صحيفة المثقف

ارتباط / إيمان الدواخلي

وهي من فازت في مباراة العناد. أتأملها وهي تمد لسانها، لتلعق الأيس كريم، وترفع حاجبيها، وتبتسم كطفلة، فأبتسم بكل خلية فيّ.. لا أحد يجعلني أبتسم من القلب مثلها. عند الإشارة في ميدان طلعت حرب، نظرت إليها، أحمل رجاءً لم أنطقه.. ضحكت.. كانت المرة الثالثة، التي نصل فيها للميدان، ونقف للاختيار، هل نكمل إلى التحرير، حيث تركب المترو، وتذهب، أم نعود إلى شارع فؤاد، ونركب من محطة الإسعاف..

أشارت إليّ برأسها أن هيا، وسبقتني إلى شارع قصر النيل، وأنا أمد الخطا وراءها، حاملا جناحي الفرح على ظهري، ناسيا حر الصيف في تلك الساعة من الظهيرة. مضت تعلق بثرثرة كثيرة عن الأحذية الموضوعة في الواجهات الزجاجية، ثم تشير لبائع مخبوزات يضعها على الرصيف، تقول إن الأمل معدوم في أولئك الناس، طالما طعامهم تحت غبار مداساتهم، بينما أحذيتهم مصانة في الواجهات الأنيقة.. ليست مقولتها تلك، بل أنا متأكد أني قرأتها يوما ما، لكاتب ما، في جريدة ما. لكن هذا لا يعني أبدًا إلا أن قيمة المقولة وحكمتها لم تتجل في رأسي إلا حين صدرت عنها هي..

عند ميدان محمد فريد، حيث تسخر دومًا من تمثاله المتوسط للميدان، وقفت تتأمل ملابس الأطفال في جزل.. تضحك كثيرًا، وهي تسألني في بساطة، إن كنت أتخيل أن يكون لنا طفلا في يومٍ ما!.. أمسك كفها وأضغطه في رفق.. تهرب من عيني، وتضحك، وتنبهني أننا في الشارع. تجذب يدها، فلا أتخلى عنها، فتستسلم، وتتركها لي.. تجذبني إلى شارع محمد فريد، طالبة أن نلف إلى عبدالخالق ثروت، لتلقي نظرة على دار المعارف. عند ناصية عدلي – قبل أن نصل بغيتنا - تنفلت من يدي، لتتجه إلى ذلك المحل المعروف هناك، ولتقف أمام واجهته، وتطلق صفيرًا خفيضًا.

تلتفت إليّ، وتناديني أن آتي لأبص معها على ذلك القميص.. مجنونة هي.. يعلو صوتها قليلا وهي تصفه بالتحفة.. أقف مكاني محرجًا، ويسمع كلمتها ثلاثة شباب يمرون وراءها، فيلقي أحدهم إليها كلمة بذيئة، تزيد من حمرة وجهي.. الموقف يتأزم داخلي، بينما هي تلقي عليه نظرة استهانة، وتعود لمناداتي، كأن لا مشكلة هناك..

حين تتشبث قدماي بموضعي، تغضب.. تأتني بخطوات ثقيلة، وهي ترفع حاجبها الأيسر، وتزم شفتيها، وتسألني عما بي.. لا أرد، فتشير إليهم وتقول بصوت عالٍ، متعمدة أن تسمعهم، إن هؤلاء مرضى، لا ينبغي أن نلقي لهم بالا.. يهم من أطلق بذاءته قبلاً بالالتفاف كارًا إلينا، لكن زميليه يجذبانه، مطلقين سبابهما له ولنا، فيكتفي بأن يشير بعينه لها وللقميص الماجن ماصا إصبعه، ثم يبتعدون.

بعد شهرين، لا أريد أن أغضبها.. بعد شهرين، لم يمكنني قبولها هكذا أيضًا.. أصمت.. تصمت.. تمشي في هدوء تجاه طلعت حرب.. لم أترجَ هذه المرة.. تنظر لي، وتبتسم.. تعرف أني لن أطلب لفة أخرى.. نصل إلى منزَل المترو.. أحاول أن أمسك يدها، فأنا أعلم أن الدوار يصيبها قليلا وهي تنظر إلى انحدار طويل كسلم المترو، لكنها تجعل الدرابزين بيننا، وتتسند إليه، رافضة يدي.

قبل أن نفترق، هي إلى خط شبرا، وأنا إلى خط حلوان، تهمس لي أننا على موعدنا القادم.. بعد شهرين آخرين!

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2202 الجمعة 10/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم