صحيفة المثقف

أعماق الابدية / مصطفى ساهي

جثا على ركبتيه ناظراً للسماء, كأنه يرى روحه ُ في الأبدية انحنى على الأرض وهو يقول ((في ظل نور الله ما تُريده الارواح ستناله ُ الارواح)) ....

كانت له حبيبة متزوجة, يتعرق جسدها وهي مستلقيه على صدر زوجها, تنهداتها الدافئة والتي تتدرج بالارتفاع حتى تنخفض .. تتذكر بعدها حبيبها, فتذهب اليه لتزود نفسها بالطهر, هذا الحبيب الذي يشرب كل يوم كأس من دموع الازهار ويرتشف الالم الممزوج بالدماء والدموع من كأس الحياة, كان يُسمعها الحكايات ويُرتل لها ايات الجمال .. وهي مستمعة اليه متذكرة سباق انفاس صدرها للاحتراق على جسد زوجها ..

يُحدثها عن المعاني والحب المقدس, فتنغمس روحها بطهر كلماته وهي متذكرة .. لم تنسى متذكرة ...

كانت تُحب سماع كلماته العلوية, تُحب كوخه المرتب الذي يعلن عن فقره, تُحب كوخه المظلم لان المعبد الذي بقربه يحجب نور الشمس عنه ...

كان هذا الحبيب ما ان يبيع كلماته التي يكتبها للثمالى في الحانه سرعان ما يذهب ليشتري الشموع على الرغم من جوعه, لايُحرق الشموع الا بمجيئها ...

تقول له .(( جسدك احق في ان تصرف لاجله هذه النقود من زادٌ تأكُله او شيء لتلبسه بدلاً من كومة الخرق التي ترتديها )).

كان يجيبها (( دائماً ما اسمعهم يتحدثون عني بالسوء .. وكأني لااسمعهم !! . لا يعرفون انهم مسجونون وسجنهم اشد بلاءٍ من حالي وموتهم في الحياة اشد هولاً من آلمي فهم يعيشون بين فم الموت وكلمات اربابهم, دائماً ما ينعتوني بالمجنون ولا يعرفون ان جنوني هو تمرد والتمرد هو الخروج من مستنقع الكلمات والتطهر بالنار من اتربه تقاليدهم فترفعت عنهم بأماتت ذاتي بين ذواتهم فأنا سماءٌ لا يعرفونها ومعاني لايفقهونها, هم لايعرفون لغة الصمت وروح الله وحياة الروح وذات الجمال وترانيم العاشقين ..

بعدها يلتفت الى النافذة ويكمل حديثه اسفاً بصوتٌ دافئ وعميق تملؤه الكاَبه والالم ...

قد يرى البعض ان هذا الحبيب الحالم يعيش بخيال ويتحدث عن اشياء ليس لها الاثر في العالم المادي, بل انها اوهام يتغذى بها لكي يستطيع ان يعيش حياته المتبعثرة بين اوهامه وفقره فيجد الاعذار لنفسه, فهو يعيش بين كلماته التي يبيعها بأبخس الثمن للثمالى ليقدموها لعاشقاتهم وبين كوخه المظلم وشرفته حيث كان يُحدث القمر واثير الكون ... فقد يسأل القارئ عن حال هذا الحبيب الذي سحقَ الفقر جدران قلبه .. هل ياتُرى كانت له روحٌ سامية كما هي الان لو كان من اسرة يسيرة الحال ؟ وهل سيترنم كالعاشقين وينشغل بحديث الروح ومخاطبة القمر واثير الكون بدلاً من الانشغال بكتابة الارقام وجني الاموال ؟

ان الروح السامية هي التي تترفع في ظل الظروف التي تجتر الاخرين للانغماس بالخاصية المادية دون المعنوية, فالقيمة الحقيقة في ترفع الروح هو مقدار الجوانب المظلمة المحيطة بها, فالشموع تفقد خاصية الضوء بالنهار ولا قيمة لضوئها لو لا الظلام, وبكاء السماء هو من يُحيي الارض ويُفرحها .. فلم يدفع الفقر هذا الحبيب الى جوانب مظلمة ينقاد اليها الكثير كحاله .

لم يلمس هذا الحبيب جسدها, فقد لمس ذاتها ليعرف ذاته, و تحدث اليها بروحه قبل قلبه .

اما فيما يخص كلماته التي كان يتغذى عليها فيلد حيضها عوالم خاصة به يتذوق بها الجمال الالهي بعيداً عن كل الصور الرائعة التي يمثلها القبح البشري, فقد يرى البعض انها مجرد كلمات كأنه لا يعرف ان الحب اللامتناهي والكره اللامتناهي بسبب كلمات تفرقه بالجنس او بالدين عن الاخرين متناسياً ان الاديان نُقلت الينا بكلمات, وما الارباب الا كلمات جلست على كتف التاريخ وكُست من ترابه حتى اصبحت مقدسة ..

الا ان هذا الحبيب لم يتحدث يوماً عن كلمات نقلتها الاديان .. بل كان يُرتل لها ايات الجمال ويزودها من طهر روحه العلوية ويُحدثها عن ارباب الحياة الذين سيفرقوهم وما سيتسبب هذا الفراق من الم هائل لروحه, فيحدثها قائلاً :

ملاكي .. يوماً ما لن يبقى مني سوى كلمات .. قد يفتقدني البعض بعد دهراً من الزمن وهم يبحثون عن المعاني ..

لن يبقى مني سوى كلمات .. يقولها الواعظ طالباً من الرب ان يرحمني ..

لن يبقى مني سوى كلمات .. يرتلونها لتخفيف العذاب عني .. يرتلونها بتكلف دون صدق المشاعر .. يرتلونها بألسنتهم وقت انشغال عقولهم بحبٌ تسبب موتي ولادته, بحبٌ فنيَ تسبب موتي احياءه مرةٌ اخرى ..

الذات والضمير والجسد ستتحول الى كلمات .. كلماتٌ تُكتب على قبري ...

حبيبتي ... يوماً ما لن يبقى مني سوى كلمات .. كلماتٌ ولون يرتديه من احبني .. واخرين لايملكون الخيار الا ان يرتدوه ..

لن يبقى مني سوى ذلك اللون الذي يُعبر عن الحُزن .. وان لم يحزنوا على فراقي ..

ستبقى مكتبتي .. والتي كانت يوماً ما مثل حياتي ...

شموعي المحترقة .. والتي كانت يوماً ما مثل احلامي ...

ستبقى معاني كلماتي البريئة .. كبراءة الاصنام من الشرك ...

اخطائي الطاهرة ..!! والتي لا املك القوة لألقيها ببئر الاوهام ...

واذا سألوكِ عن دموعكِ بعد الفراق اخبريهم انها ذاتٌ فنيت بين الشرائع وصدى عويل الارباب .. فما انا الا (انا) استبقت الغيب بموتها بين كلمات التاريخ وعبودية القداسة ..

بين مرارة الفراق وآلم الكلمات اخبريهم انه قدرٌ اغتسل بالدموع, انه جسدٌ فنيَ قبل موته .. ولا تحزني حزناً عميقاً لاننا يوماً ما سنحتضن اعماق الابدية ..

تُجيبهُ نائحه كالثكالى .. كمن يرثوا في المقابر بصوتٌ يستقطه الالم : يا شطر روحي لاوجود لي بغيابك .. واي جمالٌ سيبقى لم تصب عينيك نظرهما علي .. ولا جمال لعيني ان لم اراكِ بهما .. يا حبيب قلبي وروحي ان غبت عن عيني سأراك بقلبي فلطالما رايتكَ قبل ان اراك, وكم حدثتك بروحي قبل ان القاك .. يوماً ما سنتحرر من هذا العالم ونرتحل لتلك الارض القريبة من القمر لنلمسه بأيدينا ونغتسل بنوره .. هناك حيث لاقيود لاوجود حتى لليل والنهار ..

عند ذلك تسمع صوت عربتها تقترب ..فتصمت كأنها تفكر بكلمات اعظم من الكلمات .. فتسير ناحية النافذة رافعة الستارة ناظرة الى نهاية الدهر بعينين تملئها الدموع وتكمل كلامها ...

حان وقت الفراق فأذان القدر تسمعني واهوال الحياة تفتقدني .. حان وقت الرحيل الى قصر الابالسة الذين لايسمعون لغة الارواح وتراتيل الخالدين وترانيم العاشقين .. لا يسمعون ... سوى صوت تضارب الكؤوس واصوات العابدين من عبيدهم المتكلفين ...

تفتح باب الكوخ باكية قائلة ... سيفارق جسدي جسدك الا ان روحي معك فأنت شطرها ..

يتردج صوتها بالانخفاض فيفيض بالفضاء ذاهباً الى مسامع اللانهاية ...

وهو يبقى صامتاً لا يُحرك ساكناً منشطراً بين الم فراقها ومعاني كلماتها .. بعد هُنيهة يخرج من كوخه المظلم فليتفت اذ ذاك اليه ناظراً كأنه يسمع صدى صوتها بين اخشابه المترهلة ويصب نظره على زواياه المظلمة, بعدها يمضي سائراً بلا توقف كالموت, صامتاً كالقبور, لايفكر كيف تحمله ساقاه وكيف تخطوا وهي ميتة, جثا على ركبتيه ناظراً للسماء, كأنه يرى روحه ُ في اعماق الأبدية انحنى على الأرض وهو يقول ((في ظل نور الله ما تُريده الارواح ستناله ُ الارواح)).. بعدها تُعانق روحه الابدية كعناق جسده للارض ....

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2210   السبت  25/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم