صحيفة المثقف

"حيث لا تسقط الأمطار" .. جنوح السفن والمآل الحزين / عامر هشام الصفّار

وهو ما الذي دفع ناصرا الى فن الرواية بعد أصداره ثمانية دواوين شعرية، وبعد أن عرفته الساحة الأدبية العربية شاعرا مجوّدا؟..ولعل قاريء الرواية يغبط الكاتب على ما أجادت به قريحته كروائي..وهو هذا التنّوع في النتاج الأدبي مما يجده المبدع ضروريا أحيانا، وحسب مستجّدات حالة يتوجّب التعبير عنها بأسلوب آخر قد يقصر عنه الشعر فيستوعبه العمل الروائي..وهناك أمثلة في هذا المجال عن شعراء كتبوا سردا كالقباني نزار والدرويش محمود وأدونيس..كما كتب بعضهم الروايات، كرواية "الحديقة العارية" ل محمد القيسي ورواية "مرايا فرانكشتاين" ل عباس بيضون و"حديقة الحواس" ل عبده وازن ورواية الشاعر العراقي هاشم شفيق الجديدة والثانية بالنسبة له والمعنونة ب "أشهر من شهريار".

 

مناخية عتبة العنوان في الرواية

وعلى مدى 260 صفحة من القطع المتوسط  أو يزيد قليلا، يأخذك الكاتب أمجد ناصر-وهو أسمه الأدبي- في رحلة عائدا الى وطنه الأصل أو ما أطلق عليه أسم "الحامية"، بعد غربة عشرين عاما قضتها شخصية الرواية الرئيسة "أدهم/يونس" في بلاد تسقط فيها الأمطار..عائدا الى حامية حيث "لا تسقط الأمطار" فيها..فالعنوان دلالة المكان في الرواية..وأرتباط هذا المكان بدلالة مناخية تمييزا له وتصنيفا..والناظر لغلاف الرواية الصادرة عام 2010 عن دار الآداب البيروتية، يجد في الصورة شارعا خاليا بلّلته الأمطار..وأمتدّت على جانبيه عمارات عالية..وكأن القارئ يشعر بالتناقض المقصود بين صورة الغلاف المعمولة وعنوان الرواية نفسها.. حيث الأستنتاج بأن الشخصية الرئيسة تركت بلدا يميّز مناخه سقوط المطر بينما كانت "حامية" هذه الشخصية الأصلية أو الموطن الأصل أرضا صحراوية لا تعرف المطر صفة مناخية..

 

دلالات سيميائية في أسئلة المصير..

أن أستهلال الرواية من خلال فصلها الأول (قسّم الروائي روايته هذه الى عشرة فصول مرقّمة بأرقام لاتينية) جاء منفتحا على دلالات سيميائية واضحة، فسّرتها أحداث الرواية فيما تلى من فصول، أختلفت في عدد صفحاتها وعنف سردها وكثافته..فتقرأ في سطور الرواية الأولى "من أين تبدأ حكايتك الطويلة، أو حكاياتك المطلّة بعضها على بعض كبيت عربي قديم؟ أنت لا تعرف بالضبط."، فالسؤال هو المبتدأ به دائما لأنطلاق الحكي..ولكنه السؤال الأخباري الوصفي ..فالبطل هارب منذ 20 عاما من قضاء "الحامية" المدينة الأصل لأنه أتهم بأغتيال "الحفيد"..كناية عن رأس النظام، ملكيا كان هذا النظام أم جمهوريا..وهو صاحب حكاية طويلة..تمهيدا ذكيا من الكاتب لقارئه بأن يتحلى بالصبر على طريق السرد الذي لن يكون كلّه مفروشا بالرياحين..وكيف يكون ذلك وقرينه (يعرّفه في السرد بأنه "الشخص الذي كنته في ما مضى")..كان قاسيا معه ومنذ البداية..حيث  تناوشته أسئلة "مؤسسة الأمن الوطني" ذات الذاكرة التي لا تشيخ، والتي يقرأ أصحابها ما بين السطور..وذلك بعد أن حطّ الرحال في "الحامية" أو وطنه الأصلي ..وكأني به شخصية الرواية أدهم في بلاد الغربة أو يونس في "الحامية" أراد أن يطمئن قارئه حبا في أستعطافه أو مؤازرته بأنه هو أيضا لم يكن سهلا..فهو الذي عمل في "التنظيم" وفي جهازه الأعلامي والتعبوي ..وكأنه يريد قارئه الحصيف أن يعرف أن الشخصية العائدة، بعد أن جنحت سفينتها قبل سنوات، لن تكون سهلة، وهي التي عبّأت المناضلين سابقا وأشتغلت على توعيتهم فكريا وسياسيا.

 

يونس الخطّاط..والتدليل السردي

و "يونس الخطّاط"..هو شخصية الرواية المحورية..فهو الذي يعود الى حاميته بأسمه الحقيقي ولقبه "الخطّاط" الذي أخذه عن أبيه المبدع في الخط العربي، مما تفصّل فيه الرواية بجمالية في فصولها الأخيرة..ويونس هذا لم يرث حسن الخط عن أبيه بل أنه لم يرث عنه الكثير..حيث يستمر الروائي بضميره المخاطب الصعب قائلا " لم تحفل كثيرا بقصبات أبيك المستدقة، العريضة،الرفيعة، تلك التي تشبه سهما قاتلا مرّة، نايا جريحا مرّة أخرى..".

ثم أن يونس الخطّاط هو نفسه يونس الشاعر، دلالة القصائد الأولى نظما موزونا وبنظام التفعيلة..وهو نفسه المنتمي اليساري ، الذي لم تعد "الحامية" ومؤسستها الأمنية تهتم بعدائية هذا الأنتماء..وهنا يتبدى البعد الأيديولوجي –السياسي لرواية "حيث لا تسقط الأمطار"، فالعدو الحاضر كما جاء في كلام الرفيق القديم هو القوى الدينية المتغلغلة بين الناس ..المسيطرة على الشارع التي تكاد تكّفر الجميع..

وفي نفس المعنى تتناول الرواية موضوعة الأسلاموفوبيا أو الخوف من الأسلام في بلاد تسقط فيها الأمطار كناية عن بريطانيا موطن أدهم/يونس أبن الحامية..حيث يشير الروائي الى أحداث تموز 2005 وتفجيرات مدينة لندن ويعزو أهتمام البريطانيين بالثقافة الأسلامية الى ما حصل وقتذاك..دون أهمال الأشارة الى أحداث أفغانستان ولكن دون ذكر ذلك صراحة أيضا..ولا يتوقف السياسي عند يونس/أدهم عند هذا الحد بل تراه (يسخر) من بطل الطيب صالح في هجرته الى الشمال (دون الأشارة صراحة) عندما صاح جأتكم غازيا وهو يمارس الجنس مع المرأة الغربية دلالة الغزو..فيذكّره يونس شخصية "حيث لا تسقط الأمطار" من أن معنى الغزو قد تغيّر وتحوّل الى تفجيرات وقنابل، ولكن "يبقى الشر شرا..بلحية طويلة أو بذقن حليق.." ثم أن" الناس هم الذين يفسدون الحكّام وليس العكس..".

 

الحب..والحبيب الأول

ولم يكن أدهم/يونس العائد من بلاد الغربة بعد 20 عاما صحيح الجسم، بل أنه يبصق دما ويسعل بشكل غير طبيعي ويشحب لونه..وصفا صحيحا لما يمكن أن يكون عليه شخص مصاب بمرض السل المميت..ولكنه مصاب بالكآبة أيضا كما تطلعنا الرواية بل ويأخذ أدوية خاصة بها..وقد تكون الكآبة جرّاء الأصابة بالسل ولكنه لا يسأل علاجا للمرض الصعب، دلالة عميقة عن كآبة تصيب عددا كبيرا من الذين يعانون من الأغتراب..

والعائد –المريض يتذّكر حبه الأول، بل هو يسعى بكل الطرق للتأكد من أن "رلى" -وهذا هو أسم حبيبته الأولى الذي فسّر معناه حسب اللغة اللاتينية التي أستعمل أرقامها لفصول الرواية- لا تزال على قيد الحياة موجودة في "الحامية" بل ويعمل المستحيل بغية الحديث معها..ولن يكون ذلك الاّ عن طريق أبن أخيه "يونس" –وهو أسمه- أيضا، دلالة التواصل في الوجود..فيونس الصغير يرتّب لعمّه يونس الكبير لقاءا مع حبيبته الأولى "رلى" والتي لم تعد بعينه كماكانت.." سألتك أن كنت رأيت البلاد متغيّرة..فقلت لها بلى، فقالت كل شيء تغيّر ..حتى الطقس"... كما أن يونس الصغير هذا سيتمكن من ترتيب زيارة المقابر لعمّه حيث الوالدين والقبر والشواهد..وخاتمة الرواية التي يستعجل فيها القلم، فيطير طائر..وهو طائر جارح، ويتجمع الغبار..ويسعل يونس العم بشكل متواصل عنيف ، ويصير الأنطباع عند القارئ أن يونس/أدهم في حالة أحتضار..ولكنه عندما يعطي قطعة النقد الفضية الكبيرة وهي مسكوكة لمناسبة اليوبيل الفضي لتنصيب الحفيد..الذي طال أمد حكمه للبلاد..يرجعها أليه الحارس الأخرس، حيث لم يفهم الحارس هذا قيمتها المادية..وهنا تلخّص الرواية حالة مآلها الحزين، حيث لا يزال "الحفيد" جالسا على سدة الحكم..والمغترب عاد مريضا..حائرا أي من أسميه سينقشه على شاهدة قبره..؟ في حين راح التجدّد لروحه يجد علاماته في يونس الصغير الذي رافقه الى مقبرة يصيح فيها طائر جارح..  "الأشخاص يمكن أن يتكرروا على نحو أو آخر"..

بقي أن أقول أن لغة السرد والأشتغال السردي عند الروائي الشاعر أمجد ناصر هي لغة مريحة سلسة..لا أطناب فيها أو أسهاب في غير محلّه، ولا أخلال فيها أو أيجاز.. ثم أنه كما يبدو حاول أن يبتعد عن شاعرية توقّعها منه القارئ الذي يتمنى أن يكون  ل يونس/أدهم  حياة جديدة، يتحدّث فيها تفصيلا في رواية قادمة عن سنواته العشرين، التي قضاها في بلاد تسقط فيها الأمطار..ففي ذلك الكثير والكثير مما يمكن أن يكون حدثا وزمانا وأشخاصا..وأبداعا سرديا روائيا..

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2142 الثلاثاء  05 / 06 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم