صحيفة المثقف

وما إفترقنا / جيكور

السماء ترعدُ، تمطرُ، رغم أنه أول الليل، في آب البصرة اللاهب، الرعد لم يكن وميضاً منبثقاً من تناطح السحاب، والمطر ليس ذلك الغيث الذي تشرأب له أغصان الرمان وبراعم التفاح وسعف النخيل، بل هو أرتطام القنابل وأنفلاق الراجمات وازيز الرصاص، اشلاء موتى وأنين جرحى، حشود بشرية صياحها يملأ الفضاء تتهافت غير أبهة لحقول الألغام، حاملين مفاتيحاً صدئة لجنةٍ موهومةٍ.. إنه الهجوم ..

ماالذي سأقوله لأمك يارياض ؟؟ إلتحقنا معاً، كانت حقائبنا الممتلئة ب (الكليجة وخبز العروق*) الذي تعدّه أمي وأمك تتأرجح بأيدينا، نضحك بإمتلاء هازئين بالموت و جبهاته اللعينة ، كأن الأمر لايعنينا، كأننا بعيدين عن هذه اللعبة المرعبة، ألأننا مازلنا فتيين ؟ ام لأننا معاً ؟؟ هل لأننا معاً لانخشى حتى الموت ؟؟ ..

اليوم أعود بك محمولا على سيارةٍ والى جانب نعشك، نعش لشهيدٍ أخر، عسكري مثلي مأموراً بإيصال الجثة الاخرى الى أمٍ منكوبة مثل أمك يارياض، هي تجلس الان مع امي على عتبة الدار تلهجان بالدعاء لك ولي ولكل الذين ينتظرهم الموت أو الأسر أو عاهة مستديمة..

كم توسلت بالضابط أن ينيط بهذه المهمة لزميل أخر، كيف أسيرُ هذه الدرب الطويلة وأنت بقربي لاحراك،لابسمة ولاقهقهات تملأ بها الفضاء؟؟

صديق عمري، طفولتي وصباي، رياض، أتذكر يوم كنا صغاراً نتسلق اشجارالسدر والتوت فيلحق بنا صاحب الدار العجوز متوعداً هائجاً ؟؟، ويوم كبرنا وعشقنا كنت أملّي عليك كلمات الحب التي تكتبها لهناء بخطك الجميل، ويوم شربنا أول كأسٍ فضحكنا وبكينا لسبب لانعرفه، ثم تعاهدنا أن نظل معاً ونحن في الوحدة العسكرية التي نقلنا اليها، لم تكن صدفة، أنت الذي توسلت بهم كي تبقى معي، رغم المكان الآمن الذي أرادوه لك كونك رسام ماهر وخطاط لايضاهيك أحد !!

هل تذكر الجدارية الكبيرة في باب وحدتنا العسكرية التي أرغمت على رسمها ؟؟، اشترطت أن أكون أنا مساعدك، كنت أحمل لك الأصباغ والفرش، بصقنا على صاحبها بالخفاء، ركلناه بالتناوب خشية أن ترانا العيون، تعمدت رسم الأنف كبيراً والشارب متدلي مثل ذيل قرد ..كنا نشعر بسعادةِ هذا التحدي، إعترتنا رعشة الانعتاق لهذا العمل البطولي الأخرق ..

هل نسيت؟ وعدنا قبل ساعات الهجوم، أن نحيا سوية أو نموت سوية ؟؟   تركتني ورحلت!! كل شيء حدث بسرعة، السماء أرعدت وتشظت ثم سقطت فوق هاماتنا، أذكر أن برقاً يخطف الابصار ورجماً من رجوم جهنم تهاوت على موضعنا المتداعي، إرتميت فوق جسدك ، حضنتك، لكن كيف عرفت شظايا الموت طريقها الى قلبك دون أن تمر على احشائي وانا أحضنك ؟؟

هل أخطأتني تلك الراجمات لكي أوصلك الى أمك
واخوتك ليدفنوك الى جانب أبيك الذي يتحرق الى لقياك يارياض ؟؟

السائق يبكي ، والعسكري الذي معه ينتحب ، غطى وجهه المبلول ببيريته، الطريق طويلة ، سيارات كثيرة تحمل نعوشاً غلفت بعلمِ وطنٍ لايرتوِ من دم أبنائه .

العسكري والسائق لم يكلماني طيلة الوقت ، هل شغلهما الحزن على الشهيد المحمول نعشه مع نعشك عن الحديث معي ؟؟ لِم تجاهلاني وكأني لست موجوداً؟؟!

ألم يشعرا بحزني ؟ وددت لو يُسمعاني كلمة، أي كلمة، أي سؤال كي أحدثهم عنك وعني وعنا..

في سيطرات التفتيش اللعينة، يرفعون أيديهم ويحيونك، يؤدون لك السلام، قبل أيام شتموك، شتموني وشتموا جميع الركاب، كادوا يضربونك، الان يحيونك، عجبي، يتصنعون احترام الموتى !!

والاحياء ؟؟ لا إحترام !!

إقتربنا من الحي الذي ولدنا ولعبنا وعشقنا فيه، لم ينبس السائق والعسكري بكلمة واحدة معي، تجمع الناس في شارعنا، إخوتك واخوتي، أمك وأمي، يلطمون يصرخون، تشبثت امي في النعشين، بكى السائق، بكى العسكري ، بكت العجائز، النسوة ، الشيوخ ، دموعهم أبكت حتى الصغار، لم يستقبلني أحد، لم يحضني أحد، لم يبك معي احد، هل ظنوا أني تركت الموت يختطفك من بين يدي؟؟

رأيتك تقف في أخر الشارع، هرعتُ إليك، صرخت بهم : ها هو رياض لم يمت، هناك خطأ في الأسماء ، الموتى يتشابهون، قلادته العسكرية سقطت الى جانب هذه الجثة ..

وصلت اليك تبسمت، همست لي : نحن لم نفترق لحظة، لنمض ياصاحبي، تشابكت أيدينا ورحلنا الى البعيد .

 

* الكليجة / معجنات عراقية تحشى بالتمر او بجوز الهند يمكن الاحتفاظ بها لمدة طويلة. وخبز العروك فطائر تشبه اللحم بعجين.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2201 الخميس 9/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم