صحيفة المثقف

الآخر .. وداء الشرق العضال / وديع شامخ

... كما أن الحياة ليس مقوسة بين " مزدوجين " وغير مجيّرة لأحد،

لكلّ منّا حصته المنصوص عليها زمنيا ومكانيا ووفقا لاستحقاقات  قانونية، إجتماعية وأخلاقية .. لا حق لأحد  بسرقة حصة الآخر  في الهواء والماء والأرض والشمس ...

لا أحد له الحق في فرض قوانينه ونظامه  .. الحياة قمة تتسع لكلّ المتسلقين .. فيها من التباين والإختلاف والإندماج والتناغم والتباعد والتقارب ..

فالبعض يرى أن الحياة جهاد  لفرض الرأي وكما جاء في أحد قصائد الشاعر احمد شوقي الذي يقول " قف دون رأيك في الحياة مجاهدا إن الحياة عقيدة و جهاد "

ومثل هذا النمط سنرى الكثير ممن يعتقدون الحياة كوة صغيرة في جدار عقائدهم ورؤاهم فقط .

بينما يرى آخرون الحياة هي أن تعيش يومك بكل بهائه،  كما يرى غوته " لنبدأ الحياة كل يوم من جديد كما لو أنها بدأت الآن " وبهذا الانتصار للحاضر تصبح الحياة اكثر مرونة في الإنطلاق الى آفاق رحبة دون سجون وقيود مرهونة بماض تليد أومجيد .

ولكن الحقيقة الأكيدة، إن للحياة منطقها الواسع وأفقها المتعدد وطيفها الملوّن .

كما أن الحياة ليست بهذا الطراز المبهج  دائما، فهي تعب وجد ونضال ومعاناة  حتى يتمنى المرء احيانا مغادرتها سريعا . أو الشكوى من التشبث بها كما جاء على لسان الشاعر الفيلسوف " ابو العلاء المعري" بقوله :

"تعب الحياة كُلها فما أعجب إلا من راغب في ازدياد"

تلك هي الحياة ونواميسها وناسها .

...........................

 

الآخر في الحياة

مثلما تحمل الحياة تنوعها وقوس قزحها، يأتي الآخر حاملا هوياته المتنوعة،  حاملا روحه وعقله وضميره، ليرسم خارطة للتعايش معك " أنت "، فكيف يبدو لك هذا الآخر ؟؟

هل هو جحيمكَ..  فردوسكَ،  أم مطهرك؟؟

تلك ثلاثية من المناخات والأمزجة قد َصنفت الآخر مسبقا  دون الخوض معه في صناعة أفق مشرق لحياة تحمل في ثناياها آفاقا واسعة للألتقاء .. فالقواسم المشتركة بين بني البشر أكثر بكثير من الإختلافات لو أُحسن التعامل مع الظاهرتين  ..

فالمشترك والمختلف هما قطبا الحياة المتوازنة .. دون إختلاف بناءٍ  ننتج أشباه كائنات، مسوخاً، مُقلدين، ُمريدين، أفاكين .. وأبواق شائعات ..

كما أننا دون مشتركات  سوف نصبح قطائع حيوانية في مملكة الإنسان المتوحش .. فالآخر صنوك ..، الرفيق، الحبيب، الزوجة، الأخ، الصديق .. المكان ..

الحياة ليست شهوة نركبها لحظة ونغادرها وهي ليست موجة نتحاشاها ونحن نبحر في قوقعة ذواتنا المنغلقة ..

.......................................

 

الآخر في مرآتك

في درس" نرسيس" نرى ضبابية ونزوع  طفح الذات البشرية برائحتها الكريهة نحو الآخر .. لاشيء في محيط " نرسيس"  سوى ذاته المنتفخة في سراب الماء .. وهكذا غدت " النرجسية " مرضا نفسيا خطيرا  خرج من حقل الإحتفاء بالذات الى حقل تحطيم الآخر وإقصائه ومحوه ..

المرآة الذي أعني هي  رمز لمعيار  الكائن  الذي  من خلاله" يزن" وينظر للأخرين ويحاكمهم ..لانه لا يرى سوى هويته الغالبة  وسحنته السائدة  وقوامة المنتصب، وعقيدتة المهيمنة، وخطابه  الأوحد.

كان " اينشتاين " العالم الفيزياوي الكبير يرى  أن " وحدها الحياة التي يحياها المرء من أجل الآخرين هي حياة ذات قيمة"،  و "فولتير"  يقول  "قد أختلف معك في الرأي ولكنني على استعداد أن أموت دفاعًا عن رأيك."

ولكننا مصابون بداء الشرق العضال، داء سرطاني، أميبي .. لاشفاء منه  إلا بأستئصال حاضناته ومغذياته  الفكرية والإجتماعية والأخلاقية  والسياسية ...

علينا تحطيم مرآتنا .. وهدم آبار نفوسنا الصفراء ..

الآخر الشريك .. الآخر الصانع . الآخر الندّ .. الآخر المختلف .. هو السبيل النموذجي لبناء حياة  قابلة لرؤية آخر في عين مليئة بالحب .

.................................

 

خاتمة

للحياة غايات وأهداف لا ُتختصر برغبة ونزوة إقصائيتين في التعامل مع الآخر .. ولا هي دعوات مجانية على أن الحياة الحقيقية موجودة في مكان آخر .. وأن النأي عنها والزهد بها  هو المجد .

الحياة إبنة المخلصين لها  .. الذين لهم سلسلة متواصلة من ماضيهم وحاضرهم الى مستقبلهم .. الحياة  لا يحتكرها  أحد أو عقيدة، ولا تسعى الى الإنتقام .. إنها ابنة المحبة .. ولكنها أيضا تملك ذاكرة باشطة، لا تسمح  لخفافيش الظلام أن يُعرشوا على أشجارها الباسقة، ولا لحناجر النشاز ان تتخذ من قصبها "نايات" للعزف على  مقامة الموت دائما  ..

الحياة  فعل وليست ردة فعل، صوت وليست صدى، أفق وليست جدار .. الحياة منطق وليست نزوة ..  الحياة حقل  خصب  ومدار للبذار وساحة للجدل  الفعّال ..

الحياة نهر لا نعبره مرتين .. لحظة إنجاز لا يمكن تكراراها بنمط  محدود ..

غير هذا تكون .. كما يقول شاعرنا

لقد أسمعت لو ناديت حيا ** ولكن لا حياة لمن تنادي *

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2157 الاربعاء 20/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم