صحيفة المثقف

مذكرات مجلوط (1-4) / مسلم السرداح

اكل واشرب واقضي اوقاتي الاخرى بالقراءة وبالنت وبزيارة بعض الاصدقاء والاقارب واقوم بالكتابة قبل ان تصيبني هذه الجلطة فتهد كياني وتحولني الى بقايا انسان او في الحقيقة تاريخ انسان أي ان هذه الجلطة حولتني الى شخص كان انسانا . فتدهورت حالته العقلية ليصبح على شفا موت حقيقي او هو ميت يمشي مترنحا على رجلين اثنين .

 

الموت في الحياة

 

ليس سهلا ان يغادر الاحياء مايسمونه الحياة أي كما يقول الاطباء الموت الاكلينيكي او السريري او كما يسميه المتدينون مغادرة الروح للجسد او كما يعرف عند الماديين بالطاقة التي تصاحب الجسد . فالجميع يتكلمون عن الموت ، ولكن لم يتطرق احد لتلك العمليات التي تحصل في دماغ الانسان الحساس ، او الشاعر . اذ انه يود لو يصرخ من فرط الالم الذي تسببه مشاعر تبدو للانسان الساذج البسيط غير ذات معنى وليست مهمة .

ان الناس قد تعرفوا على المجانين وتعرفوا على المعتوهين والفوا بهما الكتب والدراسات والطرائف ، ولكن احدا لم يتعرف على فئران صغيرة تتحرك في دماغ المريض تدفعه للصراخ دون ان يعرف التعبير عما يحدث له . انها تشبه الى حد بعيد طفيليات العقل تلك التي تكلم عنها كولن ولسون ولكنها اشد منها ايلاما . فكولن ولسون كان يتكلم عن كائنات وهمية غير مرئية صغيرة تسري في الهواء المحيط وتنتقل الى مخ الانسان عن طريق مجرى التنفس وتكلم عن نوع من عدم الرؤية تصاحب الانسان ولكنه لم يتحدث عن أي الم بل ولم يتكلم عن الموت او الجلطة . اما هنا فالامر مختلف تماما ذلك ان تلك القوارض الصغيرة تنتشر في دماغي حتى انها تكاد تفقدني الذاكرة دون ان اعرف ماذا يجري في داخل راسي . ولو ان احدا ما قد سالني ساعتها عما يجري لي لاجبته على الفور:

-         ان كائنات صغيرة تقرض مخي دون ان اعرف ما الذي تريده مني او دون ان افهم ما الذي جاء بها ؟ وسيقال ساعتها :

-         ان الرجل في دور الجنون . ان لم يكن قد جن فعلا .

-         وانا اجزم اني لست مجنونا فهل رايتم مجنونا يستجمع افكاره هكذا ليكتب عما يدور في خلده ؟ بل اني اعبر عما يجري في داخل راسي بعد اصابتي بالجلطة بعد حوالي عشرة ايام اذ كنت طبيعيا خلال الايام العشرة الاولى سوى ذلك التعطل المفاجيء في لساني ويدي اليسرى . وللحقيقة اقول انه ابتداءا من اليوم الحادي عشر اخذت يدي ولساني بالتعافي شيئا فشيئا . الا ان شيئا ما لااعرف ماهو ولم امر به قبلا لامن خلال القراءة ولا من خلال احد المرضى الذين اعرفهم .

ورحت اسال الطبيب : هل هناك مفعول عكسي للدواء الذي اتناوله يفعل فعلته بي هكذا ؟ ويسالني الطبيب : مثل ماذا ؟ واقول له: مثل فئران صغيرة تتحرك راكضة مرة او ساكنة في دماغي . واكاد اسمع دبيبها مثل حركة اطفال تلك المراة جارتنا "ام قحطان " عندما كانوا يسكنون فوقنا في شقق خور الزبير السكنية وقد هربنا الى هناك ايام الحرب مع ايران .ويقول الطبيب :

ان كل تلك هي تهيؤات مريض وستزول حال شفائك من المرض انشاء الله .

ولم يكن الطبيب ليضيع وقته اكثر من ذلك في ما يعتقده انه ترهات مريض ذكي والمرضى جالسين او واقفين بالدور متزاحمين خلف الباب وكل واحد منهم يساوي ربع ورقة من فئة المئة دولار . رغم ان ذلك الطبيب قد عرف عني اني اديب وشاعر ومدرس لمادة الفيزياء .

ان ذلك الذي كان وقتها يحدث لي هو مما لم يتكلم عنه احد من المثاليين ولا من الماديين ولا حتى هنري برغسون الفيلسوف الثنائي او الثنوي الذي كان يعتقد ان لو استطعنا ان نحصل على اشارات صورية لما يحصل في الدماغ حين يرى الانسان جسما ماديا ونقارن الصورة التي يراها العقل مع شكل الجسم الموضوع خارجه لحددنا طبيعة الفلسفة ان كانت مادية او مثالية . أي عن طريق تحويل الانسان الى جهاز استقبال يصور ما يراه وما يحس به . أي ان نرسم صورة لما يحدث في دماغ الانسان اثناء الرؤية .

لم يتكلم احد عن العذاب الذي يسبق خروج "الروح "والتي قد تطول كثيرا . ولا يعرف الطبيب شيئا عن امراض العقل والنفس الا عما يعرف بالصدمة .

وراحت تراودني فكرة عن الشلل الذي لو اوقف حركتي وفمي عن النطق فماذا سافعل وهذه الديدان السامة تتحرك داخل راسي ؟

وهنا راحت تجول بخاطري فكرة الانتحار ومغادرة هذا العالم وما سيعقب ذلك من هدوء ، لايماني المطلق بان الله في حال وجوده فانه اكبر من ان يعذب احدا ما بدلا من ان اتحول الى مجنون رسميا وهي فكرة كانت تعتبر المنقذ من الحياة حين يموت الانسان ويضيع كل الامل بانتصار الحياة فبمجرد ان اضع الطلقة في راسي عن طريق الفم حتى اغادر هذا العالم ولكن تاتي فكرة المغادرة تلك وهي صعبة جدا ان تغمض عينيك ويبقى الابناء يتحركون في دوامة العار الذي سيجلبه موت ابيهم الجبانفي مجتمعنا الشرقي المتدين شكلا .اعرف شخصا لادينيا او ملحدا قد بدا يؤدي الصلاة عندما صار عمره في ابواب العقد السادس وصار يؤديها في اوقاتها وادى العمرة الى بيت الله الحرام رغم انه يشرب الخمرة في السر وحين سالته عن السبب قال لي بالحرف الواحد :

-         اخاف حين اموت ان لايذكرني الناس بالخير امام ابنائي وعائلتي.

ولكي لاانسى فقد بدات افكاري تتغير امام فكرة وجود الله امام هذا الجسد العجيب المترابط الذي لاينسى شيء منه شيئا اخر وكيف ان القلب حين يضخ هذا الدم الكثيف كيف يمر في جميع خلايا الجسم وشرايينه وانابيبه الشعرية الدقيقة وكيف يتم تغذية الخلايا العصبية من بالدم وحالما ينقطع الدم مؤقتا عن جزء بسيط من الدماغ فسيحدث ما يحدث . ولقد كنت قرات عن ذلك ولكن الان انا احسه بدلا من ان اسمعه فراحت تتغير افكاري ولما كنت مسلما بالولادة فقد وجدت ان اقرب طريق الى الله هو في اداء الصلوات الخمسة وفي طلب رضا الله لان هكذا الة معقدة وهي المخ وما تضمه داخلها من اعجاز لا يمكن ان تكون من صنع اخر غير الله . ولايمكن للطبيعة ولا لغيرها صنع اعجاز كهذا . وقلت في نفسي ان هذه الدنيا وما فيها من طاقة وكهرباء وسيارات ومنجزات لايمكن لها ان تنتهي هكذا بدون اخرة .

المشكلة ان كل ذلك وغيره كنت اعرفه وكنت لادينيا رغم ذلك ولكن الجلطة غيرت كل اهدافي وتوجهاتي .

كل ذلك كان يدور في راسي الذي تكاد الفئران السامة الصغيرة التي تتكاثر باطراد وهي تشبه اسلاكا موصلة من النحاس اسقطت داخل دائرة الكترونية معقدة فراحت تخلط القلق بالتشاؤم بالشلل النصفي بتهيؤات مابعد الجلطة الثانية او الثالثة مع فقدان الذاكرة الجزئي. ورحت اندم على اشياء لم افعلها يوما ما وكنت اظنها صحيحة حد الاصرار وما يصاحبه من نقاش وعناد وبدات اناقض نفسي في مدى صحتها ورحت اتمنى لو اعيد صياغة المستقبل من جديد وان اعود الى الماضي البعيد وان احسم خياراتي من جديد وكان لعبة الزمن او الة الوقت بيدي .لقد صار الشك يراودني حول مدى صحة كل شيء فعلته في حياتي .

 

ورحت احسد الموتى الذين يغادرون الحياة دون ان يعرف احد مايداخل الدوائر الكهربائية التي في رؤوسهم من قلق وتفكير .

 

 

اتذكر مرة ان ممثلا من اهالي قريتي كان صديق طفولة لي . ولما كان ممثلا من الدرجة غير الاولى لعدم وسامته وخجله النسبي فقد انتابت الممثل نوبة من القلق والنكوص الحاد جعلته يبحث عن السبب الذي من اجله ان لايكون هو ممثلا من الدرجة الاولى في البلد ناسيا او في الحقيقة متجاهلا ان هناك فروقا فردية بين ممثل واخر ويعود سبب التجاهل الى عدم وسامته ماكان يتراكم في عقله الباطن وكان يتساءل مع نفسه باستمرار :

-         لماذا انا وليس غيري ؟ لماذا لم اكن مثل فلان الوسيم او فلان الممشوق او فلان الغني ؟

وادت نوبة القلق تلك الى ان يتوقف الممثل عن اداء مهنته كممثل .لقد انهت نوبة التفكير تلك الممثل الذي لم يرض بما قسم له فهي اقدار الحياة تعطي كل انسان بما قدر له من مال وجمال وبنية جسم ومؤهلات . وانتهى الى المصحة النفسية ولم اعد اراه بعدها

 

وبدات اخاف ليس من فعل الجلطة نفسها بل من الماضي الذي سبب في بدني الجلطة وتاريخي لم يكن كما هو عليه معظم الناس كما بدا لي وانما هو عبارة عن تاريخ مليء بالملابسات .

انني احس ان الجلطة كانت تختبيء في تلافيف دماغي وتخبيء داخلها كل تلك الفئران القارضة حتى اذا ما انفجرت راحت تلك الكائنات تصول وتجول دون رادع وراحت بيوض الماضي المختبئة تحت تلافيف دماغي تفقس وتتكاثر حتى جعلتني اسير فعلتها التي هي فعلة الماضي نفسه كانت مختبئة في عقلي الباطن وكانت تتخذ منه ملاذا امنا حتى فجرت الجلطة ذلك المكان الامن فخرجت الافكار من عقلي الباطن على هيئة كائنات قارضة .

 

سؤال بحاجة الى جواب

 

السؤال الذي يتراود الى ذهني هو ماعلاقة الجلطة بالعقل الباطن ؟ وكيف استطعت ان اعيش وانا احمل في داخلي كل هذا الهم ؟ وماذا فعلت الجلطة لتظهر هذا التاريخ كله من عقلي الباطن على هيئة كائنات راحت تحفر في راسي . وكيف لي ان اخرجها من راسي لاستريح من كل ما تسببه لي من الم لايطاق ؟. ثم كيف كنت اعيش هذا العمر الطويل وانا راض قانع بوضعي . فما عدا مما بدا ؟

ورحت اخاف من الماضي المختبيء في راسي والذي جعلته الجلطة عاريا امامي منكشفا من ورقة التوت التي كان يتلحف خلفها خجلا ، دون ملابس .

 

 

بين العقل والخرافة

 

هكذا لو ان احدا اخر غيري جرى له ماجرى ولازال يجري في راسي لراح يسقط ارضا ويرفس برجليه كالمجنون ولعض لسانه في نوبة صرع رهيبة قد تقتله ، ولراح اهله يذهبون به الى الدجالين او الى الاضرحة المقدسة كما يجري في العراق بعد ان يملوا من مراجعة الاطباء والمختصين في احسن الاحوال ليتناولوا علاجات تجر اخرى دون جدوى ليتحول المريض بثقل عقله الباطن الى مجنون يركض وراءه الاطفال والصبيان . ولكن يبدو ان الكتب التي قراتها والثقافة التي انتظمت في سلوكي الهاديء جعلتني اخضع ما يجري في مخي للتشريح مثل مختص بفتح جمجمة المرضى ورحت احاول ان اعالج نفسي بالاسترخاء وسماع الموسيقى الهادئة مثل موسيقى موزارت، او كيفن كيرن التي استطعت الحصول عليها من الانترنيت مع اني كنت اتلوى من الالم غير المرئي وغير المسموع والذي لايمكن وصفه الا عن طريق الجنون أي ان جنونا يفسره جنون اخر.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2199 الاثنين 6/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم