صحيفة المثقف

ثمة انسان يعيش في داخل اللوح / كاظم شمهود

وقد حدث جدال طويل بين فلاسفة الاغريق حول دور الفنان في نقل مشاعره وافكاره للآخرين . الفريق الاول قال: على الفنان ان ينجح في التعبير عن مشاعره ونقلها للآخرين كي يشاركوه في احاسيسه الوجدانية . الفريق الثاني قال لا: على الفنان ان يعبر عن مشاعره وينقل (الفهم) للاخرين .. وقد اشار ارسطو بان هدف الدراما هو ان تظهر مشاعرك . ويفهم منه ان تفهم الناس نشاطك الفكري ومشاعرك الداخلية دون ان تتورط في اجبار الآخر على المشاركة .

و هنا ك فريق أخر يقول: ان الفن متعة وجمال كما هو عند – جون راسكين 1819 ورينوار1840 - لاننا عندما نتأمل عملا فنيا راقيا نشعر بالارتياح وكأنه تحرير لمشاعرنا المكبوتة، او هو عبارة عن تنفيس للنفس والارتخاء الوجداني . وهنا تلعب الالوان وطريقة الانسجام بين العناصر التشكيلية دورا فعالا في تحقيق ذلك .

.. فعندما نقف اما عمل فني تحدث عملية تذوق (كيميكا) وهو تذوق ينطلق من طبيعة فطرة الانسان (اننا اما ان نحب عند النظرة الاولى واما الا نحب ابدا – هربرت ريد) .. (الارواح جنود مجندة منها ما أئتلف ومنا ما اختلف)، وليس هناك مسألة تحتاج الى تحليل او تأمل طويل وكثير . لهذا فأن المتفرج يتلقى انعكاسات تلقائية تصب في الوجدان .... بعض النقاد يصف عملية الاندماج بالعاطفة، ويعني به الاحساس، فحينما نتأمل عملا فنيا فأننا نزج بانفسنا داخل اطار ذلك العمل وستتحد مشاعرنا تبعا لما سنجده في اللوحة من فكرة او جمال او الاثنين معا ..

اتذكر اني قمت معرضا لفن الكاريكاتير في جامعة مدريد 3/ 4/ 2012 وكان للطلبة ردود افعال متباينة حول الاعمال ولكن على مستوى راقي وجميل .. فجائت احد الطالبات واخذتني بيدها الى احد الاعمال وقالت مبتسمة: هذه هي انا .

في التصوير كما هو في الشعر والكتابة دائما نجد الفنان يبحث عن التكامل الذهني ويعني استخدام العقل كاساس للفن ثم العواطف المعبرة والتي تعتبر نقطة انطلاق نحو التكامل للشروع في العمل الفني - بعض الفنانين يجد في الفوضى في الاحاسيس نوع من التعبير– كما هو عند جاك بولوك .

كان سقراط (يعد الجميل هو المفيد حتى ان الاشياء القبيحة يمكن ان تكون جميلة اذا كانت مفيدة .) وهذا ما دأب عليه الفن الحديث عندما شوه او حطم الاشكال (و التي كانت مقدسة عند اليونان الذين يعتقدون بالجمال الجسماني) . هذا التحطيم هو محاولة للوصول الى الماهيات او الفكرة المطلقة والتعبير عنها ..في الفكر الاسلامي القبح هو مسلك اخلاقي وليس شكلي . فكم من عباقرة مشوهي الخلقة ولكنهم كانوا عظماء في اعمالهم قد اغنوا واثروا الفكر الانساني مثل الجاحظ وغيره .. وهنا لابد من وقفة صغيرة على رأي بعض الاتجاهات في الفلسفة وهي النظرية العقلية لديكارت والنظرية الحسية لجون لوك والنظرية الاستذكارية لافلاطون . ويمكن (مراجعة فلسفتنا للشهيد الصدر – رض- في هذا الخصوص) وقد ابتعد الفن الحديث عن المذهب التجريبي العلمي الذي يحبس الفكر بحدود التجربة حيث ليس من صلاحيات الفلسفة العلمية من تناول البحث في مسائل ماوراء الطبيعة لان رصيدها العلمي لا يمدها في تلك المسائل .. وبالتالي فقد نجحت نظرية افلاطون في ان ماوراء كل شئ مادي حقيقة مطلقة . وان لكل شئ جوهر غير معطياته الحسية ..و لهذا نرى ان الفن الحديث بمعضم مدارسه يتجه في تعامله نحو الماهيات او الحقائق المستترة (الروح او النفس)..

ويذكر ان بيكاسو عندما حضر المؤتمر الشيوعي في وارشو بعد الحرب العالمية الثانية هاجمه الروس ووصفوا اعماله الحديثة (التكعيبية) بأنها تخدم الطبقة البرجوازية . والتي هي لا تنسجم مع المدرسة الواقعية الاشتراكية في ذلك الوقت..

.....

 

اختلاف الآراء ثراء فكري -  ونحن امام تباين وجدل في الاراء منذ العصور القديمة الى يومنا هذا خاصة عندما ظهر النقد في القرن السابع عشر في اوربا بعد الثورة الفرنسية التي كثر فيها الجدل والحوار حول نظام الحكم وحرية الرائ . واعتقد ان كل هذه الاراء المتباينة عبارة عن روافد ايجابية بالاخير تصب في النهر الكبير للفن . فاذا كان الفن للفن او اذا كان الفن للمجتمع او الفن من اجل الحقيقة المطلقة او الفن كمتعة وجمال، لم لا اذا كانت كلها تعتبر فن ومادامت مفيدة سواء كان ذلك في مراحل تاريخية قديمة او معاصرة .

ثم ان هناك تباين في انتاج الفنانين من حيث الميول والطاقات النفسية وقدراتها الانتاجية او يمكن ان نقول اختلافات فيزيقية وعقلية وعاطفية كلها لها تاثيرات على عمل وخصوصية الفنان . هذا من ناحية الافراد اما من ناحية وجود فوارق بين فنون الشعوب فان ذلك تابعا للمؤثرات البيئية والمناخية ..... وبالتالي يجب ان ننظر ايضا الى موضوع النقد والناقد بحسب تلك الفوارق والظروف الطبيعية والتاريخية وغيرها ..

مثلا ان معرفة الفن الشرقي وفهمه يختلف عنه في الفن الغربي . كان كونستابل يعتبر التضليل روح الفن ووسيلته . بينما نرى ان الفنان الصيني الذي مارس التصوير طيلة الفي عام لم يكتشف ان هناك شيئا مثل التضليل ... فان غياب التضليل في الفن الصيني وكذلك الفن الاسلامي لا يرجع الى اي عجز او التخلف . لكن الفنان الصيني يفهم الطبيعة ليس كما يفهمها كونستابل، فبدلا من الضوء والظل يفضل الايقاع الخطي . وهو يبدو له اكثر جوهرية من التأثيرات العرضية الزائلة مثل اشعة الشمس ... (هربت ريد)

كما ان لآراء ابو حيان التو حيدي الفيلسوف والصوفي 923/ 1023 في مسالة التذوق والجمال وكذلك ابن خلدون 808 / 1406 هي بمثابة وضع النقاط على الحروف قبل ان يحدث النقد في اوربا بعدة قرون ...

يقول ابن خلدون: (و اما المرئيات والمسموعات فالملائم فيها تناسب الاوضاع في اشكالها وكيفيتها، فهو انسب عند النفس واشد ملائمة، فاذا كان المرئي متناسب في اشكاله وتخاطيطة التي له بحسب مادته لا يخرج عن ما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع وذلك هو الجمال والحسن ....)  وهنا يجب ان نقف عند كلمتي: تعاطف وتسرب الانفعال وكلتا الكلمتين تعني – الاحساس – ولكن هناك اختلاف في المواقف . فالاولى تجري عندما نجد انسانا مهموما ومحزونا فاننا نضع انفسنا معه وبالتالي نشعر بثقل المشكلة كما هي عنده او اننا نشفق عليه ويرق قلبنا فنصله ونبره . وهذا من حسن الخلق . كما جاء في لسان العرب . اما الثانية فهو زج انفسنا في داخل العمل الفني نتجة لقوة الجذب – مغنطيس – التي يملكها ذلك العمل كما ذكرنا ذلك سابقا .. وهو بالتأكيد خاضع الى حزمة من الشروط الثقافية والفطرية والبيئية ... 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2159 الجمعة 22/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم