صحيفة المثقف

مذكرات مجلوط (2-4) / مسلم السرداح

فكنت انتظر بفارغ الصبر ان يعودني احد من اصدقائي اواقاربي لاني كنت اعتبر وجودهم هوعودة الحياة للميت الذي فارق الحياة بعقله رغم وجود جسده بين الاحياء.

اما حين ياتي الليل وياويل روحي من الليل فان فترة مرضي جاءت في ايام الحر الصيفي ابتداء من 7 حزيران وهي فترة القطع المبرمج كما تسميها الدولة والاصح هي فترة القطع العشوائي ان صح التعبير اكثر فكانت الظلمة تجعلني اكاد اصرخ من فرط الاختناق.

ان بيتي واقع على ركني الشارع العام وقد اقتطعتُ منه ستة دكاكين اومحلات تجارية فكنت طيلة فترة النهار اذهب لاجلس مع الجالسين على حافة السوق التجاري لارى حركة الناس المارين والمتسوقين وانا احاول الدخول معهم في الحديث ( بعد ان اضغط على لساني بكامل قوتي لاجعله يتكلم ) عن مختلف الاشياء وصرت اقضي الوقت جالسا على كرسي يسحبه لي احد اصحاب المحلات من الاخوة الذين راحوا يعتادون جلوسي بينهم ورحت احاول التدخل لحل بعض المشاكل الطارئة مثل تلك المراة التي اشترت مروحة سقفية من محل الادوات الكهربائية ووجدت ان سرعة المروحة ضعيفة فارادت استبدالها باخرى من نفس النوع ورفض بائع الكهربائيات للوهلة الاولى ( بحجة انها جديدة ) استبدالها لولا انني تدخلت وانتهت مشكلة كانت ستكون كبيرة لان المراة عادت ومعها ابنها. وقد يعجب القارئ ويقول ان هذه الاعمال يومية وليست تدخلات فاقول له :

اولا انني كنت مريضا بنصف لسان ويد شبه مشلولة وثانيا ان هذا المريض انسان كان يعتبر هذه التصرفات اليومية للناس روتينية وهم يعالجونها بانفسهم.

هذه التدخلات وغيرها بدات تعيد لي الحياة بين الناس وبالمناسبة فانا كنت اميل بطبعي الى الابتعاد عن الناس ومشاكلهم.

هذا ماكان يحدث اثناء النهار واما اثناء الليل وحين تنقطع الكهرباء وتطفا الاضواء كنت اتوحش من الظلمة فكنت اركض مسرعا الى خارج الدار لاتنفس شيئا من الهواء اشبه في ذلك الامر غريقا هدّه الاختناق اوسمكة راح ينحسر عنها الماء.

وصرت اميل الى الصخب والضوضاء اللذين رايت فيهما مايجلب الطمانينة لروحي لاقناعها انني لازلت اعيش في الحياة.

وصرت منقطعا عن الاكل حتى خس وزني بمقدار زاد على عشرة كيلوغرامات وتحولت قامتي الربعة الى قامة هزيلة رشيقة.

هناك نتائج عجيبة تحدثها مسببات يبدوان لاعلاقة بين هذا وذاك فمن يبحث في الجلطة ينظر لها على انها انسداد ما في احد الاوردة الشعرية التي تغذي بعض مناطق دماغ الانسان وهي تتسبب في توقف ببعض الاعصاب المسيطرة على بعض اجزاء الجسم مثل يدي ورجلي وهما مفعولان مؤقتان وسيزولان   ويعودان الى طبيعتهما مع الوقت والايام مع قليل من العلاج الطبيعي.

ولكن ان تتسبب الجلطة بكل هذه التراجعات فان ذلك مالا افهمه ان ذلك يشبه حكاية ذلك السائق الذي تسببت حادثة اصطدام السيارة التي يقودها في اصابة عموده الفقري وبدلا من ان يتم علاج عموده الفقري راحت الاحداث تترى فاذا هويكتشف انه رجل عقيم وان عقمه لم يكن من فعل الحادث وانما هوعقم ولادي وراح سائق السيارة يتساءل:

ومن اين جاء اولادي الستة هؤلاء مادمت عقيما ؟وراح يحقق بالامر الذي اقض مضجعه لمدة طويلة حتى صار الشغل الشاغل الذي صار يقض مضجعه ويؤرقه طويلا ليكتشف ماهوادهى من الحادث الذي اودى بالسيارة وبعموده الفقري. وجد ان زوجته التي يحبها وتحبه حد العشق كانت تخونه مع شقيقه لتعمل منه اطفالا. لتقول بعد ذلك انها كانت تحبه ولاتريد التفريط به ومفارقته بسبب الاطفال وانها اختارت شقيقه لقرب الشبه بينهما.

ان حادث السيارة وما جاء بعده من اصابة العمود الفقري للرجل يمكن علاجهما على المدى الطويل وشراء سيارة اخرى وان لم يعالجا فالامر يمكن تقبله والرضوخ الى حالتي الفقر والعوق اللتين تجرانه ولكن ماذا ومن سيعالج اويحل فكرة ان الرجل كان عقيما ولاديا ولديه ابناء ستة وان زوجته تخونه مع شقيقه ؟

انها اسباب بسيطة مقبولة ولكن النتائج صعبة ومعقدة وغير مقبولة.

وكذا فعل الجلطة. اذ ان جميع الناس وباعمار مختلفة يصابون وبمستويات مختلفة بالجلطة الدماغية وقد تعالج اوتترك اثارا جانبية مرئية يمكن التسليم لها وبها ولكن ان تجر الجلطة الى افكار داخلية تؤدي الى جنون صامت لايعرف عنه الطبيب شيئا فتلك هي الكارثة بعينها وعيانها.

ولعل ماحدث لي ولسائق السيارة يذكرني بما حدث في تراجيديا الملك اوديب اذ ان النتائج الكارثية التي وصلت اليها نهايته لاتستحق لان ماقام به من عمل بطولي بقتله الوحش الواقف على بوابة المدينة كانت نتيجته هلاكه ودمار من كان حوله مع فارق ان اوديب قد اغضب الالهة بزواجه من امه بعد قتله اباه الذي لم يكن يعرف عنهما شيئا ولكنها اقدار ويا لها من اقدار !!! ولم نكن نحن انا وسائق السيارة سوى نتائج لما عبثت به الجلطة اوحادث السيارة تلك ولم نغضب احدا.

ورحت اشبه نفسي بمن؟ بسائق السيارة ام باوديب وبدا لي اني لم اكن اشبه احدا منهما كلاهما الّا من حيث النتائج الكارثية التي كان يخبئهما لهما المستقبل واما بالنسبة لي فالنتائج هي ماكان يخبئه لي الماضي المخبوء تحت قشرة راسي على هيئة العقل الباطن. ولكن كيف استطاعت جلطة بسيطة ان تجعل عقلي الباطن اوالعقل اللاواعي ينطلق هكذا ويخرج من عقاله ؟ الم يقل فرويد وغيره من علماء النفس ان هناك جدارا يفصل بين العقل الباطن والعقل الواعي وان العقل الباطن هوعقل الاحلام وان مانراه في الاحلام لانستطيع تذكره واننا ننساه لمجرد اليقظة وانه يسيطر على سلوكنا اليومي دونما وعي.

اذن انا لااشترك لامع السائق ولا مع اوديب الملك الا في النتائج الكارثية التي سببتها الجلطة والتي سببها لسائق السيارة الاذى الذي اصاب عموده الفقري وتحليلات الطبيب ولاوديب زواجه من امه بعد انتصاره على الوحش ومن ثم قتله لابيه الملك واللعنة التي اصابت المدينة. ولاوجود للعنة سببها العقل الباطن وبهذه البشاعة الا عندي انا من مثل لماذا فعلت هكذا وكان بامكاني ان افعل هكذا لاستعيد كرامتي وارد ماء وجهي.

اشياء نسيها الناس المحيطين حولي ونسيتها انا وبنيت نفسي بعيدا عنها ولم تعد تهمني في شيء من بعيد اوقريب.

انني اشبه السكير الذي حوله الادمان مفلسا بعد ان كان ضابطا غنيا يشار له بالبنان والذي راح يبكي على ابواب العمارة التي يملكها صاحب البار وهويردد :

- لولا الشرب لكنت انا صاحب هذه العمارة الان ّولكنت اشرب الويسكي الثمين بدلا من العرق الرخيص هذا !!!

صحيح اني اخطات في بعض حساباتي عن المستقبل كثيرا جدا ولكن العاقبة حين تكون بخير فما من داع لبكاء الاطلال والصراخ تحت النتائج التي سببها ماض لم نتصرف في مواقفه الحاسمة بحكمة.

والذي ينظر الى مشاكل الناس تهون مشكلته مهما كبرت الم تقل الخنساء في نعيها لاخيها صخر:

ولولا كثرة الباكين حولي                على اخوانهم لقتلت نفسي

انا اقول ذلك كفرض عين لثقافتي وقراءاتي السابقة ولكن عقلي الباطن لازال للان يرفض الانصياع الى المسامحة والتصالح بيني وبين مواقفي السابقة التي راحت في بطن التاريخ واكلت الايام عليها وشربت. ولوكانت اشرطة ممغنطة اوقرص صلب اومرن لتاكل وعفا عليه الزمن.

بل واحاول ان اقنع نفسي ان هناك اخطاءا قاتلة فعلها كثيرون ولكنهم لم يندموا عليها بل انا اجزم ان العراق هوبلد الاخطاء سواء تلك التي يرتكبها القادة اوالناس البسطاء.

فلوان صدام حسين قد اصيب بنفس مكان جلطتي للام نفسه كثيرا على فعلته المخزية في احتلال الكويت ومن ثم تجويع شعبه وتركه الاخرين يشخبون بدمائهم وجوعهم واختبائه في الحفرة. ولوان الزعيم العادل عبد الكريم قاسم قد راجع حساباته لراح نادما على انه قد عفا عن الذئاب التي اغتالت منجزات الشعب. ولوان نوري السعيد وعصابة الرجعيين قد اصابتهم الجلطة لراحوا نادمين على اغتيالهم قادة الشعب العراقي فهد وحازم وصارم لانها البذرة التي اينعت واسقطتهم. اولوان دهاقنة العهد الجديد قد ندموا على ما جلبوه من اسى على العراق لاعتزلوا السياسة واعتكفوا في بيوتهم يصلون صلاة مشفوعة بالبكاء. ولوان ابراهيم الجعفري اصيب بالجلطة لاستحى وناى بنفسه عن السياسة التي اخذت منه رئاسة الوزراء وسلمت الى المالكي دون ان يفعل شيئا للشعب العراقي اواياد علاوي الذي خدع الناس بعلمانيته المفرطة ولوولوولو......

والتي تلاعبت كثيرا في مصير شعب جاهل ساذج وهم لايستحون لامن انفسهم ولا من الناس شعارهم الشقاوة والفهلوة في سرقة الشعب مثل ضباع اجتمعت على فريسة وحين صارت الفريسة داخل كروشهم التي تفسخ فيها الطعام وصارت تصدر منها الروائح التي تزكم الانوف والاصوات النشاز ثم راحت عيونهم تتطلع في بعضهم حتى اذا ماوجدوا ضعفا في واحد من افراد فصيلتهم انقضوا عليه.

وانا هنا لست بصدد كتابة مقالة سياسية ولكنها مجرد افكار شقت علي. والا تعالوا انظروا في داخل المستشفيات وداخل عقول الاطباء فماذا ستجدون غير خراب يجر خرابا.

واليكم الحادثة التالية التي وجدتها في عيادة احد الاطباء اثناء جلطتي :

 

صاح منسق العيادة الخاصة برقمي. فتنفستُ الصعداء بقلق ، فقد جاءني الفرج. ولقد مر أمامي عدد كبير من المراجعين.

كنت المراجع رقم42 فدخلت إلى غرفة الطبيب ، الذي طلب مني النوم على السرير الخاص بفحص المرضى ، ثم بدا بفحصي شهيق ، زفير ، زفير ، شهيق ، ثم اجلسني , وراح يحرك السماعة على ظهري. ثم بعد قليل طلب مني النزول عن السرير.

سألني بضعة أسئلة عن المدى الذي استطيع فيه الصرف من جيبي الخاص أم الذهاب إلى المستشفى الحكومي ، للقيام بالفحوصات مجانا. وأردف قبل أن أجيب بعد إن حدد لي أسعار تخطيط القلب والايكووالأشعة قائلا :

انه لايؤمن بنتائج فحوصات المستشفى لأنها غير مضبوطة.

-     وما العمل يا دكتور ؟ قلت.

-     أن تجريها هنا. قال.

لم يترك لي أي خيار في الموضوع. فكان لزاما عليّ القيام بالإجراءات من حسابي الخاص.  وجعل هذا الدكتور كلمة حسابي تلك ، مخيفة جدا حتى في مجانية الانترنيت لارتباط هذه الكلمة بالعيادات الطبية ربما لأنها مكلفة جدا.

وللصراحة فانا أفضلّها من جيبي الخاص وبعيدا عن المستشفى وإجراءاته الروتينية التي تذهب بماء الوجه وتؤذي المريض المسكين ، وتأخذ الوقت ، دون جدوى.

قلت له حين وجدت إن لامجال لي للتملص :

-     هيا يا دكتور ، فلمن نريد الفلوس ؟ فهل سنتركها للورثة النائمين للظهر ؟ قلت ذلك مشاكسا. فأجابني جواب من اسقط في يده. وكأن الجواب أصاب منه ردة فعل :

-     هيا واترك الورثة نائمين. قالها بانزعاج باد.

وكان المرضى الجالسون في صالة الانتظار يتحدثون عن أسعار الطب والعلاج عندنا فهي أعلى من أسعار أي شيء آخر في العراق ولا تتناسب مع الحالة المعاشية للناس رغم الأرقام الفلكية للمرضى بسبب الحروب الأبدية والتلوث والفقر. مع انه لايقدم لهم أيّ شيء سوى الركض المتواصل وتنتهي عيادتك لتتحضر لعيادة أخرى وهات ياحساب.

وان مرضا بسيطا يصيبك من الأمراض التي انتهى العالم منها وتجاوزها الطب ، تجعلك تزور الأطباء جميعهم. ولقد صار الأطباء عندنا أكثر شهرة من الفنان ، كاظم الساهر ولقد حفظ الناس اسماءهم عن ظهر قلب ودون جدوى تذكر. إن أطباءنا هم نتاج النكوص والخراب الذي أصاب العراق في كل مجالات الحياة.

هكذا كانوا يتحدثون بحرقة ، قبل أن ادخل للعيادة وكذلك حين كنت جالسا في صالة الانتظار.

قبل أن انتهي صرفت مبلغا كبيرا من المال وقال لي الطبيب إن علي أن أعود بعد أسبوع. وراح يكتب لي على الدواء وبخط هيروغليفي قديم ، لم استطع التمييز فيه بين كلمتي العشاء والفطور ، وقبل أوبعد وللان مع أن الدواء أوشك على الانتهاء وسوف اعود ولكن الى طبيب اخر لاني اعتقد اني لم استفد من هذا الطبيب أي شيء إلا من مفعول المخدرات وما أحلاها في هذا البلد الذي لايصلح له غير النوم علاجا !!

في هذه اللحظة دخلتْ إحدى المريضات كبيرات السن المراجعات وهي تولول قالت للطبيب :

-     دكتور بعت هذا اليوم قنينة غاز ولا يكفيني سعرها لشراء الدواء بعد أن دفعت منها ثمن العيادة 25 ألف دينار.

-     وكم هوسعر قنينة الغاز ؟ قال الطبيب بأعصاب باردة ، والمرأة المريضة تغلي مثل مرجل العالم البخاري، جيمس وات.

-     40 ألف دينار. قالت المرأة.

-     ذلك لايكفي. قال ذلك ببرود كمن اكتشف إن الحديد عنصر مهم ، وهوفلز ، يستخرج من باطن الأرض. في نفس الوقت الذي تبرعتُ أنا ، تحت تأثير الإحراج ، فيه للمرأة بخمسة ألاف دينار ، ومراجع آخر كان مع زوجته تبرع ، عاطفة ، أورجولة ، ربما ، بنفس المبلغ دون أن يقول الطبيب كلمة واحدة لتهدئتها على الأقل.

حين خرجت من العيادة سمعت احد المرضى يقول بصوت عال :

-     إن جميع الأطباء تقريبا الذين هربوا إلى خارج العراق أثناء موجة العنف التي طالتهم بالخصوص قد عادوا خائبين بسبب عدم وجود مايكسبونه هناك بسبب عجزهم العلمي والمهني. وراح يذكر اسماء حقيقية معروفة.

وقال مريض آخر :

-     إن جميع الأطباء الذين تعرضوا لحوادث الأيام وكروب الدهر ، بعد الحرب الأخيرة ، لم يأسف الناس على احد منهم ، شماتة ، معتبرين إنها نوع من الرد ، على شدة القسوة التي يصفعون الناس بها يوميا.

وانا الان اعترف ان هذه القصة رغم انها من الناحية الفنية لاتساوي شيئا ولكنها ادانة لكل مايسيء للانسان الذي تمزق تحت ضغط الحرمان المادي وصار كل من هب ودب يسرق منه وحولوه بالتالي الى سارق كبير هوالاخر شان الحال شان علي بابا الذي يسرق والاربعين حرامي يسرقون ايضا. دون ان يضع احد حدا لهذه المهزلة فالكل حرامية هذا يسرق الدولة وهذا يسرق الدولة والمواطن وهذا المواطن يسرق المواطن الاخر والجميع يتخذون من الوطن سكنا لاجل غير مسمى.

وهاك احكم على العراق هل هووطن ام منفى. الا يفكر الطبيب اوغيره بانه سيعيش هووابنائه من بعده في مستنقع ملئ بالجيفة ولن تنفعه فلوسه في منع الروائح ان تزكم انف الجميع ولا فرق بين هذا الفقير وهذا الغني ؟

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2203 السبت 11/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم