صحيفة المثقف

الامام علي وفائض القيمة / سلام كاظم فرج

في كلمات قليلة لخص الامام علي معضلة التباين الطبقي وأسباب الفقر وثنائية الجوع والتخمة.. وفي كلمات قليلة شرح جسامة القضية وتعذر حلها حين قال( لو كان الفقر رجلا لقتلته). وإذا عرفنا ان كلمات الامام قد قيلت قبل الف واربعمائة عام.. عرفنا الاسباب الكامنة لسلسلة من الاشكالات في الاقتصاد والاجتماع والسياسة.. وحرمة بعض الاحكام رغم حليتها..(في ذلك الزمن الموغل في القدم وبسبب ندرة الذكور قياسا الى الاناث.. كانت المرأة ترضى ببيت من الطين وجذوع النخل وبخبز الذرة المخلوطة بالشعير وببعض القمح.. وبثوب واحد او ثوبين في العام.. سترا ورجل واحد.. تشاركها فيه زوجة أخرى تحفظان غيبته وفراشه وعرضه..) فالمرأة ليست اقل ادراكا من الرجل في تقدير الموقف وضرورة بعض الاحكام..والاعراف..

لكن في هذا العصر الذي عبر ثورة الصناعة الى ثورة الاتصالات.. تمتلك مقولة الامام عليه السلام مفعولا مختلفا .. فالمرأة في هذا العصر تحتاج بعد الكفاءة في الرجل الى بيت عصري يحميها ويحمي اولادها على الرجل ان يوفره ويوفر مقتنياته..ومن هذه المقتنيات التلفاز والراديو ومكيف الهواء والثلاجة والمجمدة.. ناهيك عن السيارة والهاتف المحمول مزدوج الاستعمالات..والحاسوب.. والنزهات الاسبوعية او الشهرية.. ومصروف الجيب.. ومصروف الطبيبة وفحص الجنين قبل الولادة وبعدها..من هنا نستطيع ان نفهم حلية الزواج من اثنتين وثلاث واربع في ذلك الزمن.. واشكاليته في هذا الزمن.. فالمرأة العصرية لا ترضى ان تكون وعاء انجاب وحسب.. او وسيلة لتعففها وتعفف زوجها وحسب.. بل تسعى ان تمتلك كل مقومات التكافؤ الاجتماعي.. وإذا اراد الرجل المؤمن ان يقتدي بالسلف الصالح من ناحية الاقتران باكثر من واحدة وليعدل بين الزوجات عليه ان يوفر كل ذلك لأزواجه..

واذا رجعنا الى مقولة الامام علي عليه السلام( ماجاع فقير الا بما متع به غني..) سنجد ان ليس سوى اللص وآكل السحت من يستطيع ان يوفر بيتا عصريا لزوجتين او اكثر.. فمتطلبات العصر اكبر من أن تستوعبها السيدات الراضيات بدور الزوجة الثانية او الثالثة..

قد توفر الرأسمالية بعض الحالات التي يستطيع فيها الرجل ان يفتح بيتين او ثلاثة. برزق حلال شرعي.. مخمس ومزكى ومصدق.. ولكن إذا اعتمدنا مقولة الامام.. مقرونة بشرح كارل ماركس لمعنى فائض القيمة..والسرقة الحقيقية لكن القانونية( وفق قوانين الاقتصاد الرأسمالي) سنجد ان الأخوة ( الملياردية) هم محض لصوص. فالمليونير الدولاري او الملياردير الديناري والريالي الخليجي.. لن تأتي امواله مبرأة من السؤال..

واذا رجعنا الى مقولة الامام زين العابدين السجاد عليه السلام( الدنيا حلالها حساب.. وحرامها عقاب..) نفهم جدل ( ديالكتيك) حرمة وحلية ان يكون الرجل مليارديرا في عصر ( فوق خط الفقر وتحت خط الفقر..) واعجب لمن يدعي وصلا بالاسلام ولا يشعل الرأس فكرا وشيبا في كيفية حل هذه المعضلة.. وإذا اخبرنا الامام علي عن صعوبة حلها في قوله لو كان الفقر رجلا لقتلته فذلك لايعفينا من مؤونة البحث اليومي والسنوي لحلها.. وهذا يفسر نشوء وزارات التخطيط في الدول والحكومات..

لقد نبه المفكر الفيلسوف الشهيد محمد باقر الصدر الى إشكالية المقارنة بين الفكر الاسلامي وبين الفكر الرأسمالي والماركسي..مثبتا حقيقة ان الاسلام قد سبق المنظومتين الفكريتين المعاصرتين في استنباط قوانين الانتاج وتوزيع عائديته بمايحقق العدالة الاجتماعية.. ومؤكدا ان ذلك لا يمنع من دراسة كل النظريات الاقتصادية مع توخي الحذر في الوقوع في شرك تفضيلها على الفكر الاسلامي... والدليل انه رضي الله عنه قد درس النظريتين دراسة علمية متفحصة ودقيقة.. وتجاوز حالة التعتيم والخوف من ولوج مظانهما. ودراسة اساساتهما.. والقاء الانوار الكاشفة الى حيوية وديناميكية الفكر الاسلامي .. وقدرته على تمثيل العصر الراهن دون الوقوع في استياتيكية(جمود وسكون)..الاحكام المتعلقة بالامور الاخرى المكررة والمعروفة والمشبعة بحثا. كالطهارات والنجاسات وما كانت عليه حياة السلف الصالح..وزواج المسيار او المسفار او المتعة.. وما كان عليه المسلمون من خلاف فقهي او تفسيري للتاريخ.. فانتج كتابيه المهمين اقتصادنا وفلسفتنا.. ثم لحقهما بكتابه الاقتصادي المهم ( البنك اللاربوي). وكتابه الفلسفي المهم( الاسس المنطقية للإستقراء.. )كل ذلك جعل المفكر الماركسي روجيه غارودي يشد الرحال ويبحث عن هذا الرجل المعجز الذي استطاع ان يخرج بالفكر الاسلامي من مخالب التكرار والجمود الى رحاب العصر بكل اشكالياته بشجاعة نادرة وفي مجتمع راكد تحكمه اوليغارشية فاشستية قومانية قصيرة النظر تقتل المفكرين.. اعني حكومة صدام حسين..

لقد نهل المفكر محمد باقر الصدر من فكر الرسول الاعظم ومن فكر الامام علي.. ولم يبتعد قط عن نهجهما الحقيقي.. لكنه اعطى لخطابه وخطاب تلامذته بعدا عصريا معاصرا.. وقدم دراسات لكيفية صمود الاسلام في مرحلة ما بعد ( الانتاج الواسع) والرأسمالية في اعلى تمظهراتها. ..مؤكدا ان مصطلح الاشتراكية والرأسمالية رغم بريقهما ..ليسا بديلين عن مصطلح الفكر والاقتصاد الاسلامي.. وقد اثبتت الاحداث بعد انهيار النظام الاشتراكي صحة مقولاته تلك.. وبعد قبول الصين الشيوعية بهونك كونغ الرأسمالية في بنيتها الاقتصادية عرفنا ان دوغما( جمود الفكر) لم يقف عائقا امام تنوع مصادر التشريع الاقتصادي..

فلا اشتراكية مفرطة في رفضها للمشروع الخاص والملكية الخاصة. ولا رأسمالية متوحشة مفرطة في رفضها للمشاريع الحكومية او ما يسمى بالقطاع العام..

هنا... لست مدافعا عن الفكر الاسلامي او مروجا بمناسبة شهر رمضان المبارك.. ولكن لتثبيت حقيقة.. اننا ما زلنا ابعد ما نكون عن فكر الرسول الاعظم او فكر الصحابة او فكر محمد باقر الصدر.. فلا نحن اشتراكيون لكي نجادل وفق مقولات الماركسيين. ولا رأسماليون لكي نجادل وفق ادم سمث( دعه يعمل دعه يمر) او وفق ريكاردو او كينز.. ولا نحن اسلاميون لكي نجادل وفق الرسول الاعظم والامام علي عليه السلام ووفق محمد باقر الصدر رضوان الله عليه.. وهنا اتحدث عن كل الدول الاسلامية من باكستان الى السعودية وايران ومصر والعراق..

فالاسلام ليس في جدل السفور والحجاب. وليس في جدل الطهارات والنجاسات..وليس في جدل ما فات من الركعات.. والسهو في الصوم والافطار والسجود والركوع.. رغم اهمية كل ذلك... بل في البحث عن جدل فائض القيمة في الانتاج وكيفية حل معضلة الفقر وثنائية الجوع والتخمة. وفي حلية ان يملك الرجل ثلاث زوجات ببيوت فارهة.. مدججات بالذهب والالماس. وبالفاره من السيارات .. مقابل جمهرة من الرجال ومن النساء.. لا يجدون ما يكفي من قوت.. فكيف بتأسيس بيت والحصول على عروس في بلدان تسمى اسلامية.. وتحت اراضيها بحيرات من النفط الخام ..

الجدل في مثل هذا الامر.... هو الاسلام.. وهو الاخلاص.. وهو التوحيد.. وهو التقوى..

والتقوى. الخوف من الله لاعليه. والخوف من الله يستدعي البحث في جدلية الفقر والغنى..وعفة النفس.. وعفة النفس لا تعني الخوف على الشرائع.. بل الخوف منها.. واتقاء التفريط بها... وما كانت مقاصد الشرائع كلها الا لتوقير الانسان.. وضمان كرامته... وعيشه الرغيد..

.... حين انهى ماركس المجلد الاول من كتابه ( رأس المال) كانت ايام عمره قد نفدت وغادر الحياة.. فأكمل زميله ( انغلز).. المجلدات المتبقية والتي استغرق انجازها حفنة من السنوات.. والذي يهمنا من الكتاب الشهير.. موضوعة عوامل الانتاج..ووسائل الانتاج وأثرها في ارتقاء الفكر البشري واثر الاقتصادي على الفكري والثقافي والوعي .. ولسنا بصدد الحديث عن التمظهرات اللاحقة كالستالينية والماوية وغيرها التي اخرجت النظرية الى فضاءات غير فضاءات ( ماركس وزميله)..بل في البحث عن علاقة قول الامام علي المعجز عن ( جوع الفقير مقابل تخمة الغني)..وعن الفقر العصي على القتل والدعوة للبحث عن كيفية قتله وإلى الابد..( وتلك هي مقاصد الامام. ومقاصد الشريعة.. ومقاصد الانبياء).

عوامل الانتاج اربعة. الارض ( ومردودها الريع)..والرأسمال ( ومردوده الربح الحلال..) والعمل ( العمال) ومردوهم الاجور( الرواتب) . اي اولئك الذين لايملكون سوى عضلاتهم وخبراتهم في تسيير الالة.. .....والتنظيم.. اي المنظم لتفاعل عوامل الانتاج الثلاثة السابقة. وقد يكون مالك رأس المال هو المنظم ايضا.. فيستحق بذلك مرود الربح لماله وما يملكه من وسائل انتاج.. مضافا اليه استحقاقه كمنظم جدير بذلك..

النقطة الجوهرية التي انتبه اليها ماركس وزميله.. إن اجور العمال ومهما كانت عالية لاتحقق الا النزر اليسير من تدبير امور العامل المعاشية..وإن صادف ومرض هذا العامل او توفي.. فإن مصير عائلته الدمار.. لكن مالك وسائل الانتاج..ان احسن ادارة مشروعه باعتباره مالكا ومنظما.. تتضاعف ثروته في غضون سنين قليلة على شكل متوالية هندسية بما يعادل الالف ضعف احيانا..

ووضع ماركس معادلة رياضية بين فيها اسباب هذه المفارقة واكتشف حقيقة ان مالك راس مال.. يسرق نسبة من فائض اجر كل عامل. غير تلك التي تقع في استحقاقه او استحقاق الصيانة والاندثار وتطوير المشروع... هذه النسبة.. هي التي اطلق عليها فائض القيمة. والتي تشكل اهم مفصل من مفاصل الفكر الاشتراكي والتي اعطت للعمال حق التفكير بذلك وتنظيم انفسهم لاسترداد هذا الحق المسلوب..

لقد حدثت ثورات وانتفاضات... وقد استفاد الرأسماليون قبل الاشتراكيين من هذا الاكتشاف.. فاستجابوا لبعض مطالب العمال.. وبسبب ضغط العمال الهائل.. سنت القوانين في تثبيت حق الاضراب وحق تشكيل الاحزاب العمالية.. وها نحن نرى اليوم ان بلدا مثل فنلندا او السويد او الدانمارك.. لم يبتعد كثيرا عما توخاه كتاب رأس المال.. فالفوارق في مستويات معيشة الناس ليست بالحجم الذي يهين كرامة الانسان..

ويبقى السؤال. ان وجد الاشتراكيون والرأسماليون تفاهمات مشتركة لتخفيف الاحتقان الطبقي بسن القوانين لحفظ كرامة الانسان وتحويل الصراع الى صناديق الاقتراع والصحافة والفن والادب..

فمتى سيجد الاسلاميون طريقهم في حل المعضلة التي نبههم اليها الرسول الاعظم قبل آدم سمث,, وماركس.. وركزها امامهم ابو الحسن في كلمات قليلة . قبل مئات السنين. ؟؟؟..

سيدي ومولاي وامامي علي بن ابي طالب... كتبت هذه الكلمات من وحي ذكرى جرحك وشهادتك التي تمر في هذه الايام من رمضان..ووجدته دينا في عنقي.. ان اكون مخلصا لما وعته ذاكرتي... من سيرتك ونهجك وفكرك... وما وجدته في محاولات اقوام الإفادة منها.. والبحث في مظانها وتحقيقها . وما وجدت في تقصير قومي من بلوغ عتباتها..

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2200 الاربعاء 8/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم