صحيفة المثقف

مقتل لاجئ أم موت ضمير؟ / محمود محمد عبدي

منذ أيام لم يخرج هو و زوجته وأبناؤه وبناته من المنزل, كانوا على أمل أن تنتهي المعارك قبل أن تصل إلى حيهم, لكن هيهات.. هيهات!

يتذكر الرجل الذي كاد أن يكمل الخمسين, ما مرّبه حتى استطاع تأسيس أسرته هذه, يجمع أطفاله السبعة حوله وهو يحاول أن يحيطهم جميعًا بذراعيه, وقد تكوموا جميعًا في أبعد زاوية بالبيت عن مصدر أصوات القصف والقذائف, يمسح دموعهم ويسكن ارتجاف أجسامهم التي تجفلها ضربات القذائف المتبادلة غير بعيد.

لم يعد في البيت طعام, والماء والكهرباء قد انقطعا منذ أيام, ولم يعد هناك إمكانية للانتظار والمعارك تقترب, يحاول الأب الخروج مرارًا لكن زوجته والبنات يمنعنه, يتمسكن به والدموع تنهمر على وجناتهن, يردد بغضب ويأس لا يمكنني الانتظار أكثر, لن ادعكم تعانون من الجوع أمام عيني, سأخرج على كل حال, لكن الأم والفتيات يعدن مرةً أخرى يقلن: ماذا سيحدث لنا لو أصابك مكروه؟, إن كنت ستخرج سنذهب جميعًا معك, تجعله تلك الفكرة يصاب بنوبة قشعريرة في عموده الفقري..: أنتم ؟! لا. ستبقون. أذهب أنا وأعود. أنا أبوكم وعليكم أن تطيعوني!

تتمسك بنته الصغرى بقدميه وتبكي حتى تبلل دموعها ركبة بنطاله, ثم ينحني إليها ويرفعها, ويمسح دموعها ويضمها إليه, وهو يغالب دمعة ثقيلة, كم عزّ عليه أن يطلقها على مدى عقدين كاملين من الألم والمعاناة.

زوجته وأم أطفاله السبعة تطل على المشهد كله, متكئة على برواز الباب المقابل, منهكة من الخوف على كل هؤلاء الذين تحبهم, تشفق عليهم من نفاد الطعام, الذي جعل إفطارهم الماء, وشيئًا من العدس المسلوق, والرعب التي يشلها لمجرد أن تتصور زوجها يسير في تلك الدروب, التي لا بدّ أصبحت أبنيتها مرشوقة بقناصة لن يتركوا حيًا إلا قتلوه.

عدّة أيامٍ مرّت والطرق مقفلة, والمعارك لا تهدأ, لتقترب أكثر وأكثر, ويزداد وقعها اشتدادًا, لكن أمرًا غريبًا قد حدث ليلة الجمعة, لقد تسارعت وتيرة القصف بشكل مروّع,حتى الصباح الباكر, ثم حلّ ما يبدو وكأنه هدوء..

كان هدوءًا سبق واختبره "أبوبكر" في أحداث (مقدشو), لقد علم أنه ما يسبق الإعصار تمامًا, كان متمددًا في ضعف, وجوع الأيام الماضية قد أنهكه بعض الشيء, لكن فكرةً ما اصطدمت بوعيه فجاة, فاندفع ينادي زوجته, دخلا إلى غرفتهما, وأغلق الباب خلفه.

أجلسها بجواره على السرير ووضع يده على رأسها لبرهة, وهي مطأطئة لا تريد أن تنقل الخوف الذي يسكن عينيها إليه, وسألها بصوت متهدّج: إلى هذا جلبتُ أطفالي؟, أسفي على سورية هذا البلد الباسم والشعب الجميل, لا أستطيع أن أترككِ والأطفال لتعانوا أكثر, ولو أدى ذلك لأن ألقى وجه الكريم, لا سامح الله من جعلنا ضحية كل مجرم... أخذ نفسًا عميقًا وتمتم بحزم: جهّزي الأطفال..سوف نغادر, شجيعهم فأنتِ مصدر قوَّتهم, فرّت دمعة انسابت على خدها, كفكفها برفق ورفع رأسها, لترى نظرة التصميم والثقة بالله التي ملأت قلبه..

وقفت ماسحة دمعة أخرى, ثم خرجت مسرعة تحثّ البنات والأبناء على الاستعداد للخروج.

خرج إليهم الأب يخبرهم بما سيحدث قائلًا: لن نجد سيارات تحملنا وسنسير مسافة طويلة, أريدكم أن تكونوا أقوياء لنصل إلى مخرج من هذه البلدة, وستكون الامور على ما يرام, توقفت زوجته للحظة وكأن شكوكوها ومخاوفها قد عاودتها, لتشلها وتجعلها عاجزة عن التصرف, اقترب منها مبتسمًا برفق, واخبرها بصوت مسموع لجميع من في البيت, إننا مختلفون عنهم في منظرنا, واليوم الجمعة وقد هدأ القصف, ولا أحد من طرفي القتال ستكون له مصلحة في إيذائنا, فلسنا سوى ضيوف على هذ البلد الطيب, وليس لنا في ما يجري ناقة أو جمل, وأي طرف يؤذينا ستكون صورته سيئة أمام الله والناس.

هيّا هيّا فلنذهب بسرعة, سنحتاج إلى ساعة تقريبًا لنصل إلى خارج البلدة, وبعدها سنصل للطريق العام, وسأتدبر ما نركبه لاحقًا, لا تحملوا معكم شيئًا سوى أهم ما نملك, لا تأخذوا الثياب أوالأحذية, فقط المستندات وحليكم البسيطة والهواتف.

تم وضع كل شيء في حقيبة ظهر, وما زاد عنها وضعته الأم في كيس أسود متوسط, أصرّ (أبوبكر)على حملهما, فذلك كل ما سيبقى من ممتلكات لهذه الأسرة, ولا مجال لأن يتعرض أي جزء منها للضياع, جلسوا جميعًا ودعوا الله ان ينجيهم ويكف عنهم ظلم الظالمين واعتداء الباغين, ورددوا الأذكار والدموع تبلل كلماتهم الصاعدة للإله.

نهض الأب بحماس محاولًا إعادة الطمأنينة إلى قلب أحبته؛ زوجته وأطفاله, ونظر إليهم وقد أخذ نفسًا عميقًا قائلًا: سننطلق الآن ولن يؤذن لصلاة العصر إن شاء الله إلّا ونحن في "دمشق".

تسللت الأسرة المكونة من تسعة أفراد, من بناية لبناية والأب يحاول بكل ما أوتي من حواسَّ, استكشاف كل متر من الطريق, قبل أن يسبقهم ليكون أول العابرين, لعله يقيهم بنفسه أي خطر يتربص بهم.

في نصف ساعة حاولوا قطع أكبر مسافة ممكنة, لكن خطورة الوضع كانت تفرض عليهم التأني, فلم يتقدموا كثيرًا, ليبلغوا مخرجًا من غابة البنية التي علاها الغبار, ومنظر الدمار من حولهم, يجعل الفجوات في الأبنية تبدو كأفواه مفتوحة لوحوش أسطورية, تريد هي بحد ذاتها أن تبتلعهم.

كان "أبوبكر" كلما عبروا طريقًا, يحاول تقوية عزيمة أطفاله وزوجته, بتلاوة القرآن يذكّرهم, بآية (الكرسي) يرددها على مسامعهم وهو يلهث, ليجذب انتباههم إليه عن منظر الخراب والرعب المحيط بهم, ويستفتح بأوائل سورة (يس)عسى الله يعمي عنهم أعين المتربصين لهم بالأذى.

ربع ساعة أخرى ساروها باتجاه المخرج من بؤرة الموت التي استحالت إليها هذه البلدة التي قضوا فيها سنوات جميلة سابقة. ولم يبق امامنا سوى القليل ليبلغوا مأمنًا, ييستطيعون أن تابعوا السير منه دون شعور بالخطر, هكذا تمتم"أبوبكر" وأطفاله يحيطون به في مدخل بناية قرر أن يستريحوا فيه لبرهة, فد كانت أمامهم أرض خلاء واسعة, ستضطرهم للعدو لدقائق حتى يصبح بإمكانكهم بلوغ الأبنية المقابلة.

ثم أمرهم بالاستعداد طالبًا منهم عدم التحرك حتى يتجاوز تلك الفسحة, ويتأكد من عدم وجود خطر محيط بهم, أخذ نفسًا عميقًا وبدأ يعدوا مبتعدًا حتى أو شك الوصول لأقرب تلك الأبنية, وصوت طائرة مروحية يبدو انه يقترب.

انطلق يحمل الحقيبة والكيس الأسود على عاتقه, يعدوا بحذر وانتباه, لكن صوتَ فرقعة من إحدى البنايات القريبة, غطى على وقع خطوات "أبوبكر", نعم غطى حتى على صوت المروحية البعيد..

فرقعة تلتها أربع اخرى, ألقت الجسد النحيل وما كان يحمل, أمتارًا في الهواء, إصابة مباشرة من قناص أتقن القتل, في الأكتاف والرقبة..

تحت عيني ذلك القناص, اندفع الأطفال السبعة وأمهم, يحاولون أخذ الأب الرحيم, بعيدًا عن الرصاص الذي لم يتوقف, نعم وابل الموت لم يتوقف, ناثرًا الشظايا حولهم, وتصيب الصغير ذي السنين التسعة, فيفقد عقله راكضًا باتجاه البيت الذي كان الجميع فيه بخير...

مر يوم ويومان وسبعة, وطائر (الهامة) يحلق فوق الجسد المسجى على الأرض, يخبره بالحال, ويبحث عن ولي دمٍ يواريه الثرى, أو يجيب عن السؤال: من قتله؟

فهل من مستجيب أو مجيب؟!

 

بعد أسبوع من الحادثة

17/08/2012

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2210   السبت  25/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم