صحيفة المثقف

تعدد الذات وتحولاتها في رواية عنبر سعيد / عماد كامل

وهي تحاول إثارة العقل أكثر من إثارة العواطف، ويلاحظ القارئ ان الكاتب نجح في الاستحواذ على اهتمام القارئ وجعله منتبها ومتسائلا أكثر من حرصه على إمتاعه وتسليته.

لقد استطاع العامري ان يثير لدى القارئ أسئلة عديدة تتمحور حول الدلالات الكامنة بين سطور النص، فالقارئ يبدو مهتما إلى حد ما بالدلالات التي تشير إلى العلاقات المتشابكة والمتداخلة بين شخوص الرواية، ويلاحظ القارئ أيضا ان في دلالات البنية السردية سؤال يتمحور حول الدلالة الكلية الكامنة وراء القول السردي (النص بمجمله) وهي دلالة لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال النص نفسه. ولهذا فأن (عنبر سعيد) تفرض على القارئ البحث عن الدلالات الجزئية للصور السردية لمجموعة من الناس تعيش على هامش الحياة فصورهم تبدو في النص صورة مؤلمة إلى ابعد الحدود، فهم بشر ولكنهم ليسوا من طبقة البشر، وهم يعانون القهر،ويستمرئون العذاب، مستسلمين لقدر غامض يعقد ألسنتهم ويسكب من عيونهم دمع هو بكاء أو قهر، ويكتم أنفاسهم.

فالنساء في النص هن عبارة عن كتلة صماء وهن متشابهات فيما بينهن ولهذا فأن أسماءهن تغيب في الرواية (في حمام النساء كن يضحكن ويتندرن وهن يمسكنني قارصات خاصرتي وعجيزتي، كنت اصرخ رافسة بقدمي الأجساد الطرية التي كانت تنزلق على البلاطات الصفر لأرضية الحمام وتختفي خلف غيوم البخار.كن يثرثرن بأحاديث لا حجاب عليها، يفشين إسرارهن وأحلامهن بكل ما تحتويه من أفعال ومداعبات الفراش. أحداهن اشتكت لي وحدتها ووحشة ليلها، واخرى أقسمت إنها في ليلة زفافها باتت تحت السرير، وثالثة تحدثت بخدر عن متعة لم تشبعها بعد)(ص28)

وإذا صح ما تقدم فأن القارئ يمكنه رؤية النص انه يهدف إلى تجسيد حقيقة تتمثل في رصد منظومات القيم بين (الإنسان/الدين) من جهة وبين (الإنسان/الإنسان) من جهة أخرى واثر هذه التحولات في تهشيم الذات الإنسانية وتفتيتها وخصوصا أولئك الذين يعيشون في الهامش ويشعرون بغموض العالم وتفككه وخلخلة علاقاتهم الإنسانية وتلاشي المنظومة القيمية التي تدل على ان العالم بلا معنى (..تكونت في رأس عنبر سعيد فكرة ان الموت لصيق بنا، وان رحنا ا واتينا فنحن ميتون لا محاله، بل إننا مخلوقون كي نموت! لم تكن تشغله تفاصيل الموت، فالموت وان تعددت أسبابه واحد، مفردة واحدة: الموت، وهي تعني الخلاص واللاعودة) (ص7)

وهذه هي مهمة الرواية الحديثة كما يرى الدكتور شكري الماضي (فهي تسعى الى التعبير عن العلاقات الاجتماعية القائمة والاسهام في خلق علاقات جديدة فهي تصدر عن وعي جمالي يتخطى حدود الوعي السائد ويتجاوزه الى افاق جديدة لهذا فأن مهمة الرواية الحديثة لا تتمثل في الوعظ والارشاد والتعليم كما هو شأن الرواية التقليدية، بل تتمثل في تجسيد رؤية فنية للعالم،والرؤية كشف جديد لعلاقات خفية، ومن خلال هذا الكشف تتولد المتعة والتشويق والجاذبية)

من هنا يمكن للقارئ ان يستنتج ان النص يهدف إلى التعبير عن غموض وعن قيم الحيرة والسأم والشك وهو ما يعني تفاقم أزمة الإنسان المعاصر واستفحال أزمة عدم الثقة حتى في رجال الدين (..قال عنه أبي:شيخ جليل، الجلوس معه يقربك من الله والإساءة إليه يدنيك من النار! لكنني لم أجد في الجلوس معه، في تلك الغرفة المظلمة ما يقربني إلى الله أكثر مما يقربني إليه بل يجعله ملتصقا بي، يهصرني، ويوخز عجيزتي بدبوسه المتوثب.خمس أخمسة أو أكثر وأنا أزوره جالبة النذر، تلك الحلوى التي يحبها وذاك الجسد الذي يمسده كيفما أراد)(ص33)

وإذا كانت الذات الإنسانية كما يصورها العامري تعيش في عالم غامض مشضى وبلا معنى، تلفه الحيرة والشك، فمن الطبيعي ان تفقد هذه الذات توازنها ووحدتها وتماسكها. فالذات الواحدة لم تعد ذاتا، بل تحولت إلى ذوات، وهذا يعني إنها أصبحت عديمة النفع.

ويخبرنا النص ومنذ البدء بالتحولات التي تعتري (عنبر سعيد) باعتباره الشخصية المحورية الذي يتكرر اسمه في صفحات عديدة، وما يقلق عنبر هو عدم عثوره على جواب واضح للسؤال الوجودي الذي يدور في ذهنه وهو (لماذا يلبس الإنسان الأقنعة ليخفي حقيقته؟) السؤال الذي يفتح افقا للبحث عن الذات أو جوهرها ولهذا يخبر (عنبر سعيد) الشيخ بحقيقته (لست فاسقا ولم ارتد قناعا، أعرفك مثلما اعرف نفسي جيدا ويعرفني الجميع،لم افرق بين اثنين تحابا من اجل مال ملوث بالشعوذة.من العار ان يتهم المرء الآخرين دون ان يرى نفسه!)(ص20)

كما ان السرد الروائي يخبرنا صراحة بأن شخصية المرأة هي ليست شخصية روائية بالمعنى المألوف بل هي مجرد رمز او حالة فهي لا تتمتع بأبعاد محدودة، بل نراها تتمرد على التحديد والتقييد، وكثيرا ما تتغير أحوالها وتتعارض مواقفها وتتباين أقوالها فهي ذات واحدة تنطوي على أكثر من ذات حسب الحالة فهي تخرج من ذاتها لتعود إليها (قالت المرأة التي في داخلي وضحكت انا كمن يضحك على نفسه. فتح الباب، وعبرت العتبة والأقفال الخمسة والزنجيل الطويل، دست على الجمر بقدمين شمعيتين ودخلت باحثة عن بقاياي المتشظية في العتمة..نفس الشيء الذي كان يأسرني، راودني في لحظة ولوجي البيت ولم توقفني تحذيرات المرأة التي في داخلي وتأنيبها وصراخها الذي يدوي في رأسي)(ص40)

ونرى أيضا ان مواقف المرأة تتسم بالغموض فنحن لا نعرف عنها سوى إنها عاشت حياة مليئة بالألم قبل ان تصبح شيخة تشغل حيزا مهما في حياة المدينة والناس تتردد عليها النسوة وينمن في فراشها القطني لتدس أصابعها في أجسادهن الطرية مثلما كان يفعل الشيخ وتضفي هذه التحولات وهذا الغموض والتناقض الذي يلف الشخصيات ومصائرها جوا غرائبيا على العالم الروائي (كانت البداية لسفر جديد في حياة المدينة، بايعها النسوة والرجال، كل شيء حدث بسرعة، حتى إنها لم تعد تستوعب ما يحدث في هذه المدينة المجنونة.وبين ليلة وضحاها صارت الشيخة تشغل حيزا مهما في حياة المدينة والناس.ترددت عليها النسوة ونمن في فراشها القطني ودست أصابعها في الأجساد الطرية تماما مثلما كان يفعل الشيخ،ونامت فوق إحداهن،ولثمت أخرى، وعبثت في فروج أخريات. أما الرجال فقد كانت تناديهم بمقاسات دبابيسهم، بدءا بالثلاث انشات حتى غدت المدينة أمام عينيها عارية، تراها ليس مثلما يراها الآخرون،عارية تماما بنسوتها ورجالها..)(ص74)

ويبدو ان الكاتب ينطلق في رسم الشخصيات وتقديمها من اعتقاده ان الشخصية الواحدة لا تنطوي على ذات واحدة، بل على عدد من الذوات المتعارضة،حسب الظروف والأحوال، ولهذا تتعدد مواقف الشخصية وتتنوع إلى حد التناقض.

هكذا تجسد رواية (عنبر سعيد) لونا متميزا من ألوان الرواية يستند إلى وعي يهدف إلى إثارة الأسئلة والى تحريض الوعي العام ودفعه إلى تجديد أدواته ومفاهيمه فهي بنية روائية لا تصف الواقع فحسب بل تصور عوالم شاذة أو ذاتية خاصة مرجعيتها الأولى والأخيرة هي الإنسان المسحوق.وكل ما تقدم هو محاولة لقراءة النص قراءة تطمح إلى اكتشاف رؤية السارد الكلية للإنسان والعالم.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2161 الأحد 24/ 06 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم