم، مما يجعل النص نفسه يتمنى عدم رؤية النور آخر النفق، ذلك أن السماوي يبتكر اشكالا جديدة للأنثى، وأسلوبا اكثر غرابة لبدعة البكاء في حضرة البوح، وأسماء للوطن المذبوح الذي ورد ذكره في اللوح المحفوظ ) .


أحمد فاضل 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2137 الخميس  31 / 05 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم