صحيفة المثقف

جدلية البناء والهدم في (ذبالة بردي مشتعلة في قارورة) للأديب العراقي سلام كاظم فرج / دينا نبيل

التي تعتمد على التناسب ومقدار التغير الحاصل كيفياً كان أو كمياً ، وكثيرا ما كانت العلاقة بين الإنسان والزمن مؤرّقة لأصحاب الفكر والتأمل، فصور أغلبهم العلاقة في شكل أقرب إلى الصراع الزئبقي بين الاثنين؛ فالزمن يسير باطراد مندفعاً إلى الأمام لا يلوي على شيء جارفاً معه الإنسان، بينما الإنسان يبقى يقاوم ذلك العنصر الهادم لذكرياته وآماله ، فيظل في سباق معه، ويتشبث بوجوده في مكان أو عمل يختاره لنفسه ليخلد اسمه . وقد كان لهذا الصراع النصيب الأكبر في الأعمال الأدبية ، فعلى مستوى تقنيات القص الفني ، فالزمن هو الذي تتواجد فيه الأشخاص وتقع فيه الأحداث، وبالرغم من كون الزمن عاملاً مجرّداً ، فإن له ( قوة مغناطيسية آسرة ، تستطيع جذب كل العناصر الروائية إليها ، وتشكيلها كما يحلو لها ، فهو سيد الرواية المتبوع دائماً)[1] ، أما على المستوى الموضوعاتي فتتمظهر تلك العلاقة من خلال موتيفة البناء والهدم التي تمثل حركة الزمن العبثية ودورانها وتحديها للإنسان في القضاء على ذكرياته ونسله، بينما هو هباءً يحاول بناء وتدارك ما يهدمه الزمن.

 

وقصة ( ذبالة بردي مشتعلة في قارورة) للأديب العراقي سلام كاظم فرج - الفائزة بالمركز الأول في مسابقة جعفر الخليلي عام 2009 - تبدو فيها تلك الجدلية بين بناء الإنسان من ناحية وهدم الزمن لما يقوم الإنسان ببنائه من ناحية أخرى. ولا شك أن تلك الموتيفة تم تناولها في الأدب العالمي كثيراً إذ إنها إحدى تجليات ملحمة الأوديسا الإغريقية في صورة الغزل والنقض،  ففي الليل تنقض "بنيلوبي" ما تغزله في النهار في انتظار زوجها "أوديسيوس" وهكذا دواليك. وقد استعان الكاتب بأكثر من تناص مع أعمال أدبية مختلفة وأساطير تخدم الفكرة ذاتها بصور متعددة ، فاستعان بأسطورة تمّوز السومرية ، وكذلك فكرة وتقنية نظرية " النظرة " في الرواية الجديدة لآلان روب غرييه ، كما تتناص بشكل واضح مع رواية الكولومبي ماركيز " مئة عام من العزلة " ، وفي هذا المقال نحاول إلقاء الضوء على تلك الجدلية في ضوء تلك المتناصات المختلفة.

 

 

المحاور :

1-        تجليات العنوان

2-        أسطورة تموز

3-        نظرية " النظرة "

4-        التناص مع " مئة عام من العزلة "

 

1-        تجليات العنوان :

يأتي العنوان الموضوعاتي " ذبالة بردي مشتعلة في قارورة " معتمداً على مضمون القصة عن طريق (المجاز المرسل والكناية المتعلقة بموضوع لا يتموقع الحديث فيه كثيراً)[2] ولم يشر إليه الكاتب سوى في سطر واحد فقط :" إن معتوق الأول كان يجبر زوجه على خلع ملابسها ويظل ساهما يتأمل لدونة جسدها تحت ضوء ذبالة بردي مشتعلة في قارورة مملوءة بالنفط "، وهذا العنوان ينقسم إلى عدة وحدات دلالية. استعان الكاتب بوحدة " ذبالة " التي ترسل للمتلقي منذ مصافحته عتبة النص الأولى إيحاءً بالضآلة والتآكل مع مرور الوقت ولا يخفي النفع الذي تعطيه لمن حولها بتلك الإضاءة ، أما وحدة " البردي " ، فعند التأمل في النص يلاحظ المتلقي تكرار الكاتب كلمة  " التدوين " ولا يخفى على المتلقي علاقة البردي بالتدوين ، فإن كان التدوين إضاءة للأجيال القادمة إلا أنه في هذا النص بالتحديد كان يتعرض لكثير من التقويض بغية طمس معالم أجيال بأكملها رغم ما للتدوين من نفع : " الحقائق تبقى ناقصة دون تدوين" ، كما تتمظهر تلك العلاقة بين التدوين الآخذ في التقلص والتآكل في آخر النص ، عند محاولة الراوي تدوين ما تعرضت إليه عائلة " المعتوق " بأجيالها الخمسة ( إن ورثة معتوق الأول الذين تجاوزوا العشرين أسرة.... حروف مشوشة.. ثم .. كلمات مشطوبة.. سيقوا الى محكمة عرفية في هوجة ما - كذا- الذكور اعدموا كلهم, كذلك الإناث - كلمات مشطوبة وان الحاكم حفظه الله.. حروف مشوشة ومشطوبة.. إلا أن الله سبحانه قد خلص ذكرا واحدا وبضع إناث لأمر لا يحزره سواه.. ثم يورد ملاحظة أخرى إلا أن كل حروفها كانت مشطوبة) إن علامات الشطب والتشويش توحي بما تعرضت له الحقائق والتدوين من إخفاء وتقليص آخذ في التنامي . أما عن " قارورة النفط " فتظهر المفارقة في تقلّص التدوين في مقابل الثروة التي يرمز إليها النفط وانتشاره أكثر من الورق مما يدل على انتشار الرأسمالية وطغيانها على تدوين التاريخ بصورة حقيقية ، وبدت العلاقة بين مدلول القارورة -" الثروة " ومدلول " ذبالة البردي "- " المعرفة والحقائق" في كونها علاقة " مشتعلة " . وبإسقاط تلك الرموز على واقع العراق في النصف الثاني من القرن العشرين فإنه يتبدّى ما عانت منه الحقائق التاريخية من طمس تحت حكم سلطوي دكتاتوري يتحكم في ما يؤرخ ويمحى : " يقال - والله اعلم - انه ربما كان خائفا من السلطات الأمنية في زمانه" ، فإن الراوي الوحيد الذي أراد كتابة تاريخ تلك العائلة كان يعاني التشويش بل وتتهرب منه عناصر السرد التأريخي مما أخل بوصول المعلومة واضحة وذلك خشية الظروف الأمنية وما يتعرض له العراقي من اعتقال وقتل وتعذيب عند التدخل في أمور السياسة ، وفي المقابل فإن النفط - الذهب الأسود – بالرغم من فيضانه وانتشار خيره على العراق وكل من قدم إليه إلا أنه كان ذاته وسيلة للاقتتال ودخول البلاد في حروب طويلة وهذا عائد أيضا إلى نظام الحكم آنذاك مما ضيّع ثروات الشعب البشرية والمادية.

 

وبتأمل علاقة العنوان بموتيفة البناء والهدم في النص، فبالرغم مما توحي به ذبالة البردي من بناء ( إضاءة – تدوين – تعليم أجيال ) إلا أنها كانت تحرق نفسها بنفسها وهو عنصر الهدم الذي فرضه عليها الزمن والسنة الكونية باحتراق الذبالة. ومن ثمّ فإن العمل والبناء منقوض منذ البداية بفعل الزمن الذي حكم من سننه على الذبالة بالاشتعال والفناء ، كما أنّ الهدم كان أيضاً بسبب الجزء الثاني من العتبة وهو النفط في القارورة – قدرة الإنسان -الذي أجج اشتعال الذبالة كي تفنى أسرع وفي وقت أقل.

 

2-        أسطورة تموز:

كانت ولا تزال الأساطير مادة خصبة يستعين بها الأدباء في مادتهم الأدبية ، وكان تزايد الإقبال على استخدام الأسطورة مع مطلع القرن العشرين رد فعل للتيار العلمي الصارم الذي كان آخذا في التصاعد آنذاك ، كما أن للأساطير سحراً يجذب إليه القراء ، فضلاً عن عالميتها فهي لا تعني مجتمعاً بعينه، ولا تنتمي إلى زمان أو مكان، بل هي ( تراث اشتراك لا تراث حكر ، فلا يوجد شعب يزعم أن التعبير الاستعاري عنده لا مثيل له لدى الشعوب الأخرى)[3] ، ونتيجة للهزائم المتكررة في تاريخنا العربي، فقد جنح الأدباء إلى استجلاب شخصيات تاريخية وتراثية وأسطورية، إذ (كان من الطبيعي أيضاً أن تتلازم أسئلة التراث والمعاصرة [...] مع أسئلة الهزيمة التي أنتجت معاً حراكاً ثقافياً عربياً عنيَ بالعودة إلى الجذور لاستلهام التراث بأشكاله كافة)[4]. فكان استخدام الكاتب لأسطورة تموز بشكل ضمني مشفّر نوعاً ما.

 

يلحظ القارئ تكرار وحدة " تموز" بشكل ملفتٍ أحياناً ، وربطها بالشمس الصيفية الحارقة التي شهدت موت أحد أفراد عائلة المعتوق الكبيرة :" تحت شمس تموز تجمعت " العراضة ".. قام بضعة رجال بلف التابوت بقطعة من قماش أسود" وبالرغم مما يحمله ذلك المشهد من هدم الزمن بموت الإنسان إلا أنه يحمل في طياته البناء ، فمن ناحية يخلف " معلى المعتوق " بعد موته ولدين، ومن ناحية أخرى كان مشهد الجنازة المهيب محط إعجاب من الراوي ذاته إلى درجة أنه تمنى جنازة مشابهة له عند موته. ويبدو عنصر الهدم في " شمس تموز " في حرارتها واللعب بالرؤوس والأفكار فتؤدي إلى التخبط واللهث وراء أفكار الجدة الخزعبلية حول انحسار نسل المعتوق في الإناث دون الذكور: " ولأن شمس تموز تكاد تسلق الرؤوس فان أية محاولة اتكاء على حقيقة ثابتة لجذور تلك العائلة وامتداداتها تصبح عديمة الجدوى " ، وعوامل الهدم وإن تكاثرت فلابد لها من حياة بعدها لأن أسطورة "تموز" (تتلخص في تجديد دورة الحياة وبعث فعل الخصب والنماء في الطبيعة)[5] ، إذ إنه ( من الناحية الرمزية، يموت ليُبعث مرة ثانية، لأن في موته حياة له، وفي حياته موت له)[6] ، ومن ثمّ يبدو عنصر البناء الإنساني الذي يقاوم هدم الأفكار الجاهلة: "إن زيارتي لتلك البقعة النائية في نهايات تموز 1958 قد اثبت لي خطل تلك النظرية الزائفة فللعائلة أولاد وأحفاد وأعمام استطاعوا أن يعتبروا أنفسهم عشيرة ذات شان" ، فنسل الإنسان يعدّ بناءً له بعد هدم الزمن لأسلافه ، وهكذا تتكرر دورة الحياة البيولوجية والتي تمد للعائلة في النماء ولاسيما عند ذكر الراوي ذلك التاريخ بالتحديد والذي يتناص مع تاريخ الثورة العراقية في تموز 1958 والتي أطاحت بالنظام الملكي وتخلصت من نير الاحتلال البريطاني على يد عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف ، فإن هذا بناء من نوع آخر يشمل بناء أمة جديدة وولادة بلد جديد بأفكار جديدة ، لأن تموز ينظر له كونه ( رمزاً لثورة عارمة تعيد الحياة الكريمة للشعوب المضطهدة التي تقارع الظلم والطغيان، وانبعاثاً شاملاً لهذه الأمة من غفوتها وانحطاطها)[7] ، ولكن لا يلبث عنصر الهدم أن يظهر مجددا، ليجسّد في عائلة المعتوق كأنموذج لما كان يصير في العراق ككل ، فينعدم ذكر الزمان والمكان في ظل الحكم الدكتاتوري لتساق العائلة بأكملها نحو محكمة وتعدم كلها بالرصاص ما عدا الراوي.

 

وأخيراً يتضح من خلال الاستعانة بتلك الأسطورة ، ما يلجأ إليه الأديب المعاصر لكي ينخلق ( تصور واضح لحركة التطور في الحياة الإنسانية، والربط بين : أحلام العقل الباطن ونشاط العقل الظاهر، والربط بين :الماضي والحاضر، والتوحيد بين : التجربة الذاتية والتجربة الجماعية)[8]، فكثيراً ما استخدمت الأسطورة لعكس الواقع العربي السياسي والاجتماعي ومآل وآمال الأمة العربية. ويبدو عند إسقاط مدلول رمز" تموز " وربطه بحركة الشمس الدائرية كما أسلفنا ، فتظهر بارقة أمل في نهاية الطريق بتغير الأوضاع وإن كان تحسناً طفيفاً ، وهذا في قول الفتى الذي عثر صدفة على أوراق الراوي :" إن المؤلف الذي كان شابا ثبت مدونات مرتبكة لا تحمل حبكة أو ثيمة مفهومة, نصوص سردية مرتبكة ربما كان حائرا كيف يدخل المعلومة الأخيرة في نصه قبل ولوجه مرحلة الذهول ... يقال - والله اعلم - انه ربما كان خائفا من السلطات الأمنية في زمانه" ، ومن ثمّ تتضح العلاقة بين شمس تموز - وإن غربت فإنها تعود مجددا للانبعاث - وعلاقتها بذبالة البردي التي تظل مشتعلة وتوحي بالاستمرارية ، فلا يخبو ولا يهدأ نورها.

 

3-        نظرية " النظرة " :

يظهر في أكثر من موضع في القصة اسم من أعلام الأدب العالمي وهو " آلان روب جرييه" Alain Robbe-Grillet والذي يلقّب بــــ " عرّاب " الرواية الجديدة ؛ والجديد في هذا الاتجاه أن جرييه لم يعمد إلى سرد الأحداث بشكل متواصل، بل يحاول إلقاء "نظرة" على أحداث ممكنة الحصول، وكأنها صور فوتوغرافية ترصد اللحظات والثواني أو تلك الشذرات القليلة من الزمن. وقد عمد الكاتب إلى الاستعانة بتلك التقنية في السرد كما يبدو في قول الراوي : " إن الذين يتحدثون عن الحاجة الى الحبكة والشخصية والزمن هم الذين عندهم نظرية..عند (روب كرييه) الزمن ينقطع عن وقتيته ولم يعد يجري " ، فلا يكترث الكاتب للسرد المنطقي بل يوظف عناصر الخطاب السردي من شخصيات ومكان من أجل نقل تلك اللقطات، إذ يفقد الزمن معناه أمام شذرات سينمائية قصيرة. فيتنقل الراوي مسرعاً بين مشاهد مختلفة غير مرتبة في البداية حول جنازة " معلى المعتوق " ثم استرجاع جذور عائلة " المعتوق " نفسه وكلام الجدة ونبوءتها عن تلاشي نسل المعتوق ، إلا أنّ الراوي كان يعاني تخبطاً أثناء السرد ويزجّ بكثير من أفكاره الخاصة الفلسفية أحياناً، يقول: "إن إلحاح الزمن على راو يرى نفسه معجبا (بالن روب اكرييه) يجعله مطرودا من مدرسته لوقوعه في شرك الزمن!!". وتبدو جدلية البناء والهدم عند تجميع تلك المشاهد مجتمعة كصور فوتوغرافية ومقارنتها معاً ، لتبدو تلك الجدلية في أوضح صورة. فيطالعنا الراوي على بناء المعتوق أسرته في قرية جنوب العراق ونماء وتزايد ذكورها وإناثها وتدرجهم في الوظائف المختلفة وكأنهم يمثلون أمة بأكملها ثم في نهاية القصة نجد هذه القرية يتم إعدام قاطنيها من أسرة المعتوق في لقطة هوجة سريعة. كذلك يأتي  مشهد الراوي الفاني وورقته المليئة بالشطب في مقابل الجيل الجديد الذي يفك شفرة تلك الورقة بقوله " لأسباب أمنية " ويحاول ملئ تلك الفراغات. ويأتي مشهد الذبالة المشتعلة في قارورة النفط والتي كانت تشهد لقاء بين معتوق وزوجته فبما تحمله من بناء ضمني لتوالد وتكاثر أفراد تلك العائلة إلا أنها تحمل كذلك عنصر الهدم ، يقول الراوي : " إن الإفراط في الأمل الذي وجدته في الحفيد الرابع أو الخامس قد حرك أفكارا متشائمة في داخلي وقلت أن الإفراط في الأمل قد يطفئ كل حرائق معتوق الأول واشتعالات ابنة السيد الإقطاعي" ، فتقف الأفكار المتشائمة ونبوءة الجدة في مقابل أمل المعتوق في التناسل.

 

4- التناص مع " مئة عام من العزلة ":

إن المطالع لقصة " ذبالة بردي مشتعلة في قارورة " يلحظ تشابها كبيرا بينها وبين الرواية العظيمة " مئة عام من العزلة" للكاتب اللاتيني جارسيا ماركيز. وبالرغم من أن الرواية تعد ضخمة وبها الكثير من الأحداث وتزاحم الشخصيات إلا أنّ القصة هنا جاءت مشابهة للرواية في كثرة الشخصيات ( الثانوية ) والأجيال الخمسة من عائلة المعتوق والتي أشار إليها الراوي سريعا في صورة الخمسة أجيال. وقد أعان الكاتب تقنية " النظرة " التي أسلفنا بذكرها ، فيكتفي الراوي بإلقاء نظرة سريعة على لقطات مميزة من تاريخ تلك العائلة وهذا من جهة أخرى يخدم القصة القصيرة وعنصر التركيز بها على عكس الرواية. ولا تتناص القصة مع قضية تناسل الأجيال من معتوق الأول ومعتوق الثاني وغيره مثل عائلة " بوينديا " في الرواية العالمية فحسب ، وإنما في تأسيس " المعتوق " قرية صغيرة جنوب العراق والذي يشبه تأسيس خوسيه أركاديو بونديا لقرية " ماكوندو" إثر هروب كل منهما بزوجته بعد الاتهام في قضية قتل، فكان هذا التأسيس كأنه بداية بناء جديد. ومن ثمّ فتتناص القصة جدلية البناء والهدم وحلقة الزمن المفرغة التي تدور وتجرف معها الإنسان وتقضي على بنائه الذي أفنى فيه عمره ، وهذه قضية هامة كانت جلّ أحداث الرواية العالمية تدور حولها.

تشترك القصة مع الرواية في عنصر البناء لقريتيهما في منطقة نائية ويبدو الأمل طافحاً لكل من " المعتوق" و "خوسيه أركاديو بوينديا" ، وهذا البناء كان تأسيساً لعائلة تمتد لأجيال طويلة ، فعائلة المعتوق امتدت خمسة أجيال بينما عائلة بونديا امتدت سبعة أجيال، إلا أنّ قرية المعتوق كانت بلا اسم على عكس الرواية ، فهذا يجعل المكان أكثر شمولية كما يوحي بعدمية تلك القرية مما ينبئ عن هدمها في النهاية. وإن كان في الرواية ثمة تشابه بين  الشخصيات التي تحمل نفس الاسم " بوينديا" أو " أورليانو" ، فكذلك في القصة تتكرر أسماء " المعتوق " أو "معلى" : " وراودتني - وأنا المولع بالمقاربة - فكرة أن يكون هنالك أكثر من معتوق وأكثر من معلى في سلسلة تلك العائلة العتيدة " ، وطالما أن هناك معتوقا أول فهناك ثان وثالث وغيرهم . إن ذلك التأسيس بتكرار الأسماء ذاتها يعطي القارئ شعوراً نحو تلك العائلة وكأنها صارت عائلة ملكية تتكرر فيها الأسماء ، فــــ (هذا التردد الكثير للأسماء يخلق جواً سحرياً يعبر عن قوة وجود الإنسان في العالم)[9]، لاسيما قوة الرجال كونها هي الفاعلة للبناء والثورة . ويظهر البناء كذلك في التحرر من الإقطاعية المتمثلة في أبي زوجة المعتوق الأكبر وتأسيس عالم جديد يتدرج فيه الأفراد في السلم الاجتماعي:" فللعائلة أولاد وأحفاد وأعمام استطاعوا أن يعتبروا أنفسهم عشيرة ذات شان فمنهم المعلم والسائق والفلاح والعسكري ومدير الناحية" وهذا يتناص مع الرواية التي أطاحت الرأسمالية البورجوازية فيها بالإقطاعية. وعلى النقيض يأتي في نهاية الرواية تدمير "ماكوندو" بفعل الطبيعة مما أدى لتداعي ذلك العالم بأكمله، بينما في القصة فكان دمار العائلة بفعل الإنسان إثر الحكم عليها بالإعدام ودفن أفرادها في مقبرة جماعية ، مما أضاف بعداً جديداً لتلك الجدلية وهو التدمير بفعل الإنسان لا الزمن فقط. وإن كان التنبؤ بفناء كلتا العائلتين صحيحاً إلى حد كبير سواء من نبوءة ملكيادس أو الجدة في القصة التي شهدت نمو تلك العائلة والتي تشبه " أورسولا " زوجة مؤسس القرية إلى حد كبير، يقول الرواي عنها في رواية ماركيز: " قد تخلت عن العادة الوبيلة في حساب سنوات عمرها، وواصلت العيش في زمن الذكريات الراكد والهامشي، في مستقبل مكشوف ومحسوم بالكامل / 475")[10] فهي دورة حياة أجيال بحيواتهم المتداخلة والتي هي دورة الحياة نفسها.

 

الخلاصة:

قصة " ذبالة بردي مشتعلة في قارورة " تظهر فيها جدلية البناء والهدم في أكثر من عنصر ابتداء من العنوان ثم استخدام الأسطورة ثم التناص مع نظرية " النظرة " لجرييه ومع رواية " مئة عام من العزلة ". وإن كان تمثيل تلك الجدلية من خلال إظهار سطوة الزمن الطبيعية ، فإن الكاتب قد أضاف بعداً جديداً بتدخل الإنسان في عملية الهدم والقضاء على الإنسان المماثل له في الحياة والقوة والحقوق، مما يعدّ إضافة جديدة من الكاتب لتأخذ القصة المتلقي إلى منحى الاستبداد والطغيان والفساد ، وذلك مكمن إبداع القصة.

 

دينا نبيل -- مصر

 

.................

الإحالات :

1- الرواية المصرية القصيرة في الربع الأخير من القرن العشرين: د. أبو المعاطي خيري الرمادي ، مكتبة البستان للمعرفة ، ط1 ، 2006: ص 144

2- عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص): عبد الحق بلعابد، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط1، 2008: ص 79

3- النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري : حنّا عبود ، إتحاد الكتاب العرب 1999 ،ص 90

4- النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة: د. نضال الصالح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001: ص 73

5- أثر التراث الشعبي في القصيدة العربية المعاصرة (قراءة في المكونات والأصول) دراسة: د. كاملي بلحاج ، اتحاد الكتاب العرب، دمشق ، 2004: ص 76

6- المصدر ذاته: 77

7- المصدر ذاته

8-  اتجاهات الشعر العربي المعاصر: د/ إحسان عباس ، عالم المعرفة ، ص 129

9- الموتيف في الأدب الشعبي والفردي "نحو منهجية جديدة": د. سليمان العطّار، الهيئة المصرية العامةللكتاب ، القاهرة، ط1، 2012: ص 99

10- رواية "مئة عام من العزلة" : غابرييل غارسيا ماركيز، ترجمة: صالح علماني، دار المدى ، دمشق ، 2008، ص475

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2212 الاثنين 27/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم