صحيفة المثقف

بيادر الضوء والجفاف والعجاج في مواسم القطاف الراحلة

لقد اشتغل الشاعر جبار الوائلي في مجموعته هذه على مهيمنة الذاكرة المختزنة لمعطيات التراث ضمن اطر إيحائية متنوعة وقد أكل الدهر على بعضها ولكنه استطاع بموهبة مدرس مختص وشاعر يفكر في تحويل صمتها الى لغة تتنفس الضوء بعد ان كان اليبس يمر في ثنايا بعض المفردات لكنه ايقظها من الصمت والجفاف وظلت الجفاف تتحدث اليه كثيرا خاصة ونحن اليوم على أبواب الجفاف القادم فلا مناص من الهروب من الحقائق الواقعية

قل انه استخدم الالفاظ بروح عصرية ذات إيحاء متحرك وقدرة متميزة به على سحب المتلقي وإثارته الى قضية لايجهلها على الاقل بل ينبهه اليها بشكل فني

ومن مجريات قصائده الضوء وكيف لعب لعبته فغي محوريات المتن "بيادر عشق

من رموش لملمها الضياء

يتحدى اوجاع السياط

من هنا ابتدا الوائلي مؤكدا على لغة العصر جامعا بين رموش لملمها الضوء ليقابل السوط وهو يؤكد على مرويات غائبة في محطات بلاده قائلا

تائها في المفازات السحيقة

ابحث عن هامات الضياء

علها تمزق نتوءات الصخور

ثمة شي يحرك أعصاب الشاعر باحثا عن السبب والحلول بين الصخر ليفتته ولكنه بات محالا حين يقول"

وتحرك معاقل الجنان

لكنها باتت محال

في عالم مقت الجمال

والجمال كما نعلم يريد صورة الجمال المطلقة في كل شيء لاجمالا وحسن المرأة حصرا فحتى بعض العاهات تعني في مركز الجمال شيئا

وفي نصه أوراق قيد التحقيق نجده طالبا من الضوء الإشعاع التغيير النور سمه كما تريد انه الضوء قائلا:

قل لم تجد صنوها الذي تبحث عنه

ليدخل الضوء

يعني الباب التي فتحت للدخول في كل العتمات ولكن العميان لا ترى ولا يعني الباب المطلقة بل كل انفتاح انساني نحو التغيير والانسان يدور في حلقة مفرغة لا يرى الباب المفتوح والتغيير الجديد بل استمر في عماه وهو يذكرنا بحال المعري يمشي وفي وضح النهار وفانوسه بيده خشية العابرين في طريقه فأنهم عميان

ولن ينفك ضوءه  من الغياب مؤكدا قائلا

القوي من نزف الصمت

وغنى فالخفافيش يهزمها ضوء النهار

نعم ايها الوائلي وقد هزمت وجاءت خفافيش اخطرمنها وستهزم حقا

لذلك يصنع موقفه موضحا الحكمة التي تقول من تساوى يوماه فهو مغبون قائلا"

اخجل جدا

ان مر يوم

وجراري بلا دمع

إشارات الى الحزن الثابت الذي لا يودع أي واحد منا في هذا الزمن العجيب لذلك يتابط ليله يحمل حقائب نزيفه قائلا"

سأمضي في هدأة الليل

متأبطا حقائب النزيف أين

فلا حدود ولانهاية لنزيفه وشكواه من غصة الزمن

ويعجب الوائلي من خرافة الناس ترى وتسمع وتتفاعل لكنها لا تميز بين الخير والشر بين الصح والخطا فمالذي ينفعها البصر والإذن قوله:

نوارسا تطير

بحفيف قناديل الورد

تبث دلائل الضوء عناقيد يانعة الوضوح

اسرجت بساط عناوين الوقوف

انها لا تعمل شيئا كل شيء متوقف ويظل بكاؤه ثابتا على الوضوح الغائب والحقيقة الميتة قائلا:

تمر قوافل العزاء

وبدهشة ابكي

لماذا تموت منابع الضياء

نرى هذا التساؤل قائما بلا أجوبة فمن الذي يخبره لماذا تموت المنابع ومصادر الفكر والنماء وتشتعل مسارح الشر والجرائم وفي قصيدة هكذا تعلمت الرثاء يؤكد:

من أرحامنا

يقتنص ولادات الضياء

السلحفاة تنال مقصدها المروم

بعناء ترفض زيف الرياء

وإقدامنا توجعها مراوحة المكان

فهذا الكلام يحكي ويثور ويتساءل لماذا السلحفاة أحقر الحيوانات تطلب رزقها بعناء ولماذا إقدامنا تراوح في المكان ذاته فلا تغيير انه الرقص على جسد الصخر والدوران على الحلقات الفارغة كالناعور يدور ولكننا في المكان نفسه

وينزل الى الشخوص مثالا فهذه المرأة :

برفيف  أجنحتها

تلون مشارب المزاج

وبانوثة تكتمل دورة الضياء

ومن حروفها يكفنك البياض

هذه اشارة ذكية الى قهر المراة ومتطلباتها فبالرغم من رفيف أجنحتها وسحرها وعفويتها وليونتها لكنها تقربك الى الشيب إلى العمر السريع بهمومها فالبياض كما نعلم إشارة الى الشيب والكفن المجاني وتبدأ حسرته صارخة قائلا:

اه لو تلبس الارواح شفيف

قناديل الضوء

لتفتحت نوافذ الرؤى

بلاسم تانق الوضوح

فنارات

هذا هم الوائلي الوضوح والحقيقة والنصاع وصاحب الحق ياخذ حقه في مدينة اسست قانون حمورابي وغدت بعيدة عنه ابدا

حتى غدا الضياء مؤودا في هذا الزمن فتبدل الوأد من المرأة في الجاهلية إلى واد الضوء قائلا:

تقدح نيران السهام

تذبح دمعات البراءة

وتؤود نبض الضياء فتداخلت كل الحواس سجينة

ليس لها مخاض

ثم يلح على القناديل المطفأة قائلا في القصيدة نفسها"

صار سلطان عصر زئبقي

أطفا قناديل الضوء

هكذا حملونا لافتات

ببلاغة حروفها كراد يس الجليد

إشارة الى عتمة الشعر واهانة الأدب ضمن عتمة قاتلة ولغة وبلاغة غائبتين عن روح الشعر خاصة وهو يصف الليليين ليس  لهم نهار ورصيدهم مخالب الرصاص كما مر تسميتهم بالخفافيش ليلا لاترى في النهر

هكذا يدور الوائلي ويبني مدرات شعره مؤكدا ازف القرار وحانت الغلبة للجهل :

هكذا ازف القرار

شوك نطق الدروب

من حماقات

اعتلى الدرويش كرسي الزناة

لاتعليق على هذا النص فالي زناة وايدرويش اترك النص للمتلقي ليقول قولته

وكم كانت افكاره تنهال انهيالا في رصف صوره الشعرية بإيجاز رائع مثل قوله"

حينما كنت صبيا

أحدق في أفلام الرعب

فارتجف ارتعابا

لكنني الان أفزعها طعما مستطابا

لقد نقل صورته بواقعية  وعليك ان تقارن الامس البريءواليوم العنيد الصلب

ويتخذ من الغيث الكريم مثالا :

الغيث

بمواسم يروي الحقول

ووطني بدماء غيثه مدرار في كل الفصول

هذا تشخيص حديث لمعاناة بلده ناظرا الفرق بين غيث الامس ودماء اليوم فالوطن الزرع والخضرة والخير تحول الى برك من الدماء والموت المجاني أما صهوة الضياء فتقول قولتها :

من نافذة الخوف

تمتلي جراحنا

صهوة الضياء

سلالما

فالى جنان

ليست من صنع الرب

فالموت هذا صنع بشري ليس لله الخالق من رؤيا فيه لذا بدأنا نمشي على الأصابع ورؤوسنا مقلوبة تحركها إيقاعات لانسمعها نحن لاندري لا نسمع لانقول ولكن لاحياة لمن تنادي لعجوز مخرف من زمن عقل الادغال

وكم رأيت الشاعر متشائما في قوله:

سألوني  الى أي وطن انتمي

فكما فاه القلب خجلا

الله  ياوطني   يا شرف  الحضارات والفكر والأدب الرفيع تحولت عند شاعر  يعبر الخمسين خجلا منك أن ينتمي إليك أين الانتماء نحن في وطن لا انتماء فيه

ثانيا إيحاءات مملكة الجفاف

في الضوء ثمة إرهاصات كشفنا عن بعضها وتركنا المتعة للمتلقي والثانية الوضوء إشارة الطهر الغائب ولكننا سنعبر الى الجفاف واليبس وضيعة العفاف والبراءة

اذ مزقت عفافات البياض

ولكن كيف مزقت في عتمة العجاج والعواصف والحروب ويكتفي بالصمت فهو ثورة جامحة وثمره داني القطاف قائلا:

الصمت ثورة جامحة

ثمارها دانية القطاف

تنالها بعيدا عن ثرثرات هوس الطريق

وغدت البراءة مقتولة واصفا اياها"

مزالق اروقة الفراغ

تمزق براءات العفاف بمساحيق دمى

تعتم احلام محطات الصغار

ولكنه على ثقة بان نهر دموعه  يتدفق بكاءا على ضيعة الوطن قائلا:

نهر انت فيها يتدفق

نهره لم يهزمه الجفاف

 

والأصعب من هذا ان الحروف قد يبست على حد قوله"

من ها هنا

تيبست حروفنا

من هول أقاويل الجفاف

ثمة شيء جاف لا يكشف عنه قل الحقيقة الغائبة القاتلة لسان صاحبها ولكن هل يتوقف الشاعر صامتا حين تجف انهار القلب قوله"

ان انهار القلب

أصابها الجفاف

ومآتمنا زغاريد

يغريها

عباب أمواج الدماء

حتى يرجع معريا اردية العفاف قوله:

لأعري عنها أردية العفاف

فتنتحر أعناق الحياء

بغواية

والأصعب من هذا كله ان شذى العفاف قد تمرغ في الرذيلة فكيف يسكت الشاعر قوله"وتمرغ شذى العفاف

باختراقات مباخر النذور

وخرافات أزمنة الطقوس

لامهرب من الزمن ولعبته وخرافته فهو اقوى من الشاعر ولكن الشاعر لا يبقى ساكتا بل يصر على الخوض في مسارب الصراع

 

 اترك الوائلي محتضرا بغوايته بدموعه وانتقل إلى المهيمنة الثالثة

أغاني الربيع المطلقة في موال وائلي قوله:

تناسل أفراح الربيع

فتبكي مواسم الحقول

تروي جذورها

ثورة الغضب الخصيب

بهذه اللافتة يبدأ الوائلي صراعه مع هذا الفصل الذهبي في العمر ويراه ربيعا متعبا قد أغلقت أبوابه قائلا"

اوهبنا صباحات

لاتغيب

ومفاتيح مغاليق الربيع

ويسقط همومه اكثر حين يرى الربيع يحز الاعناق قوله"

شاهرا سيف الضغائن

يحز اعناق الربيع

بحروف

 تقدح نيران السهام

تذبح دمعات البراءة

ونحن لانجد نهرا عذبا ولا شعرا صافيا متألقا ماالذي بقي إذن فالريح لها ماتشتهي أخذت كل شيء منا بعواصفها المخربة

فحتى سنابل الجفاف تنتشي بخيبتنا ليس إلا قائلا:

لمنابع

تنتشي بنشوة سنابل الجفاف

والعتمة من العجاج المستمر مازالت تدق الأجراس

قوله:

بعتمة العجاج

لتطفيء بوارق

النهار

ولكنه من بين أفنان هذه الظلمة يقول"

من ظلمة العجاج

اصغي لنداءات الروح

وارتعاشات الجسد المسجى

انتفض

ولكنه يعترف لقد جاء في آخر المطاف لا يصنع حلا ولا يغير شيئا في الزمن المقلوب,ويتمرد ويصر على ان العجاج من تراثه الغريق بالخبال والوهم"

لسنا من عالم الإحياء

أما ترى عجاج الأرض

يصرخ بالرثاء

 

والاصعب منه عجاج الريح اه الريح التي اشتهت كل شيء واخذته منه

قائلا"

لا ان عجاج الريح تفزعنا

ونحن نتناسل من رحم قابيل في كمل الاوقات

اشارة الى الخطيئة الاولى في عمر الزمن فهابيل وقابيل يتصارعان ويدفن الغراب السواة وهذا ليس غريبا على اخوة يوسف وشعب جبار

فالعجاج والخطيئة غديا ارثا على حد تعبيره:

ولدتها الريح

من ارث عجاج

قزمني

ببراقع ألوان الغباء

هذا فن رائع في مقامات شعرية واعترافات شاعر بصري يمل من نكاية وطنه حتى الموت فلا تغيير فيه ابدا

لقد وصلتني مجموعته من سفير الصحف البصري ناصر يوم 16/10/2009 متأخرة وفي ليلة واحدة فقط قراتها بنهم لان جبارا قلبي وأخي وصديقي نتفق على ما نصه في الإهداء قائلا لي/_(من أجل مايجمعنا)ولعلكم تكشفون ما يجمعنا من أسى وحزن وبكاء على ضياع كل شيء

واجد الشاعر في مجموعته الثانية قد ركب في سفينة الشعر وفي قادم أيامه يقول لنا شيئا جديدا إن شاء الله تعالى

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم