صحيفة المثقف

التعبيرية الالمانية تعرض في مدريد / كاظم شمهود

وانسلخ عن طرز الاوضاع الكلاسيكية واصبح حرا طليقا في التعبير عن افكاره واسلوبه محلقا في آفاق ابداعاته وابتكاراته في الفن، مما ادى الى ظهور مذاهب فنية مستحدثة اتخذت بادئ الامر طريقة الرومانسية ثم اعقبتها الحركة الواقعية التي فتحت الباب الى الواقعية العلمية (الانطباعية) بعد ذلك انفتح الباب على مصراعية للمذاهب الفنية التقدمية في شتئ صورها المتطرفة منها المدرسة التعبيرية الالمانية الانفجارية ... وكانت شعوب هذه المناطق الشمالية ليست لاتينية وانما تعود الى اصول تيوتونية ونورماندية وثيلتاس ولها تقاليد مميزة ومختلفة نوعا ما عن شعوب حوض البحر المتوسط . وكان الفن التعبيري الالماني يتماشى وينسجم مع السجية النوردية ..

و قد نشأت التعبيرية في المانيا على فكرة ان الفن ينبغي ان لا يتقيد بتسجيل الانطباعات المرئية

بل عليه ان يعبر عن التجارب العاطفية والقيم الروحية . وقد كتب الناقد فرانز مارك: (نحن اليوم نسعى الى ما وراء قناع المظاهر التي تبدو لنا انها اهم من اكتشافات الانطباعيين ..)

كما ان ماتيس اعطى رايه بصراحه حول التعبيرية في كتاباته المعنونة – ملحوظات رسام –عام 1908 والتي ترجمت الى الالمانية (التعبير هو ما اهدفه قبل كل شئ ... فانا لا يمكنني الفصل بين الاحساس الذي اكنه للحياة وبين طريقتي في التعبير عنه . التعبير وفق طراز تفكيري لا يتضمن العاطفة المرتسمة على وجه الانسان، او تلك التي تفضحها حركة عنيفة . ان ترتيب صورتي باجمعه تعبيري . المكان الذي تشغله الاشياء او الاشكال، المساحات الفارغة حولها، النسب، كل يلعب دوره ... ان العمل الفني ينبغي ان يكون منسجما كليا . لان التفصيلات غير الظرورية ستطغي في ذهن الناظر على العناصر الاساسية .)

 

ارنست كيرشنر 1880 -1938 Ernst Ludwig Kirchner واحد من ابرز رسامي المدرسة التعبيرية الالمانية الذي احتل مكانا مرموقا في تاريخ التصوير الالماني والاوربي في القرن العشرين . بدأ حياته في دراسة العمارة ثم تحول الى التصوير وتزعم حركة جماعة الجسر (القنطرة) التي ظهرت سنة 1905 في دريسدن De Brucke - -والتي تتكون من : فريتز بليل، وارنست لودفيك كيرشنر، وواييرش هيكل، وكارل شميدث روتلوف، ثم انظم اليهم ماكس كمشتاين واوتو مولر .. وكان ابرز هذه الجماعة واكثرهم ثورية وتمرد هو كيرشنر الذي عكست صوره العارية والمناظر الطبيعية وشوارع المدينة طبعه الانفجاري والعصبي المتوتر .. وقد عرض مع هؤلاء الشباب عدد من الفنانين المعروفين مثل كاندنسكي سنة 1907 .

تأثر كيرشنر بالمدرسة الوحشية وماتيس- 1869- والتي بدورها كانت قد تأثرت بالفنون الاسلامية وقد تكلما سابقا عن هذا الموضوع في مقامة نشرت في- ادب فن- .. . حيث يطغي على اعماله الالوان الحارة المسطحة النقية والمتضادة مع فرشاة طلقة حرة، كما نرى ثراءا في التقنية وسخاء في الالوان والمادة الزيتية مع خط لتحديد الاشكال . كما تُأر بالفنان جوجان- 1848- والتقاليد الفنية للشعوب البدائية علما ان جوجان عاش فترة طفولته في ليما مع والدته والتي هي من اصل بيرو ، وفي تاهيتي وقد عمدته الشمس الاستوائية وكان شغفه كبيرا لكل ما هو بدائي فعاد الى باريس وهو محملا بتقاليد فنون الشعوب البدائية وكان الممهد الاول لظهور المدرسة الوحشية . ايضا نرى في اعمال كيرشنر، فان كوخ 1853حاضرا وادوار مونخ 1863 واللذان كانا قد بذرا البذرة الاولى للمدرسة التعبيرية الحديثة في اوربا . هؤلاء الفنانين المذكورين سابقا هم القاعدة الاساسية الصلبة التي قامت عليها مدرسة الجسر - القنطرة -.

وفي اسبانيا ظهرت جماعة نهجت مسلك جماعة الجسر اطلقوا على تجمعهم اسم -المرور-

Grupo El Paso- 1957 – وكان من ابرزهم الفنان سورا وميارس وفيتو وغيرهم ..وكان هذا التجمع بحق فتح بابا لحركة الفن الاسباني الحديث ..

كانت السنوات التي عاشها كيرشنر في برلين 1911-1915 حاسمة وبالغة الاهمية حيث الانطلاقة والثورة والتمرد وخلق لغة تعبيرية شديدة التطرف احيانا فكانت الاشكال تسيطر عليها خطوط ذات زوايا حادة متأتية من دراسته للهندسة المعمارية . كما نرى المنظور اكثر تطرفا في رسمه للمناظر والقرى وشوارع المدينة وهي المواضيع التي تسيطر على اعماله . اما الشكل فنراه محطما بضربات قاسية تعكس قلقه ووضعه النفسي ..

و رغم تالقه الفني والاجتماعي الا ان حياته كانت فوضوية ماساوية نتيجة لكثرة تناوله الكحول بشكل مفرط . وخلال الحرب العالمية الاولى التحق بالجيش الالماني ثم اعفي من الخدمة نتيجة لاصابته بمرض الاعصاب والوضع النفسي وبالتالي دخل المستشفى .... وهناك رسم النزلاء والاطباء والممرضات . وهذه الحالة تذكرنا بفان كوخ وادوار مونخ واصابتهما بالامراض العصبية والنفسية والتي بقت هذه الحلات السوداوية تطاردهما الى آخر العمر ..

و يعتبر بعض النقاد الاعمال التي رسمها كيرشنر في المستشفى من اهم اعماله التعبيرية حيث عكس فيها ويلات الحرب ووضعه النفسي والعقلي .

و يبدو ان المرض الذي لاحق هؤلاء الفنانين قد خلق منهم عباقرة فن ومدارس وكأنهم ارادوا تعويضا عن الآلام والبكاء والنقص في الخلقة الذي حل بهم دون غيرهم من الناس فمنحوا الموهبة دون علمهم بها . وكما هو الحال مع الروائي التشيكي كافكا 1883.

حيث كانت رواياته مليئة بالاحلام والكوابيس السوداوية والآلام والصراعات النفسية . وكذلك مع بودلير 1821 وديوانه – ازهار الشر- وكان يشم من خلالها رائحة المخدرات والعربدة . وكان يعتقد ان الكآبة قرينة الجمال الرفيعة. وكان غريبا شاذا مدمنا على الكحول .

 

و في سنة 1918 استقر كيرشنر في سويسرا في مدينة دابوس Davos وبقى فيها الى آخر عمره . وقد استمر في رسم المناظر الطبيعية والفلاحين مع ثبات كبير في سخاء الالوان وضيائها وبريقها الجميل . ومن اعماله المشهورة – خمسة نساء في شارع 1913- و–أمرأة مضطجعة 1909 – وهي تذكرنا باعمال ماتيس . ولوحات اخرى تمثل مناظر هاديئة للجبال والقرى والفلاحين والرعاة وقد نفذت غالبيتها في دابوس بين اعوام 1917 و1925 .

 

اليوم تعرض لهذا الفنان الكبير في مؤسست مافري Fundaci?n MAPFRE في مدريد مجموعة مختارة من خيرة الاعمال الفنية التعبيرية الراقية التي تعكس مراحل مختلفة لحياته الفنية، ونرى في هذه المجموعة اعمال متنوعة التقنيات بين الزيت والحفر والتخطيط والنحت والصور الفوتغرافية . وقد انجز هذا الفنان خلال حياته الفنية 1400 لوحة زيتية و20000 بين تخطيط ومائيات و1200 عمل كرافيك-حفر- و150 قطعة نحتية و50 مشروع هندسي معماري و1500 صورة فوتغرافية ..

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2152 الجمعة 15/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم