صحيفة المثقف

مأساة الكرد الفيليين وانتمائهم للعراق (4) / رائد عبد الحسين السوداني

نمضي في هذه الحلقة مع الدكتور محمد تقي جون في كتابه ونصل إلى موضوع جد مهم مرتبط ارتباطا وثيقا بموضوع الحلقة الثالثة أي اللغة ووجود قومية كردية واحدة أم قوميات متعددة ،وقد اختلف الدكتور محمد تقي جون مع سليم مطر فقد قال في ص30"ولست مع (سليم مطر) بوجود شعوب كردية متعددة بناءً على التشتت اللغوي الحالي الذي تبنى عليه مجازية وجود لغة كردية مركزية ؛ودليلي وجود اشتراك لغوي بين الفيلية والبهدينانية فضلا عن الفلكلور ،كما يوجد تشابه بين الفيلية والسورانية" ،وهنا لا بد من توجيه سؤال إلى الدكتور تقي جون مفاده إن الفارسية أيضا فيها الكثير من المفردات العربية والعكس هو الصحيح فهل يفقدان خاصيتهما بهذا الشأن ونقول إنهما عربيتان ،أو فارسيتان مثلا، ولماذا لا نقول عنها(أي الفيلية) خليط من اللغات كاللغة التي يتكلم بها أبناء مدينة بدرة العراقية ،فهل نضع أبناء بدرة ضمن القومية الكردية ؟ :مجرد سؤال إلى المؤلف ، وفي هذا المجال ننقل عن الدكتور محمد خاقاني الأستاذ في جامعة أصفهان بدراسته المعنونة (ملامح الوصل والفصل بين العربية والفارسية) والمنشور في مجلة الآداب الأجنبية السورية العدد 127في 2006" أقيمت دراسات عديدة وبحوث مكثفة تسلط الضوء على مدى التفاعل الحيوي بين اللغتين العربية والفارسية وآدابهما، قام بها كبار الأدباء الذين درسوا هذه العلاقة، علاقة قلما نجدها بين أية لغتين من اللغات الأخرى.‏

إن حيوية أية لغة وتطورها المنبثق من تطور المجتمع البشري طوال التاريخ تفرض على الضالعين في كل أدب أن يخوضوا ويناقشوا نوعية الصلات اللغوية بين كل شعب وجيرانه. إذ إن اللغة مجتلى النفوس البشرية وآية لإبداع العقل، ولا يمكن اعتبارها كمجرد أداة للتعبير عما في النفوس والأفكار، بل تتجاوز هذا الحد بتأثيرها الفاعل في نفس المتكلم والمخاطب من خلال صبغ المضامين بصبغتها.‏

وحيث إن الفكر الإنساني حقيقة لا يمكن حصرها في شعب دون آخر والثقافة البشرية لم ولن تخضع لمعايير الجمارك والحدود، فكذلك اللغة التي تحمل معطيات هذا الفكر تمتزج بأخواتها وتقفز وراء الشعوب والأمم.‏

الدراسات الألسنية في القرن المعاصر تلقي الضوء على مساحات واسعة من هذه التفاعلات بين مختلف اللغات الحية العالمية، لكننا قلما نجد لغتين منفصلتين تماماً من حيث أصولهما ومبادئ الاشتقاق والتصريف فيهما، قدّر لهما أن تتلاحما وتتكاثفا بمقدار ما نراه ونلمسه بين العربية والفارسية.‏ " ويقول في مكان آخر "لم يقف تأثير العربية على الفارسية عند إبدال الخط، بل ضخّت مجموعة ضخمة من مفرداتها إلى الفارسية بما يقدر بسبعين بالمائة من هيكلية الفارسية الدارجة! فلا "الفردوسي" ـــ وهو أسطورة الأدب الفارسي في الشعر الحماسي بديوانه الشهير عالمياً (شاهنامه)((هذا وكما مر ويمر بعد حين إن الدكتور تقي جون قد عد الفردوسي كرديا)) استطاع أن يضع حداً لانتشار المفردات العربية في الفارسية رغم شعبيته العظيمة الباقية لحد الآن في أدب المقاهي وملاعب الرياضة المحلية (زورخانه)، (مع تصريحه بأنه نظم هذا الديوان للحفاظ على الفارسية فلم يستعمل الألفاظ العربية فيه إلا ما فات منه ولا يتجاوز عدد أصابع اليدين)، ولا مخططات الحركة الشعوبية ضد إشاعة العربية في لغة السوق (ومنها مرسوماتهم بتبديل الياء ألفاً والألف ياءً كما يروى)، وإصرار الأسرة البهلوية (قبل انتصار الثورة الإسلامية) على فرسنة المفردات العربية، لم تستطع جميع هذه المحاولات أن تقلل من حجم الانتماء الإسلامي الإيراني إلى تذوق لغة القرآن" وفي نفس السياق يقول الدكتور محمد خان "ولا أحد ينكر دور الأدباء الفرس الريادي في وضع علوم العربية من صرفها ونحوها وبلاغتها وتجويدها وعروضها، فهم علماء العربية حقاً أخذوا على عاتقهم تقنين قواعدها وتنظيم قوالبها طيلة ألف سنة من تاريخ هذه الأمة، وعندما كان سيبويه ينصرف إلى تأليف "الكتاب" في النحو، وعبد القاهر الجرجاني يشتغل بتنظيم البلاغة العربية في كتابيه "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة" وغيرهما لم ينصرف أحد منهم إلى تقنين قواعد اللغة الفارسية وأقدم كتاب ألف فيها وطبع في أسطنبول يرجع إلى مائة وستين سنة!.‏

إذن، العربية موجودة في الفارسية بكم هائل من مفرداتها التي تشكل غالبية ألفاظ بعض الجمل الدارجة (على سبيل المثال لا الحصر جملة: "استعمال دخانيات أكيداً ممنوع" أو عبارة "شركت حمل ونقل مستقيم بامسئوليت محدود"!، وإن تجنست هذه الألفاظ بجنسية فارسية من حيث نبرتها ومن حيث إخضاعها لأصول الصرف الفارسي.‏

ـــ بالمقابل نرى جماً غفيراً من المفردات الفارسية التي تسللت إلى العربية وشاعت في مختلف البلدان العربية. وأثر الفارسية في إدخال مفرداتها إلى العربية يفوق سائر اللغات الشرقية"ومع كل هذه المشتركات تبقى لكل لغة من هاتين اللغتين الخصوصية الخاصة بها من قبيل "ـــ الفروق الأدبية:‏

ـــ هناك أنواع من الشعر الفارسي لا نجدها في الأدب العربي (كالدوبيت)، وأنواع من الشعر العربي لا نجدها في الأدب الفارسي كالموشحات والزجل، كما أن هناك خلافات في بعض البحور المستعملة في الأدبين.‏

إن محور تقسيم المراحل في تاريخ الأدب الفارسي يقوم على الأساليب الأدبية التي تسمى (السبك) منها: السبك الخراساني، السبك العراقي، السبك الهندي وغيرها. ولكن العادة جرت في الأدب العربي على القسمة الخماسية المرتبطة بنظام الحكم وهي: العصر الجاهلي والإسلامي والعباسي وعصر الانحطاط وعصر النهضة.‏

ـــ الأدب الفارسي مليء بالعرفان، والشعر الفارسي يتمتع بحلاوة ونكهة عرفانية واستعارات رمزية لطيفة، لا نجد لها مثيلاً في الأدب العربي (بغض النظر عن القرآن والنصوص الإسلامية الأصلية)، وإذا وجدنا نوادر في أدباء العرب ممن استشموا رائحة العرفان من أمثال ابن الفارض المصري فإن أحداً لا يقدر أن يتحدى "الحافظ الشيرازي" أو "المولوي" على سبيل المثال بين الأدباء العرب. طبعاً هذا الخلاف الأدبي لا يرجع إلى طبيعة وجوهر اللغة الفارسية، وإنما يرجع إلى الثقافة السائدة بين الأدباء.‏

ـــ اللغة العربية تمتاز من بين سائر اللغات (ومنها الفارسية) بالإيجاز. وهي الأقدر على سبك المعاني الغزيرة في الألفاظ القليلة، وذلك بفضل سعة إطار الاشتقاق وكثرة الأبواب الفعلية المجردة والمزيدة، وسبق وأن تحدثنا عن (النحت)، وكيف أنه يمكن نحت فعل بكلمة واحدة يغنينا عن لفظتين أو أكثر، كذلك افتراق المؤنث عن المذكر في الأفعال والأسماء وافتراق الجمع عن المثنى اللذان يزيدان في عدد الصيغ الفعلية يسهمان بوضوح في هذا الإيجاز حيث يجب في ترجمة فعل بكلمة واحدة نحو (ذهبتا) إلى الفارسية أن نستخدم عدة ألفاظ (آن دو زن رفتند) ولا يمكن الاكتفاء بـــ (رفتند) في تأدية المعنى، والنتيجة أن كل كتاب مترجم من العربية إلى الفارسية وسائر اللغات قد يحتاج إلى ضعفين أو ثلاثة أضعاف الأصل كمّاً وحجماً.‏

ـــ أضف إلى سعة الصيغ المشتقة من المصادر: كثرة المصادر نفسها أيضاً، وأضف إليها: كثرة المترادفات والمتشابهات في حجم يفوق التصور الابتدائي، حيث وضعت في العربية على سبيل المثال ـــ زهاء ألف لفظة "للإبل" جمعها مؤلف إيراني ملّم بهذه الظاهرة الفريدة في كتابه: "في أسماء الإبل"، كما نرى ما يقارب ستمائة لفظة للسيف وما يقارب هذا العدد للخمر.‏

في هذا المجال يحتمل أن تكون الإنجليزية فازت في الآونة الأخيرة بالسبق على العربية في كم هائل من الألفاظ المستحدثة التي وضعت خلال عملية التقدم التكنولوجي وبفضل التقنيات الحديثة، لكن هذا السبق إنما ينحصر في أسماء الذوات والأشياء المادية ولا يشمل المفاهيم المجردة، كالعواطف الإنسانية والصفات النفسية العربية التي لا مقابل لبعضها في الإنكليزية (كالغيرة والحمية مثلاً).‏

وواضح للضالعين في الآداب مدى تأثير هذه التنوعات اللفظية في تنوع صور الكلام، هذا التنوع الكلامي ليس متأثراً فقط بتنوع صور الخيال في الشعر وفي النثر الأدبي بل يؤثر فيه أيضاً، نظراً للصلة المتقابلة بين اللغة والفكر، علم نفس اللغة في دراساته الحديثة يؤكد هذا.‏

ـــ تؤدي سعة مساحة الاشتقاق وكثرة المترادفات في العربية إلى صعوبة تعلّمها للأجانب (وللناشئين العرب وحتى المثقفين منهم حيث يتعرضون للحن والخطأ في استعمال الضمائر المؤنثة وفي تأدية إعراب الكلمات فيضطرون إلى التسكين على قاعدة "سكّن تسلم")). أما الفارسية فيسهل تعلمها باعتراف الأساتذة العرب الذين اشتغلوا بتدريسها في الجامعات العربية.‏

غير أن هذه السهولة يمكن اعتبارها أمراً إيجابياً في تعليم اللغة فقط، وليس في امتلاكها واستغلالها،فسواقة دراجة هوائية أسهل بكثير من طائرة وهل هذا يعني أفضلية الدراجة على الطائرة؟" هذا وإن المشتركات بين اللغتين لم يمنع وجود قوميتين مختلفتين من حيث الأصل، فالعربي من أصل سامي ،والفارسي من أصل آري كما هو معروف ،وقبل الخوض في معطيات الأستاذ سليم مطر ،نبقى مع معطيات الدكتور محمد تقي جون ، وفي نفس الصفحة يقول الدكتور "وحتما توجد لغة كردية قديمة جامعة للكرد كاللغة اللاتينية الجامعة للشعوب اللاتينية والسنسكريتية الجامعة لشعوب شرق آسيوية ،إلا أننا لن نعثر عليها لأنها لم تدون بسبب كون الكرد أميين وهي سمة غالبة عليهم طول مسيرتهم وإلى الآن " ولكن كيف نستطيع أن نؤمن بأن أمة زرادشت كما نسبه المؤلف إلى الأكراد بأنها أمية وكذلك كيف نصدق بأن أمة صاحب الشرفنامة كما يعده الدكتور جون كرديا أمية ؟ وقبل أن نستطرد في مناقشة هذه الجزئية التي أوردها نذهب إلى مكان آخر من نفس الصفحة الذي يقول فيه "وليس صحيحا أن الميديين هم أصل الكرد وإليهم يرجع الكرد جميعا ،وسواء كان الكردوخيون كردا أم جورجيين ،فلابد من وجود قبائل وعشائر كردية كثيرة ،فالكرد افترشوا مساحات واسعة أغلبها جبال عاصمة لا تتيح الاتصال والتواصل " هنا بناءاً على وجود تشتت لغوي فيما بين الكرد وإن ذكر الدكتور حتمية وجود لغة كردية مندرسة لم يعثر عليها وكذلك بناءاً على إن الكرد توسطوا مساحات واسعة لكنها منفصلة بعضها عن البعض الآخر بسبب إن هذه المساحات "أغلبها جبال عاصمة لا تتيح الاتصال والتواصل " وعلى أساس التنوع والتشتت اللغوي ،والعامل الجغرافي الذي يمنع التواصل فيما بين الكرد هل نستطيع إطلاق صفة الأمة على الكرد ،فالفرد ولاسيما المجتمعات نتاج الجغرافية أيضا والتاريخ والجغرافية توأمان لا ينفصلان في أغلب الأحيان،وقد وجدنا إن الكرد وبناءاً على أغلب النظريات التي تقول إنهم من هجرات الأقوام الهندوأوربية ،أو الميديين وإنهم لا يمتون بصلة تاريخية إلى أرض كردستان ،ولكنهم عندما استقروا في هذه الأرض تقطعوا إلى جماعات تفصل بينهم الجبال والقلاع الحصينة وبمرور الزمن تكونت لدى كل جماعة عادات وتقاليد خاصة بهم ولكل واحدة من هذه الجماعات رؤساء وزعامات تخصهم يعرفون بالأغوات .

إن الاتصال والانفتاح في المجتمعات تتيح الاندماج والاندكاك ،كذلك وتسهل بناء الحضارة ،كما إن الانقطاع يبقي المجتمع على بدائيته وفي أحسن الأحوال على قبائليته .وهنا أستعير كلمة للكاتب محمد حسنين هيكل في هذا المجال وفي كتابه أكتوبر 73السلاح والسياسة وفي ص8،هي "إن المكان ليس موقع جغرافي " بل منجم تستخرج منه الدرر ،والدرر هنا الحضارات الإنسانية ،أو تتعطل فيه الحياة بفعل اختيار الإنسان له ،أو بفعل الضرورة يختار الأفراد مكانا قصيا يكون له عاصما عن هجمات الآخرين يتحول إلى عزلة ثقافية وحتى (نسبية) بفتح النون يصعب كسرها كما نستدل من كلام الدكتور محمد تقي جون حيث حدوث التشتت اللغوي نتيجة التشتت المكاني وعدم الانفتاح على الآخر القريب (نسبيا) والبعيد في هذا المجال لكنه قريب من ناحية الزمن ،ولو أخذنا منطقة بادينان الكردية في شمال العراق والتي تشكل نسبة 1/20من مساحة العراق حسب ما أورده الكاتب (يوسف يعقوب مسكوني )في كتابه بهدينان تاريخ الإمارة العباسة والتي تتكلم اللغة أو (اللهجة البادينانية) نجدها تتكون من عدة قلاع ،وقد عددها المؤلف المذكور في ص10 إلى "1- العمادية :- ومن قلاعها في البرواري هرور ((قمرى)) وبيت النور ((بيطة نور)) وقلعة ((افدال بالوكي)) وشيخو((ارز)) .وفي نيروه ريكان ((نيروه)) و((بشرى)) و((ديرا)) .

2- العقر في الزيبار ((قلادة)) و((شوش)) و((عمراني)) .

3- دهوك .

4- زاخو :- ومن قلاعها في السليفاني ((كاش)) و((الزعفرانية)) وفي الكلى ((شعباني)) وفي قرب زاخو ايردمشت وتسمى أيضا كواشي .

وكانت القلاع ((العقر)) و((دهوك)) و((ديرا)) و((بشرى)) من قلاع قبيلة الراديكان ((الريكان)) .والقلاع ((قلادة)) و((شوش)) و((عمراني)) و((بازيران)) من قلاع الزيبار .وقد أطلق قسم من المؤرخين اسم قلاع الحميدية على قلاع ((شوش)) و((العقر)) و((الزعفرانية)) و((كاش)) .وفي أنحاء بهدينان كافة قليعات أيضا كثيرة لا تعد ولا تحصى " ولكل قلعة أو قليعة زعيم ديني ،وزعيم اجتماعي ،بعد ذلك توحدت الزعامتان في شخص واحد وأسرة واحدة تتوارثها على مر الزمن أخذت بعضها مدى سياسي أثر على مجريات الحياة السياسية العراقية كأسرة الملا مصطفى البارزاني وأسرة الطالباني وغيرها من الأسر سنتناولها في حينها .هذا وإن ولاء الكرد للأغا أكثر من ولائه للسلطة الرسمية بسبب الوضع الجغرافي الذي وضعهم بين الجبال والقلاع والوديان ،والسبب الآخر إن الأغوات دائما يسعون إلى تقوية سلطاتهم وتثبيتها من خلال إقامة علاقة مع السلطة التي هي الأخرى تحاول أن تبقى قريبة من الأغوات الذين يستطيعون إحكام سيطرتهم على أتباعهم .

أما الجبال "تعتبر بلاد بهدينان من حيث العموم منطقة جبلية ،فيها سلاسل من الجبال تمتد من الغرب إلى الشرق ،وأهم هذه الجبال تمتد من الغرب إلى الشرق ،وأهم هذه الجبال هي سلاسل جبال كارا ومتينا وشاراثي ومنها جبال القوش وبيخير وكوفند ((في حدود تركيا)) وكيرا وخنتور " بعد هذا الوصف الجغرافي المختصر لواقع منطقة واحدة من كردستان العراق (بهدينان) لابد لنا من ذكر معطيات الأستاذ سليم مطر والتي أرى إنها لا تختلف بالنتيجة مع ما توصل إليه الدكتور محمد تقي جون وإن لم يوافقه بالرأي .إن ضياع اللغة المركزية الموحدة للكرد عند الدكتور جون أدى إلى تشتت لغوي ،والاعتصام بين الجبال إلى قطع الوصل والاتصال فيما بين الكرد ،أما سليم مطر فيستخدم مفردة الشعوب الكردية نتيجة هذا القطع في الاتصال ،وإن كان يعتقد في ص50 "أن الوطن الأصلي والحقيقي للشعوب الكردية هي سلسلة جبال زاغاروس الفاصلة بين العراق وإيران والمتصلة بجبال طوروس والقفقاس .إن الشعوب الكردية هي بحق شعوب جبلية وهذا سر توحدها حول هذا الاسم (كوردو) والذي يعتقد إنه يعني باللغة السومرية (سكان الجبال) .وإن رأي الأستاذ مطر هذا نابع من اعتقاده بأن الكرد وعلى خلاف أكثر الآراء بأنهم أبناء الأرض التي يقيمون عليها حاليا ،أي بمعنى آخر إنهم توحدوا مع هذه الأرض جغرافيا وتاريخيا ،وإن غلبت عليه بعد ذلك نظرية سيطرة القبائل الآرية على منطقة الأكراد وفرض اللغة الآرية عليها ،بقوله في ص55،"لقد تعرضت الجماعات الكردية الأصلية خلال حقب التاريخ لهجرة القبائل الآرية القادمة من الشرق حيث الهضبة الإيرانية ،وكذلك القبائل السامية النازحة من الغرب حيث وادي الرافدين .

يبدو أن العنصر الآري بسبب طبيعته الجبلية وامتلاكه قوة عسكرية وحضارية هو الذي تمكن أكثر من فرض لغته بحيث اعتبرت اللغات الكردية لغات آرية إيرانية " وأما رأيه في أصل الأكراد فيقول في نفس الصفحة "الحقيقة المعقولة التي يمكن استخلاصها من جميع هذه الفرضيات ،أن الأكراد هم أولا من القبائل الجبلية الأصيلة وهم ينتمون إلى العراق (الأرموندي أو القفقاسي) مثل سكان العراق القدماء" وعن سبب تسميته للكرد بالشعوب الكردية والتي يعزوها إلى الجبال يقول سليم مطر في ص50 " لكن هذه الجبال التي خلقت نوعا من التشابه الثقافي والتقاليدي والمشاعري بين هذه الجماعات المختلفة ،إلا أنها أيضا شكلت مانعا كبيرا أمام إمكانية توحدها بشعب واحد ولغة واحدة ودولة واحدة ." ويضرب مثلا عن سويسرا والتي هي الأخرى جبلية ويتكون شعبها من البروتستانت والكاثوليك وفيها ثلاث لغات ومحاطة كمنطقة الكرد بقوى حضارية كبرى إلا أن الجغرافية ساعدت على تكون شعب يدعى السويسري على خلاف الكرد حسب تعبيره فيقول "إن سويسرا تتكون من أكبر سلسلتين جبليتين في أوربا ،سلسلة جبال الألب وسلسلة جبال جورا ،وتتشكل بين هاتين السلسلتين هضبة واسعة كبيرة تمتد من شمال سويسرا حتى جنوبها ،بالإضافة إلى وجود واد شاسع طويل يشق جبال الألب هو وادي نهر الرون .حول هذه الهضبة وهذا الوادي تشكلت الوحدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السويسرية" أما الجبال التي يكنها الكرد في العراق فيقول في ص51"إن الجبال الكردية لسوء الحظ، لم تمتلك لا هضبة جامعة ولا وادي نهري أساسي يمكن حولهما أن تنصهر الجماعات الكردية المختلفة وتتوحد وتشكل دولتها المتميزة .لهذا فإن الجماعات رغم كل تشابهاتها الثقافية الجبلية إلا أنها طيلة التاريخ لم تنجح ولا مرة واحدة أن تتوحد وأن تكون دولة مركزية جامعة ،بل هي في أقصى الأحوال شكلت إمارات محلية متنافسة وتابعة للقوى الكبرى المحيطة ،ولنا مثال حالي يتمثل ((بإمارتي الطالباني والبرزاني المنافستين ))" وقد ذكر حالهما في الحلقة (3) ويستمر سليم مطر بالقول " أما العامل الجغرافي الثاني الذي يميز الأكراد عن السويسريين فأنه يتمثل بكون الجبال الكردية مغلقة وممراتها ضيقة ومحدودة لم تسمح بمرور التجار والغزاة المغامرين واختلاطهم واستقرارهم مع السكان ،وهذا ما منع من تشكل أي مركز حضاري تاريخي معروف في المناطق الكردية" ونتيجة لهذه الحياة المحاصرة جغرافيا "أقبل الأكراد إلى الإسلام واعتنقوه على مدى الأيام ولكن ببطء" كما يقول يوسف يعقوب مسكوني في كتابه آنف الذكر ص131وأيضا نتيجة لهذا الواقع الجغرافي ظهر ونشأ وترعرع التصوف في شمال العراق وبشتى الطرق و بأجلى صوره وعلى سبيل المثال فإن في منطقة بهدينان توجد ما يقرب ال20تكية للطرق الصوفية في هذه المنطقة من شمال العراق أخذت بعضها طريقها كزعامة زمنية – روحية كالتكية البارزانية النقشبدية والتي تأسست عام 1825والتي آلت فيما بعد إلى أسرة مصطفى البارزاني التي ورثها عن أخيه أحمد البارزاني ،والطريقة الصوفية في منطقة بهدينان قد نجدها في منطقتين مختلفتين منها على سبيل المثال مثل تكية بامرني النقشبندية نسبة إلى منطقة بامرني وكما نعلم إن بارزان قرية إليها ينتمي الملا مصطفى وآبائه . هنا نصل إلى قضية مهمة جدا أثارها الدكتور محمد تقي جون والذي ذكر فيها إن الكرد يتصفون بالأمية لأنهم لم يدونوا لغتهم المركزية الضائعة ،والحقيقة إن عدم وجود لغة خاصة واحدة لأمة لا تنفي وجودها مثل البرازيل هذه الأمة الكبيرة تتكلم البرتغالية ،وأغلب بلدان أمريكا اللاتينية تتكلم الإسبانية وأيضا لم تلغ وجودهم كمجتمعات موحدة وأمم لأنها تتكلم لغة واحدة وليس لغتين أو لغات في منطقة تسمى الكردية،والحقيقة إن هذه التكايا والطرق الصوفية لم تخلو من سمات ثقافية خاصة بها تنفي أمية الكرد .

ظهر عدد لا يستهان به من الأعلام الكرد لاسيما في المجال الديني وعلى الرغم من بيئتهم المحصورة وجغرافيتهم القاسية ،ويقول مؤلف كتاب بهدينان تاريخ الإمارة العباسية في ص161"كان للعلماء احترام كبير ونفوذ قوي وحرمة في النفوس عند الأمراء والرؤساء والطلاب وبقية عامة الناس ،لمكانتهم العلمية بالإضافة إلى منزلتهم الدينية التي تحتم على الجميع احترامهم وتعظيمهم" وأغلبهم عندما يكتب أو يحقق فباللغة العربية وهذا لا يعيب ،أما الأدب يقول في 186 "للأكراد كغيرهم آدابهم " لكنه وبسبب عدم وجود لغة واحدة موحدة استعانوا بالفارسية أو العربية وليس كما يقول يوسف يعقوب مسكوني بأن "تأثر الأدب الكردي بالثقافتين العربية والفارسية بحكم مجاورة الأكراد للشعبين ،فالأديب الكردي يلم إلماما واسعا بالأدب الفارسي وكثيرا ما سمعنا منظومات رقيقة لشعراء أكراد بالفارسية ،لاسيما وهناك تقارب بين اللغتين .أما تأثر الكردي بالثقافة العربية فيرجع إلى الجانب الروحي وهو جانب الدين ،ففلسفة القرآن العربية تملأ الأدب الكردي والشعر الكردي بكلمات من أصل عربي" ويقول في مكان آخر وفي ص187"كانت لغة التأليف بين علماء الأكراد هي العربية بالدرجة الأولى ،والفارسية بالدرجة الثانية ،أما الكردية فكانت تستعمل في الأدب فيما إذا استعملت ،وقليلا ما استعملوها في التأليف .ومما يؤسف له إن كثيرا من هؤلاء الأدباء ذهب ولم يدون شيئا" والسؤال ،وهل الأدب إلا تأليف ولماذا لا يستخدمون لغتهم كي يعبروا بصورة صادقة أكثر من اللغة الثانية لو كانت موجودة (اللغة الأم) ويستطيع الكتابة فيها،فمن الناحية النفسية والوجدانية التعبير بلغة النشأة الأولى هي أصدق من لغة مساعدة ،وإن الناحية الروحية لا تلغي اللغة ،بل يحدث تأثر وتأثر متبادل كما مر في حال اللغتين العربية والفارسية،أما الأدب الذي يقصده المؤلف يوسف يعقوب مسكوني فهو الأدب ألشفاهي كما يذكر في ص188" الأدب الحديث ((الرومانتيكي)) :- وهو الذي نظم بموجب قواف مثلثة أو مربعة أو مخمسة أو أكثر منها دون مراعاة الوزن إلا صدفة ودون قصد وبموجب ألحان ابتدعها الشعراء أنفسهم ،حسبما أوحت إليهم بها أفكارهم وإلهاماتهم وطبائعهم وأذواقهم ،وبموجب العوامل المؤثرة فيهم ،وهذا القسم من الأدب ابتدعه شعراء أميون في أغلب الأحيان " ونفس الحال ينطبق على الأدب الغنائي ((ستران)) وكذلك على الأدب القصصي ((داستان)) .وهنا سؤال أخير ،لو كان الكرد متيقنين من لغة ضائعة هل احتاجوا إلى أبجدية لاتينية مثلا ؟ وإن كان الجواب سيكون إن الأبجدية غير اللغة ،لكنها ستجمعهم على أية حال من هذه الناحية .ثم أين علماء الآثار من هذه اللغة على فرض إن الكرد أميين في هذا المجال ،ألا يستحق هذا الأمر عناء لو صغير   للعثور على هذه اللغة لأهميتها ؟ يبقى أمر مركزي يجب إعادته وتكراره ومن خلال ما تقدم بطبيعة الحال أن لا وجود للغة كردية ضائعة.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2199 الاثنين 6/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم