صحيفة المثقف

وجهُكِ الأرابِيسك / دينا نبيل

أنا أعرف أنكِ لا تودين الرحيل، فآثرت بقاءنا هنا.

سأوصد الأبواب علينا كما كانت من قبل .. لم يعكّر صفونا سوى الآخرين!

 

تذكرين حينما فارقتُ الجميع من أجلكِ .. لم أعبأ.

حينما عارضني القريبُ والبعيدُ بسببكِ .. لم أهتم.

وأتيتكِ إلى حيث أنتِ في هذا البيت الكبير .. خارج تخوم العالم ، وهناك جلستُ في محرابكِ طويلاً، معتكفاً .. متأملاً تفاصيلكِ الأخّاذة المنسجمة التعاشيق .. تركيبها المتنامق يأبى الغطاء ، يُغري الضوء بالنفاذ إليك فيتكسّرُ حول ظلك طروباً.

قديماً قيل لي إنّ حيازة الجمال جدُّ خطيرة ، وأنّ صاحبه لابد أن يمتلك قلباً حديدياً ورأساً زئبقياً! .. أدركتُ خطورتكِ .. فبنيتُ حولكِ السياج من الشجر والحجارة خشية أن تطالكِ النظرات .

 

ذات تأملٍ ..

حينما جاءتني تلك القرعاتُ المتسارعةُ من الباب ، متناهية إلى سمعي ..

فتحت .

وعيناي ترتجفان من نور الشمس المفاجئ .

 اخترقني ، بعينيه الزرقاوين .. ولكنته الأعجمية المتعثّرة .. وإزاحته ذراعي .

 حاولت منعه إلّا أنّه كان أسرع مني .. أشبّ مني ، التفتَ إليّ مباغتاً بوميض كاميرته .. أعماني ، أصبتُ بالدوار ولم أعد أستبين ما حولي.

زعقت بكِ أن احكمي الأقفال ..

أبيتِ!

برأسك الصلد ترفضين إلا إبهاره ، حتى الطبيعة ترفض! .. تساعدكِ وتتآمر معكِ ، ألقت بضيّ أصيلها عليكِ حتى صرتِ بالغة الحمرة .. متوهّجة كما لم أركِ من قبل!

جثا على ركبتيه ..

" يا إلهي .. امرأة من أرابيسك !!"

أسرع نحوي يقبض على يدي المرتعشتين يُقبّلهما .. يُصوّرهما .. يمسحُ بهما دموعه.

" أنت فنّان .. لا ، بل أنت عبقري! "

وكأنّ بالزهور في وجهكِ فجأة تتفتح.

 وكأنّك ترجين عيناً أخرى لتراكِ!.

 أخذتِ الخطوط الهندسية تلينُ لك .. تتلوّى مع خصرك أمام عينيه ، بينما ضوء الشمس يراقص تعشيقاتك فتلتمع .. والرجل تحت قدميكِ يلهث ، يكاد يلتهمك بعدسته.

 

ثلاثة أيام بعدها فقط ..

واقتحم محميتنا قنّاصون ممشوقون في بدلٍ سودٍ بقهقهاتهم الصاخبة.

 ولأول مرةٍ تتحول محميتنا إلى ساحة نزالٍ .. الأركان تصدح بالموسيقى وتضجّ بالدخان .. أُحِيط بي في دائرة سميكة، الكل فاتح فاه يتكلم دون أن أسمع حرفاً.

لحظات وجيء بكِ محمولة بين أذرعهم ملفوفة بغطاءٍ حريري ، وضعوك في ساحة البيت وانحسر عنك غطاؤك قبل أن تتجاذبه الأيدي .

ورأيتكِ تقفين .

 كيف لم أركِ من قبل!

لم تصيري تمثال أرابيسك ، بل غدوتِ امرأةً خضعتْ لها هندسةُ الفراغاتِ فامتلأتْ .. انبثقت الدماء دافئةً في زواياها الحادة فذابت ، وتفتّحت نباتاتُها بالندى كحديقة تضوع بالعطر ..

ووجهك ..

وجهك الأرابيسك بابتسامته المواربة تنفرج ، فيطقطق .. تتلألأ أصدافه تحت بريق أضوائهم ، فتتورد ثمرتا وجنتيكِ.

أرقُبُكِ .. عيناكِ بتحدٍ تصبّان في عينيّ الذابلتين .

أرادت الأيدي أن تمتد إليكِ ، أسرعت أحجبكِ بجسمي المتعرّق .. وجدتك تحت ثقلي تئزّين .. تعبسين.

أخذوني من يدي .. عرضوا عليّ الأموال .. يجب أن يُوضع التمثال بمتحفٍ .. لك حقوق الملكية .. سنحميها من السّراق .. وأنا أقول " لا " .. أنتم لا تفهمون هي لا تودّ الرحيل!

..

ووقّعتُ ، أجل ..

أحدهم همس في أذني محذّراً أنهم سيهشمُونها إن لم أفعل!

فوقّعت..

وانصرفوا.

 

رحت أبحثُ عنكِ .

 أريد أن أبثّكِ همّي ولوعة شوقي لفراقكِ المحتوم ، ولكن ..

كنتِ ثملة بنشوة الاستعراض ، لم تسمعيني.

 أمام المرآة منشغلة .. منتشية بتفاصيلكِ المزخرفة ، لم تنتبهي إليّ!.

وقفتُ أمام وجهك ، كان أكثر ظلمة تحت ضوء الشموع .. بدا خاوياً أجوف ، أنفخ فيه فلا يرتد إلا حرُّ نفسي .

لم أتردد .

جلبت القادوم وضربتك .

حطمت وجهكِ.

ذراعك.

كُلك.

هويتُ عليكِ تهشيماً .

بقدمي سحقتُ أزهاركِ .

مثلثاتكِ ومربعاتكِ تفسّخت .. تشظّت.

وأنت تحت قدمي تئنين ..

 ترتجفين.

وأنت بين أصابعي تنزفين وتبللين طرف بنطالي .. بدمائكِ .

ووجهك الأرابيسك ..

مهشمٌ يرتعش مترجيّاً .. يستجمعُ ما بقي فيه من ملامح تثيرُ عطفي.

باغتني ..

علقت قدمايّ الحافيتان في أخشابه .. تعلّقت بي أزهاره .. توحشّت.

أخذت تنهشُ في قدميّ وتتسلّقُ ساقيّ .. تلتفُّ حولهما وتجذبني إلى الأرض .

أرتطم بها وترشقين بأضلعي .. واختلط نزفانا .

 

لم تكوني تودّين الرحيل .. أليس كذلك ؟!.

فاعذريني!.

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2159 الجمعة 22/ 06 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم