صحيفة المثقف

قضية ألبروليتاريا هي قضية المجتمع بأسره / جاسم الصفار

ألتغيرات ألنوعية ألحاصلة في تركيبة ألطبقة ألعاملة وألتي مضت بتسارع كبير منذ ألربع ألاخير من ألقرن ألعشرين تفرض نفسها ليس فقط على ألدراسات ألجادة في ألمجالات ألاقتصادية وألاجتماعية بل وعلى برامج وأساليب نضال ألأحزاب ألعمالية وألاشتراكية ومنظمات ألمجتمع ألمدني. فألتحولات ألحاصلة في نمط ألانتاج ألاجتماعي وتسارع تطوره ألتقني, انعكست بصورة مباشرة على ألتركيبة ألطبقية للمجتمعات في مناسيبها ألكمية وألنوعية. وهذا بدوره يستدعي اعادة دراسة وتوصيف للطبقات ألطليعية وتحالفاتها التاريخية ألتي يستند اليها ألتغيير ألثوري نحومجتمع ألعدالة ألاجتماعية.

نثرت ألثورة العلمية وألتقنية بذور ألتغيير في كل مناحي ألحياة ألاجتماعية وألاقتصادية وأثرت في نمط ألانتاج ألمعاصر في جميع حقوله, بحيث أصبح يعتمد على شريحة واسعة من شغيلة ألعمل ألذهني, أي على ألعمال ألفنيين ألمتخصصين كألمهندسين وألاداريين وألمحاسبين وألمخططين ألاقتصاديين ورجال ألعلم وغيرهم من ألعاملين ألمؤهلين لادارة عمليات إنتاج متطورة ومعقدة تقنياً. كما أن قطاعات واسعة من ألعمال أليدويين, نتيجة لاعادة ألتأهيل أصبحت تساهم في عمليات ألانتاج ألحديثة ليس فقط بجهدها أليدوي, بل وبجهدها ألذهني وخبرتها ألمستحدثة وألمستوعبة لطبيعة عمل آلات ألانتاج ألمتطورة. وقد أصبح هذا ألميل لجهة زيادة نسبة شغيلة ألعمل ألذهني في عمليات ألانتاج صفة ملازمة للتطور ألتقني ألمتواصل لالات ألانتاج وأدواته. ورافق ذلك انخفاضاً محسوساً في نسبة شغيلة ألعمل أليدوي في حقول ألانتاج ألمختلفة مما جعل عدد كبير من ألباحثين ألاجتماعيين في ألدول ألرأسمالية وألدول "ألاشتراكية" ألسابقة يكتبون عن ألاضمحلال ألمطرد لثقل ودور ألبروليتاريا في ألمجتمعات ألحديثة!

لا ريب في أن ألتقسيم ألاجتماعي للعمل وألتركيبة ألاجتماعية باسرها في جميع الدول المتطورة, بما فيها ألاتحاد السوفيتي ألسابق قد تعرضت في سياق ألثورة ألعلمية وألتقنية ولاحقاً ألمعلوماتية لتغيرات عميقة. وأهم هذه ألتغيرات:

 تقلص نسبة ألعاملين في ألزراعة من حوالي الثلثين الى 3-6% بالمتوسط في ألدول ألصناعية ألمتطورة. ففي روسيا, على سبيل المثال كانت نسبة العاملين في الزراعة تصل الى 75% في عام 1913 بينما هي لا تتجاوز اليوم 8%. وهذا يعني, اضمحلال دور ألفلاحين وزيادة دور ألعمال ألزراعيين في ألتركيبة ألاقتصادية ألاجتماعية ألرأسمالية ألمتطورة. ولهذا ألواقع أهمية سياسية كبيرة, خاصة بالنسبة للاحزاب ألشيوعية وألاشتراكية.

ألتغير ألمهم ألاخر, كان في نسبة ألعاملين في قطاعات ألصناعة ألثقيلة وألبناء وألنقل وألاتصالات. ففي ألولايات ألمتحدة ألأمريكية إنخفضت نسبة ألعاملين في هذه ألقطاعات خلال ألفترة من عام 1970 ولغاية 1990 من 40% الى 33%. أما في ألاتحاد ألسوفيتي ألسابق وبسبب تباطؤ مستوى ألتطور ألتقني مقارنة بأمريكا, فقد كان ألانخفاض في عدد ألعاملين في ألقطاعات ألمذكورة على قلته محسوساً. فمع نهاية ألستينات توقفت ألزيادة ألمطردة لعدد ألعاملين في تلك ألقطاعات في ألاتحاد ألسوفيتي ثم بدأت بالانخفاض خلال ألعشر سنوات ألأخيرة من عمر ألنظام من 30, 5 الى 29, 7 مليون عامل.

ألتغير ألمهم ألثالث هوفي ألنموألمطرد للقطاعات غير ألانتاجية, خاصة تلك ألتي تؤسس للتطور ألاقتصادي ألاجتماعي بصورة عامة كالتعليم وألبحث ألعلمي وألطب وألأدب وألفن. ففي ألوقت ألذي كانت نسبة ألعاملين في هذه ألحقول في روسيا عام 1913 لم تتجاوز 1% من عدد ألسكان وصلت في عام 1989 في ألاتحاد ألسوفيتي الى 19%.

وفي موازات ألتغيير ألثالث, حصل تغيير بنيوي مهم في تركيبة ألبروليتاريا ألعاملة في جميع ميادين ألانتاج ألاجتماعي, خاصة ألعاملة منها في ألصناعات ألثقيلة وألخفيفة, أي ألمنتجة للالات وألسلع ألاستهلاكية على اختلاف انواعها. حيث تحققت زيادة كبيرة ومؤثرة في نسبة شغيلة ألعمل ألذهني مع تقلص واضح لنسبة شغيلة العمل أليدوي. ففي ألوقت ألذي كان فيه عدد شغيلة ألعمل ألذهني في روسيا بداية ألقرن ألمنصرم 3 مليون شخص, بما فيهم 2 مليون يعملون في ألقطاعات غير ألانتاجية, وصل عددهم في عام 1991 الى 40 مليون شخص, هذا دون حساب ألعاملين في المهن ألحرة وألقطاعات ألخدمية. مع ملاحظة أن شغيلة ألعمل ألذهني أليوم يمارسون عملهم بنمط جماعي تضامني ليس فقط في قطاعات ألانتاج بل وفي الحقول غير ألانتاجية كالمؤسسات التعليمية وألبحثية والمستشفيات وما الى ذلك.

وبلا شك فان ألعمل ألمشترك وألتضامني في اطار مؤسسات واحدة يفضي الى مواقف متقاربة من نظام ألعمل وعلاقات ألانتاج في تلك ألمؤسسات ويوحد برامج الاحتجاج النضالية من أجل تحسين ظروف ألعمل. علماً بان تطور ألمزاج ألاحتجاجي الى برامج نضالية أسهل بكثير عند شغيلة ألعمل ألذهني مقارنة بشغيلة ألعمل أليدوي ألذين يعانون غالباً من ألاغتراب عند أدائهم لجزء محدود من عمل تنجز أغلبه آلات معقدة عالية ألتقنية يصعب استيعابها بسبب ضعف مستوى ألتأهيل ألفني.

ومن هنا فاننا أمام تغيير اجتماعي سياسي هام في تركيبة طبقة ألبروليتاريا, يجعلها قادرة ليس فقط على صناعة ألاحتجاج بل وقادرة أيضاً على انتاج فكرة أونظرية ألاحتجاج. علماً بأن هذا ألتغيير يبقى في حدود ذات ألتوصيفات ألتي أطلقها ماركس وأنجلس لطبقة ألبروليتاريا في ألقرن ألتاسع عشر. فقد أشار كارل ماركس وفريدريك إنجلز إلى أنه لم يكن أمام شغيلة ألعمل ألذهني في ألنظام ألرأسمالي إلا أن يبيعوا قوة عملهم لمالكي وسائل ألانتاج مقابل حصولهم على ألأجر. وكما جاء في ألبيان ألشيوعي: "لقد جعلت ألبرجوازية من ألأطباء وألمحامين وألشعراء ورجال ألعلم وغيرهم عمال مأجورين". وهم بالتالي ينتمون لطبقة ألبروليتاريا ألتي يعرفها ألبيان على أنها طبقة ألشغيلة ألمعاصرة ألتي " تعيش على ما تتلقاه من اجور مقابل بيعها لقوة عملها". وبصورة أدق فانهم ذلك ألجزء من ألبروليتاريا ألذي يساهم في عملية ألانتاج ألاجتماعي بقدراته ألذهنية مقابل أجر يحدده مالك مؤسسات ألانتاج ووسائلها. وقد جاء تعبير بروليتاريا ألعمل ألذهني بصورة أكثر تحديداً في تحية وجهها انجلز لمؤتمر ألطلبة ألاشتراكيين جاء فيها "يجب إدراك حقيقة أن جزء كبير منكم سينخرط في ألمستقبل في صفوف بروليتاريا ألعمل ألذهني, ألتي تصطف بدورها مع شغيلة ألعمل أليدوي في سبيل لعب دور فعال في ألتحركات ألثورية".

هذا ألتوصيف ألماركسي لطبقة ألبروليتاريا يسقط تماماً أسس تلك ألأفكار ألقائلة بالاضمحلال ألتاريخي للبروليتاريا وألتي بنيت أساساً على تصور خاطئ يرى في ألبروليتاريا, شغيلة ألعمل أليدوي حصراً. وحتى في حالة تجاوز ألنهج ألذي نعتمده في تمييزنا للطبقة ألاجتماعية وفقاً لعلاقتها بوسائل ألانتاج وطريقة حصولها على دخلها, فان معظم ألبيانات ألاحصائية لثقل ودور ألبروليتاريا في ألانتاج ألاجتماعي تشهد على أنها ألأهم وألأكبر في جميع ألمجتمعات ألرأسمالية.

فحسب ألبيانات ألتي تحصي ألنسب ألعددية للشغيلة في ألمؤسسات ألمصنعة للبضائع وألمنتجات ألمادية, دون حساب للقطاعات ألخدمية بما فيها تلك ألتي لها علاقة مباشرة بعمليات ألانتاج في جميع ألمجتمعات ألرأسمالية ألمتطورة, تراوحت نسبتهم في حدود 40-50% من ألعدد ألاجمالي للعاملين في شتى ميادين ألعمل ألاجتماعي. ففي بريطانيا, حسب احصاء عام 1981, بلغت نسبتهم 51% من ألعدد ألاجمالي للعاملين. ووفقاً لاستطلاعات عالم ألاجتماع أ. كيدنس ألتي أجراها عام 1986 فان 48% من سكان بريطانيا في ألأعمار دون سن ألتقاعد يحسبون أنفسهم على ألبروليتاريا. أما في ألاتحاد ألسوفيتي ألسابق فقد بلغت نسبتهم وفقاً للاحصاءات ألرسمية عام 1984- 61.6%. وتبعاً لمعطيات ألباحث ألاجتماعي ألروسي زدوروف فان عدد ألمحسوبين على ألبروليتاريا في عام 1990 في ألمدن ألروسية وحدها قد بلغ 35-40% من ألعدد ألاجمالي للعاملين. وقد كان هذا في ظروف انهيار ألاقتصاد في روسيا وتعطل أغلب مؤسساتها ألصناعية وألتسريح ألقسري للعمال. أما اذا أضفنا لهذه البيانات جميع ألعاملين لقاء أجر ولا يملكون وسائل ألانتاج فعدد ألمنتسبين الى ألبروليتاريا ألمعاصرة يبلغ وفقاً لدراسات الباحث ب. سلافن 90% من ألسكان ألقادرين على ألعمل في جميع ألمجتمعات ألرأسمالية ألمتطورة.

تبعاً لما تقدم, فاننا أما حلقة جديدة من حلقات جدلية تاريخية تنظم ألعلاقة بين قوى الانتاج ووسائل الانتاج. فالتطور ألنوعي في وسائل الانتاج فرض تغيراً نوعياً في تركيبة قوى ألانتاج. ولاشك في أن هذا ألأخير سيكون ألقوة ألمحركة ألرئيسية لديمومة وتواصل ألتطور ألتقني وألعلمي لوسائل ألانتاج في شتى ميادينه ألاجتماعية.

ختاماً, لابد من ألاشارة الى أن ألتطور النوعي في تركيبة الطبقة العاملة وزيادة قدرتها على استيعاب وانتاج فكر ألتغيير صوب مجتمع ألعدالة وألرفاه المادي وألروحي ليس كافياً على ألاطلاق لتحقيق التغيير ألمنشود دون وجود احزاب اشتراكية قوية وناضجة, تستوحي برامجها من ألواقع الحي المعاش مستندة إلى ارث نظري راقي وتجارب غنية ونهج علمي أثراه ماركس في نظريته ألاجتماعية السياسية عن الثورة ألدائمة وألتي تناولت أفكارها ألرئيسية في مقالات سابقة. فالغور في برامج مستقبلية قد تتحقق بعد أجيال عديدة, رياضة فكرية ممتعة ولكنها غير مجدية في حسابات ألتغيير السياسي ألاجتماعي. واذا كان لابد من وضع هدف ستراتيجي يتجه نحوه ألاشتراكيون في برامجهم ألمرحلية ( على اختلاف مدارسهم وتنوع برامجهم) فهوذلك الهدف المستنبط من تجاربهم السابقة: ألسعي لبلوغ نظام لعلاقات الانتاج, تتحقق فيه أعلى مستويات ألرفاه ألاجتماعي ألروحي وألمادي. وكما ذكر ألمفكر ألاشتراكي ألكبير كارل كاوتسكي في كتابه (دكتاتورية ألبروليتاريا) ألصادر عام 1918, ان كومونة باريس قد تسامت على غيرها من الثورات ألاشتراكية في أن جميع ألاشتراكيين ألفرنسيين قد ساهموا فيها بتعاضد ورفقة.....فالهدف ألذي يوحد جميع ألاشتراكيين هوتحرير ألبروليتاريا ومعها ألمجتمع بأسره.

د. جاسم الصفار

مدير مركز دراسات وأبحاث

روسيا ألاتحادية

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2207   الاثنين  20/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم