صحيفة المثقف

مضار الديمقراطية وقرفها ... / وديع شامخ

 

مهاد

في تاريخ الجنس البشري  نلاحظ  تطورا كمياً ونوعيا  للوصول بالعقل الى قامته، ولخروج الإنسان من غابته السوداء  وإنتصابه  جسديا وروحيا .. ولقد ساهمت كلّ الحقول في رفد هذا الوليد الإنساني  الساكن على هذا الكوكب الأرضي بكل المنشطات  والمثبطات معا  ..وبعد أن تجاوزت الخليقة  الإنسانية معاركها في النشوء والإرتقاء، وإنتمت الى التطور العام ، بحسم الأمر بين مدرستين فكريتين كبيرتين وهما :  المدرسة المادية " الملحدة" والتي تؤمن بأسبقية المادة على الفكر، والمدرسة المثالية " المؤمنة" والتي تؤمن بأسبقية الفكر على المادة.

ونتيجة لهذين الإفرازين نشأت عقد ومعارك ومناظرات ومهاترات  لم يزل صداها قائما، ورنينها يصمّ الآذان .. ولكن كلا المدرستين رغم ضراوة تناقضهما فكريا  لم تُحمّل  معتنيقها قوة الأنتقام وارادة  التهميش، وظلت  أفكار المدرستين موضع  نقاش وجدل  في حقل الدرس  النظري المحض، حتى جاء الحقل السياسي / الديني  متطفلا  على إنجازات العقل البشري  ومجيّرا أياها الى مصلحته  ونفوذه الأيديولوجي، فبدأت معركة أخرى فتحت جبهتها  عقائد  وعقليات  طحلبية نشأت بشكل طارىء  نتيجة لإختلال موازين القوى السائدة  في السيطرة على الكائن البشري سياسيا.

.................

 

مسيرة الديمقراطية

الديمقراطية واحدة من المفاهيم الكبرى التي أنتجها العقل البشري  وخصوصا العقل الأغريقي  بوصفها " حكم الشعب لنفسه "

ولكن المصطلح تحُوّل وأخذ دلالة أخرى خارج حقل نشوئه، وحيازة أخرى خارج مفهومه . فالديمقراطية بدلا من حكم الشعب لنفسه، تحولت  الى آليات إقتراع  أملتها الأغلبيات السياسية .. فصارت الديمقراطية : "حكم الأغلبية" من خلال  تنافس  قارٍ مكتوب في دستور معلوم، وله قوانين ساندة تضمن تنفيذ عقد الشراكة مع الآخر بشفافية ونزاهة معقولتين   ..

وهكذا تدرّج مفهوم الديمقراطية, فبدلا من  الحكم  الشعب لنفسه  وفقا  للمفهوم  الأغريقي صارت الأغلبية  لعبة سياسية محضة  .. ومن الأغلبية نشأ فراغ إنساني حقيقي حوّل مفهومها ومدى سلطتها على " الأقلية".. وهذا الإزدواج لم تعاني منه  كثيرا  الديمقراطية الغربية حيث نشأت هناك وتربى  الناس على إستعمالها  بشكل سلمي ودوري بكل شفافية، وأصبح حكم الأغلبية  لا يعني سيادة مطلقة أو جور وظلم ُتطبقه الأكثرية  بحق الأقلية، بل هو مسؤولية الأغلبية السياسية في الحفاظ  على حقوق الأقلية، أو بشكل أدق، مسؤولية الأغلبية في تطبيق  الدستور وحفظ  النظام  خلال فترة فوزها في  تسلّم مقاليد  الحكم، وهذه الفترة لها مدى واضح و محدود غالبا .

أما الديمقراطية في شرقنا " العتيد،تحديدا حيث لم تنشأ  بشكل تراتبي وحضاري منظم، إذ إستلمناها  كوصفة غربية جاهزة.

 صار مفهموم الديمقراطية  معضلة تحتاج الى حلول .. فقد أعتبرت هيمنة الأغلبية على مصادر القرار هي  السمة الماثلة في ديمقراطيتنا الهشة، فالأغلبية تسيطر على المجالس البلدية  ثم مجلس  الشعب " الوطني، البرلمان.. " ، ومن نفوذ الأغلبية في هذه السلطة التشريعية الحاسمة ستكون لهم القوة في تنصيب  حكومة أو رئيس جمهورية، وفقا لنوع وشكل الحكم السائد في تلك الدولة .

لذا نرى زحفا مخيفا وغير مُطمّئِن  من قبل الأغلبية وهي تسحق بعجلتها كلّ شيء يقف خارج  مشروعها الأيديولوجي – الديني، ودليلها  قوة الأغلبية والتي تحدث دائما في ظل فراغات سياسية حاسمة في تاريخ الشعوب وهي  تتهيأ للإنتقال من مرحلة الديكتاتورية الى مرحلة الحكم الديمقراطي التعددي !

وبالتالي  ستكون الأغلبية أداة قهر رسمي وقانوني لحقوق بقية أبناء الشعب أو ما يسمى خطأ :" بالاقليات " وهو مفهوم عنصري تماما  تم استحداثه في شرقنا العتيد  لإعادة صياغته بشكل  طائفي أو ديني وغير إنساني تماما .. لان الأغلبية  وفقا للمفهوم الغربي تعني أولا وأخيرا أغلبية سياسية محضة .. وما حلّ بعد قطاف السلفيين لثورة الشباب العربي في ربيعهم العربي  وإسقاطهم للديكتاتوريات خيرُ مثال على إغتصاب  معطيات ونتائج الثورات  والسطو على أحلام الشعوب .

....................

 

مخرجات الديمقراطية العربية ثقافيا

ومن أسوأ مخرجات الديمقراطية على الطراز الشرقي – العربي،هو بروز نماذج من  المتطفلين لا صلة لهم إطلاقا بفن وموهبة  قيادة المفاصل  التنظيمية تشريعيا وتنفيذيا، لأن المحاصصة الطائفية مثلا في العراق ستجلبهم الى شَغل تلك المناصب دون توفر الحد الأدنى من مؤهلات هذا المنصب، أو ما يحدث  في عموم دول الربيع العربي  من  مهازل وصول أناس ،غير جديرين أطلاقا،  الى مستوى برلمان  في دول حضارية مثل تونس أو مصر، وهم عمليا وفكريا ينتمون  الى عقلية القروسطية المظلمة  بكل تراكماتها .

فمثلا يرشح  لمنصب وزير ثقافة العراق، وما تعنيه الثقافة العراقية من ثقل نوعي كبير، رجل كلّ تاريخه لا يتعدى كونه  " خطيب جامع"، وبعد فترة قصيره يدان  بتهم دعم الأرهاب ويهرب من العدالة وهو الآن حر طليق وضحاياه لم يجف  دمهم بعد. ومن هذا الحقل  المحاصصي بأسم الديمقراطية سوف تشاهد مدراء عامين في وزارة الثقافة  هم أقرب الى رؤساء المافيات، وكذلك  ترى من حصاد هذا الحقل  ان تنشأ صحف ومجلات ودوريات، وعليها قائمون ورؤساء تحرير لا يفقهون شيئا من أصول اللعبة الأعلامية" الميديا الحديثة"، ولا يتمتعون بأيّة مهارات ومواهب، ولا بشهادات أكاديمية تتيح لهم تبوأ هذه المراكز المفصلية الحساسة في حقل الثقافة والاعلام .. ويصح بهم قول المتنبي :

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى

عدوا له ما من صداقته بدُّ

 ولم يكتف العراقيون والعرب عموما  من أستنساخ مشوه للتجربة الغربية الديمقراطية والإستفادة من أطرها العامة وتطويعها محليا، بل تمادوا الى نقل التشوهات الى بلدان مهاجرهم ومنافيهم .. فصار لكل جالية  أمراضها الوطنية المنقولة والمستنسخة من أمراض أوطانهم الأولى ..  

فترى الزحف غير "المقدس" لإناس لا شغل لهم سوى تبوأ مناصب صحفية أو جهات إفتائية أو غيرها .  إذ يقوم هؤلاء بتسميم منظّم لرعاياهم والمريدين  من الجاليات .. يتخندقون ويتحزبون، مللّا  ونِحلا ضد كل صوت آخر وفكر حر..

حفلة جماعية يشارك فيها الصحافي الخانع  الجاهل بمؤزارة رجل الدين المتخلف  والداعية العنصري والطائفي، لتشكيل قوة بازارية ضاغطة أولاً.. تتخللها رسائل عنف خفيفة مؤشرة الى قص إجنحة الصوت الحر .

ونتيجة لعطالة هؤلاء من صحافيين ورؤساء تحرير ومؤسسات طائفية ودينية وحزبية فانهم  يحاولون إيقاف عجلة التاريخ في دول آوتهم من ظلم بلدانهم، وإحترمت  الانسان فيهم   وقدمت لهم كلّ شيء يحفظ كرامتهم وأمنهم .. ولكن مخرجاتهم كانت " عصابات صحفية، مؤسسات مشبوهة  لتصدير الجهل والتخلف، سموم   قادمة من عمق كهوف أرواحهم  المنخورة ".

والحقيقة الأكيدة أن هؤلاء هم من  نتائج ومثالب الديمقرطيات  أيضا .. ولابد لي في الختام أن أتذكر طيب الذكر الشاعر الحداثوي الكبير  نزار قباني وهو يرثي ثقافتنا  بقوله :

 

ثَافَتُنَا فَقَاقيعٌ مِنَ الصَّابُونِ وَالوَحْلِ

فَمَا زَالَتْ بِدَاخِلِنَا رَوَاسِبُ مِنْ أَبِيْ جَهْلِ

وَمَا زِلْنَا نَعِيْشُ بِمَنْطِقِ المِفْتَاحِ وَالقِفْلِ

نَلُفُّ نِسَاءَنَا بِالقُطْنِ، نَدْفُنُهُنَّ فِي الرَّمِلِ

وَنَمْلُكُهُنَّ كَالسِجَّادِ كَالأَبْقَارِ فِي الحَقْلِ

وَنَهْزَءْ مِنْ قَوَارِيْرَ بِلا دِيْنٍ وَلا عَقْلِ

وَنَرْجِعُ آخِرَ اللَّيْلِ، نُمَارِسُ حَقَّنَا الزَّوْجِيَّ كَالثِّيْرَانِ وَالخَيْلِ

نُمَارِسُهُ خِلالَ دَقَاِئقٍ خَمْسٍ بِلا شَوْقٍ وَلا ذَوْقٍ وَلا مَيْلِ

نُمَارِسُهُ كَآلاتٍ تُؤَدِّي الفِعْلَ لِلْفِعْلِ

وَنَرْقُدُ بَعْدَهَا مَوْتَى، وَنَتْرُكُهُنَّ وَسْطَ النَّارِ، وَسْطَ الطِّيْنِ وَالوَحْلِ

قَتْيْلاتٍ بِلا قَتْلِ. بِنِصْفِ الدَّرْبِ نَتْرُكُهُنْ

يَا لَفَظَاظَةِ الخَيْلِ!

قَضَيْنَا العُمْرَ فِي المَخْدَعْ

وَجَيْشُ حَرِيْمِنَا مَعَنَا، وَصَكُّ زَوَاجِنَا مَعَنَا، وَقُلْنَا: اللهُ قَدْ شَرَّعْ.

لَيَالَيْنَا مُوَزَّعَةٌ عَلَى زَوْجَاتِنَا الأَرْبَعْ

هُنَا شَفَةٌ، هُنَا سَاقٌ، هُنَا ظُفْرٌ، هُنَا إِصْبَعْ

كَأَنَّ الدِّيْنَ حَانُوْتٌ فَتَحْنَاهُ لِكَي نَشْبَعْ

تَمَتَّعْنَا بِمَا أَيْمَانُنَا مَلَكَتْ، وَعِشْنَا مِنْ غَرَائِزِنَا بِمُسْتَنْقَعْ

وَزَوَّرْنَا كَلامَ اللهِ بِالشَّكْلِ الذِيْ يَنْفَعْ، وَلَمْ نَخْجَلْ بِمَا نَصْنَعْ!

عَبَثْنَا فِي قَدَاسَتِهِ، نَسِيْنَا نُبْلَ غَايَتِهِ، وَلَمْ نَذْكُرْ سِوَى المَضْجَعْ

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2152 الجمعة 15/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم