صحيفة المثقف

جدلية العلاقة بين المفهوم والسلوك / علي جابر الفتلاوي

وعند وقوع الحادثة لهذا الرجل القروي كنت انا غائبا عن الدنيا ، يتكلم الرجل عن الحادثة بهدف النقد الذاتي ، ونقد المفاهيم التي كان يحملها عن معنى الرجولة والشجاعة ، يتحدث الرجل عن هذه المفاهيم ويقول وننقل حديثه بتصرف ، كنا نفهم الرجولة والشجاعة بمفهوم غير المفاهيم السائدة اليوم ، الرجولة والشجاعة في ايام شبابنا تعني ، ان نخرج ليلا لنسرق ممتلكات ومقتنيات الاخرين ، فمن لم يخرج في الليل لغرض السرقة فهذا الرجل جبان وغير شجاع ولا يستحق الاحترام ، وحتى ابناء السلف اوالعشيرة ، لا يزوجوه من نسائهم لعدم توفر صفات الرجولة فيه ، واذا عدنا الى تأريخية هذا المفهوم ، لوجدنا انه من المفاهيم التي كانت سائدة ايام الجاهلية ، وهي الفترة التي سبقت مجئ الاسلام على يد نبي الرحمة والانسانية محمد صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه المنتجبين وسلم.

 

الملفت للانتباه ، بقاء هذا المفهوم حيا عند بعض العرب رغم مضي هذه السنين الطويلة وهذا يعني عدة امور منها ، ان هؤلاء لم يفهموا الاسلام بما هوالاسلام الذي يريده الله تعالى ، والامر الاخر ان بعض هذه المفاهيم العشائرية هي الاقوى في التأثير على السلوك عند بعض العشائر من المفاهيم الاسلامية ، اضافة الى ان شيوع بعض (المفاهيم البدوية) كما يسميها الدكتور على الوردي رحمه الله تعالى بشكل اقوى من المفاهيم الاسلامية ، دليل على ان الحكومات التي حكمت من بعد الخلافة الراشدية ، هي حكومات قبلية عشائرية اتخذت من الاسلام غطاء فحسب ، وبقيت هذه المفاهيم من دون ان يعترض عليها احد ، وفي هذا دليل على غياب الوعي السليم لدى الجماهير من جهة ، وعلى شيوع روح الاستسلام عند الجماهير لهذه الحكومات المتزينة بالاسلام من جهة اخرى.

 

من الطبيعي ان يحمل هذا الرجل القروي ، وكل انسان مفاهيم البيئة التي يعيش فيها صحيحة كانت اوخطأ ، ويتحدد السلوك وفق هذه المفاهيم السائدة والمتحكمة ، ومن خلال احداث الرواية التي يحكيها هذا الرجل ، نستطيع معرفة مستوى العلاقة الجدلية بين المفهوم والسلوك على وجه العموم.

 

يقول هذا الرجل وننقل كلامه بتصرف كما ذكرنا ، جئنا الى الدنيا ووجدنا ان من شيم الرجولة والشجاعة ان نخرج ليلا لغرض السرقة ( نحوف ) ، فسرقة اموال الاخرين والاستيلاء على ممتلكاتهم ليلا هوجزء من الشجاعة في ذلك الزمان ، وهذا المفهوم كان مفهوما سائدا وصحيحا في معايير البيئة التي عاشها ، ومن لا يخرج في الليل ليسرق بقرة اوخروفا اوأي شئ من الممتلكات الاخرى ، يوصم مثل هذا الرجل بالجبن ، ويُحتقر بين اقرانه ، لأن الاستحواذ على ممتلكات الغير ليلا هوجزء من الرجولة والشجاعة ، ويعتبر هذا السلوك صحيحا وسليما وفق المفاهيم السائدة ، لكن من الشيم والرجولة ايضا ان لا يُسرق بيت اكل منه السارق يوما خبزا وذاق ملحه ، والرجل الذي يسرق البيت الذي اكل خبزه وذاق ملحه يُعد خائنا للخبز والملح.

 

يروي هذا الرجل العمل الذي قام به كي يثبت به رجولته وشجاعته في منطقته وعشيرته يقول :( خرجت في احد الليالي كالمعتاد عندما نخرج لنقوم بسرقة ممتلكات الاخرين بشرط ان لا تكون السرقة لاحد افراد عشيرتي ، بل يجب ان تكون من عشيرة غريبة، وصلتُ الى احد البيوت واستطعت سرقة بقرة منه، فأتيت بها مشيا على الاقدام وسط البساتين قاصدا بيتي، قبل وصول البيت طلع الفجر عليّ، تذكرت الصلاة وقلت لنفسي لأصلي الفجر قبل ان تطلع الشمس، ربطت البقرة المسروقة في احد الاشجار القريبة بواسطة الحبل الذي في رقبتها، توضأت من احد الانهارالصغيرة وباشرت بأداء صلاة الفجر ، بعد انتهاء الصلاة عدت الى البقرة المسروقة التي اصبحت من ممتلكاتي، لأواصل السير الى البيت، وصلت البيت وانتهى كل شئ، اديت صلاتي، وفزت بغنيمتي ) ، ينقل الرجل هذا الحدث وهويتكلم بصيغة الندم، ويلقي باللوم على مفاهيم عصره وبيئته ، وسوء الفهم لتعاليم الاسلام ، هنا نرى العلاقة الجدلية بين المفهوم وبين السلوك ، ومدى تأثير المفاهيم الخاطئة في صناعة السلوكيات المنحرفة.

 

من خلال احداث هذه القصة الواقعية تبادر الى ذهني عدة امور، منها اننا قرأنا في كتب التأريخ عن عمليات الغزوالتي يقوم بها البدوفي المجتمع ماقبل الاسلام ( الجاهلي )، اذ تقوم القبيلة الغازية بالاغارة على قبيلة اخرى، فأنْ سيطرت عليها يصبح كل شئ مباحا للقبيلة الغازية، النساء تسبى وتساق جواري، الاطفال يساقون غلمانا اوعبيدا ، الرجال يقتلون اويساقون اسرى، كل هذا يجري تحت عنوان الشجاعة ، فيصبح كل ما عند القبيلة المغزوة من ممتلكات ملكا للقبيلة الغازية، يتقاسمه رجالها، هذا العدوان الصارخ اللاانساني يعد بطولة وشجاعة حسب مفاهيم ذلك الزمان.

 

الامر الاخر الذي يتبادر الى الذهن هوان الاسلام عندما جاء الى الناس رحمة (( وما ارسلناك الا رحمة للعالمين )) دعى للابقاء على المفاهيم السليمة، وحارب المفاهيم التي توحي بالظلم والتعسف، وتنتج السلوك المنحرف، ومنها عادة الغزووالعدوان والسرقة والاستيلاء على اموال الغير، لكن هذه المفاهيم غير السليمة المتأصلة في النفوس لسنين طويلة ليس من السهولة قلعها من الجذور بين ليلة وضحاها ، اذ بقيت في النفوس وان اختفت مظاهرها، لذا فأنها تتنفس وتعود الى الحياة بمجرد ان تتاح لها الظروف المناسبة، واحسن الظروف لها عندما انحرف خط سيرالاسلام الطبيعي، بعد ان استلم مسؤوليته اناس هم اصلا لم يتحرروا من امراضهم الجاهلية ، واقصد الحكام الامويين ابتداء من معاوية، وبقي هذا الانحراف متسلسلا الى يومنا هذا ، فعندما نرى مثل هذه المفاهيم الشاذة التي يرفضها الاسلام الاصيل، لا نستغرب لأن من تولى امر الاسلام كل هذه السنين الطويلة اناس هم اصلا لم ينصهروا في بودقة المفاهيم الاسلامية الاصيلة.

 

من الامور التي تلفت الانتباه وتتبادر الى الذهن ايضا، ان نفوس هؤلاء الحكام الذين تولوا امر الاسلام والمسلمين لا زالت ملوثة بالمفاهيم الجاهلية التي رفضها الاسلام والذين فهموا الجهاد الذي هوواجب في الاسلام، بغير المعنى الذي اراده الله والرسول فهموه بالمعنى الجاهلي، أي انطلق المفهوم عندهم من قاعدة خلفياتهم الجاهلية التي لم يتحرروا منها، وبما ان هناك علاقة جدلية بين المفهوم والسلوك، جاء جهادهم بصورة لا تختلف كثيرا عن الغزوفي الجاهلية ، اذ استغلوا الدين ومفاهيمة الاصيلة استغلالا سيئا ومنحرفا.

 

الجهاد في الاسلام ليس العدوان على الاخرين المختلفين في الفكر اوالدين اوالمذهب، مثل ما يدعي ويفهم السلفيون المتخلفون، وتفهمه منظمة القاعدة اليوم التي تسير بهدي الفكر والمفاهيم السلفية المتحجرة، بل الجهاد هوالدفاع عن النفس والدين والوطن من عدوان خارجي، وهوجهادان، الاكبر الذي تتحرر فيه النفس من المفاهيم الشاذة والظالمة التي تنتج سلوكا منحرفا ، والجهاد الاصغر ، الذي يعني الدفاع عن الاسلام والمسلمين من العدوان الخارجي، اذ عندما يقع على المسلمين اوالاسلام عدوان خارجي حينها لا بد من الجهاد دفاعا عن الاسلام والمسلمين والوطن، وليس شرطا ان يكون الجهاد بالسيف، بل ربما يكون الجهاد بالفكر، ان كان الهجوم من الطرف الاخر فكريا، هذا ماتحدده الظروف ، ويوضحه القادة العلماء المتنورون.

 

لكن للاسف نرى اليوم عناوين للجهاد تسيئ للاسلام والمسلمين ، وتضر بالمجتمع الاسلامي ، وهذه العناوين تخدم اعداء الاسلام ، اذ تحول الجهاد عند البعض الى قتل المسلم الاخر واستباحة دمه ومحارمه وممتلكاته، يجري هذا بسبب المفاهيم الخاطئة التي يحملها هؤلاء المتخلفون ، فتترك اثرها في سلوكياتهم المنحرفة ، عناوين الجهاد اليوم تصدر وتفهم وتفسر حسب الطلب، ولوعاظ السلاطين الذين تحركهم دولارات النفط العربي، الدور الاكبر في تصدير هذه المفاهيم الخاطئة عن الجهاد ، ومفاهيم الحكام ووعاظهم هذه قد تُوحى اليهم بطريقة من الطرق من دوائر المخابرات الصهيونية والامريكية المعادية للاسلام والمسلمين ، المهم استطاعت هذه الدوائر تحويل مفهوم الجهاد عند السلفيين من الوهابيين والقاعدة ، الى قتل المسلم الاخر واستباحة دمه وعرضه وممتلكاته، وفي هذا انتصار كبير للصهيونية العالمية.

 

السلوك العدواني الذي بسببه تُقتل نفوس بريئة ، اويُستحوذ على الممتلكات الخاصة اوالمال العام بعنوان الغنائم ، سلوك جاهلي حاربه الاسلام ، هذا الدين الذي اراد للمسلمين ان يكونوا عونا للمظلوم ، وليس انصارا للظالم (( انصر اخاك ظالما اومظلوما ))، تنصر اخاك الظالم بأن تردعه عن ظلمه ، وتنصر اخاك المظلوم بأن تقف الى جانبه وتأخذ حقه ممن ظلمه ، ونفس هذا الشعار كان موجودا قبل الاسلام ولكن بمفهوم اخروهوما توحي به كلمات هذا الشعار، من خلال هذه المعطيات نرى انّ اي سلوك ما هوالا افراز لما نحمل من مفاهيم، تصوروا بعد المئات من السنين على بزوغ فجر الاسلام، لا زالت هناك ثقافة متداولة تقوم على العدوان والقتل واقصاء الاخر المختلف ويجري هذا باسم الدين.

 

ارى ان هذه الثقافة العدوانية التي تشوه صورة الدين الحقيقية ، لم تنتهِ من المجتمع الاسلامي بعد ، وذلك بسبب انحراف الطبقة الحاكمة التي استولت على الحكم بطريق غير شرعي، وهي لا زالت تحمل مفاهيم المجتمع البدوي والقبلي، وبدأ الانحراف بشكل رسمي في المجتمع الاسلامي منذ سيطرة الامويين على كرسي الخلافة الاسلامية واستمر هذا الانحراف في النموحتى وصل الى عصرنا الحالي ، عندما استلم السلفيون الحكم في بعض البلدان الاسلامية كآل سعود في الحجاز فهؤلاء ورثة اولئك.

 

انّ الحكام المتسلسلين في الحكم من عصر معاوية وابنه يزيد ولغاية يومنا هذا لم ينصهروا بثقافة الاسلام النقية الاصيلة ، التي تقوم على العدل والحرية واحترام الانسان ونصرة المظلوم ، وردع الظالم ، بل ورثوا المفاهيم الجاهلية عن آبائهم واجدادهم ، واورثوها لمن بعدهم ، واصبحت الثقافة والمفاهيم التي يطرحونها هي السائدة ، واعطوا مع طبقة الوعاظ التي تحيط بهم صورة سيئة عن الاسلام ، عرضوا الاسلام الى العالم وكأنه دين العنف والقتل والاستيلاء على اموال الغير واقصاء الاخر المختلف ، كل هذه الانتهاكات تجري تحت عنوان الجهاد ، وقد رحبت الدوائر المعادية للاسلام ومنها الدوائر الصهيونية بهذا الطرح للاسلام ، واستقبلته وكأنه هوالاسلام الحقيقي واعترفت به ودعمته ، لان هذا الطرح يصب في خدمة مصالحهم.

 

بعد هذا الاستطراد لتأريخية المفاهيم المنحرفة ، واثرها على السلوك ، لا نستغرب من قصة هذا القروي الذي يسرق ، وفي نفس الوقت يؤدي صلاته في اوقاتها ، لكن هذا الرجل ادرك خطئه وتغيرت مفاهيمه فتبدل سلوكه ، من هذا نستنج عمق العلاقة الجدلية بين المفهوم والسلوك ، عليه ندعوالتربويين الذين يطمحون لتغيير سلوك فرد اومجموعة افراد الى تغيير المفاهيم اولا ، لان السلوك هوانعكاس للمفهوم.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2201 الخميس 9/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم