صحيفة المثقف

ذبالة بردي مشتعلة في قارورة / سلام كاظم فرج

ولا الابن، إنما الأب وحده العليم... إنجيل مرقس.

أردت /أبقاك الله / أن أجد معنى لذلك التحضير المجيد لجنازة (معلى المعتوق) / الفلاّح / الساكن بقعة نائية من بقاع الهور متخذا دارا في جزيرة صغيرة هناك مكتفيا بما كان يكفل مؤونة يومه... ضغطُ الفكرة يكون مختلفا علي بين الفينة والأخرى .. لكني أتذكر بشي من التبجيل إني تمنيت ذاك الاحتفاء بالجنازة لنفسي بعد عمر مديد..!

كانت عراضة أل مهنا بأعلامها الحمر قد توجهت راجلة مصحوبة بزورقين .. وقد جهز فتيتها بسواعدهم المفتولة خراخيش رؤوس الأعلام لهزها أثناء الهوسات .. وقيل إن "بريسم المهوال" قد سهر الليل جله يحضر بضعة أشعار يؤبن فيها "معلى المعتوق" ضمنها تمجيدا لولديه كاظم وعبد الباري وشدا لأزرهما لتقبل المصاب الجلل ... كانت ..أيضا عراضة البو منصور بأعلامها الصفر ومهوالها محيميد وعراضة أهالي الشرش بأعلامها الزرق وخراخيشها النحاسية المصبوغة باللون الأخضر قد شاركت بتأبين الفقيد....

اعلم رحمنا الله تعالى وإياك.. إن الطبيعة إذ تفرض قوانينها فرضا على الناس فان الناس بالمقابل يبذلون جهدهم _وبكيد غريزي _ بفرض قوانينهم عليها.. وهذا ما رايته بأم عيني في جنازة معلى المعتوق....

ويقال " والله اعلم " .. أن معتوق الاب حين قدم الى تلك البقعة النائية من الهور قبل مائة وخمسين سنة .. أوحى للقوم بعدم رغبته في الخوض بالأسباب الكامنة لاختياره وزوجه الصبية الجميلة تلك البقعة النائمة في أحضان الهور .. وبسبب من انشغال القوم في ذلك الزمن بخشونة العيش، لم يخوضوا كثيرا في جذور معتوق الأسرية، ولم يكلفهم معتوق الذي لم ينجب سوى " معلى " مؤونة الدخول في مهاترات أو فصول عشائرية فقد كان للمسالمة اقرب وللانعزال.

تحت شمس تموز تجمعت " العراضة " .. قام بضعة رجال بلف التابوت بقطعة من قماش اسود مرصعة بحروف بيض مطرزة بخط كوفي أنيق بآية كريمة من القرآن المجيد.. رفعوه ووضعوه في مكان عال .. وقد أثار بريسم المهوال الدهشة بأشعاره المشيدة بالراحل .. وطمأن ولديه كاظم وعبد الباري بان شانا سيكون له في عالم الآخرة وسيمتلئ عزا كما كان عزيزا بين قومه في الدنيا .. وحين غادرت العربة التي أقلت الجنازة كانت الهوسات والأهازيج على أشدها وسط صراخ النسوة ونحيبهن ..

قيل لي أن معتوق الاب - ربما كان قد هرب من قسوة رجل إقطاعي شديد العسف وسط العراق.. وانه قد غادر في ليلة دامسة مصطحبا ابنة ذلك السيد التي عشقته ردحا من الزمن نكاية به لعدم وفاءه بعهده بتزويجه لقاء خدمته لثمان سنين.....

طامعا بالفوز بفتاة هواه

خادم أبيها، حارث أرضه

خاصف نعله

حارسه

قن ارض برضاه

ناسيا أرومته

هكذا يفعل العشق

كان المعتوق الأول لثمان عجاف يؤسس لمعنى، ومفردة معنى - أبقاك الله - هي المضاد الموضوعي لمفردة عبث، والمعنى حين يؤسس للعشق يكون نفيا للعدم وتكون الخيانة نفيا لذلك النفي لكل ذلك اختار المعتوق الرد وحسم الصراع لصالحه.

أفكاري المخبولة تتخبط بمقولات فلسفية تتقافز داخل جمجمتي التي تكاد أن تسلقها شمس تموز وسط إعجابي وانبهاري بروعة الجنازة.

قسوة اللافهم وغياب المعنى تجعل القلب يجفل من هزيمته أمام جيوش الفناء الزاحفة نحو عمارة النظام والقيم المعرفية التي تتمتع بثبات يكاد أن يكون مطلقا يتلفها العدم ويبتلعها بثقوبه السود جاعلا من المطلق والنسبي مجرد ترهات في رأس الفتى الراوي - الذي كنته- والذي لم يجد من تعزية لنفسه سوى أن يتمنى لها جنازة ماجدة كجنازة معلى.

انتابني شك عظيم بإمكانية المقاربة لمراحل زمنية للقصة الأولى المتداولة كأسطورة وراودتني - وأنا المولع بالمقاربة - فكرة أن يكون هنالك أكثر من معتوق وأكثر من معلى في سلسلة تلك العائلة العتيدة فامتدادات الماضي لا تحد ولانتفاء التدوين يكون الاعتماد على الأخبار الشفاهية مراهنة غير مضمونة إلا إن الشيء الأكيد - ولا دخان بدون نار - إن معتوقا - ما - قد فر بفتاة هواه منطلقا نحو أهوار الجنوب تلك حقيقة مطلقة لا يتمارى بها متمار.

إلا إن للشكوك أبعادا أخرى سيما إذا دخل مؤرخون سيئون ينطلقون لا من باب تثبيت الحقائق بل من باب اللؤم - حيث وردت بعض الأخبار الشفاهية عن احتمال تورط معتوق الأول بجريمة قتل كانت سبب هروبه الحقيقي.

ولان شمس تموز تكاد تسلق الرؤوس فان أية محاولة اتكاء على حقيقة ثابتة لجذور تلك العائلة وامتداداتها تصبح عديمة الجدوى إلا إن الذي كان يهم جدتي في تلك القضية العويصة أن نسل معتوق ربما سينقطع إذ إنها واعتمادا على الحقائق التاريخية التي أوردتها (إن رجالهم قد تخصصوا بإنجاب الإناث أما إنجاب الذكور فلم يتجاوز الذكرين في أفضل الأحوال لأغراض حفظ النسل )واذكر إنها شهقت واستعاذت بالله حين ثبتت حقيقة مرعبة عن العائلة - إن سمة عجيبة كانت تدمغ العائلة حين تنجب ذكرين يكون احدهما عقيما.

إن نبؤة جدتي وتحليلاتها لم تجد لها سندا - بالنسبة لي على الأقل - وأكاد اجزم أن كل أسانيدها التي تزعم عن انقراض العائلة قد سقطت إذ بعد عشرين عاما زرت مسقط راسي فوجدت أن عائلة المعتوق قد تجاوزت الأربعين ذكرا وان شعورا بالفخر غلب على العائلة لقربها اسريا من مدير الناحية وقد غلبني الابتسام حين التقيت بأحد أحفاد معلى ليهمس لي بأنه عضو في حزب يساري وان قاعدتهم الشعبية عريضة بما يكفي للامساك بالسلطة الى الأبد.

إن الإفراط في الأمل الذي وجدته في الحفيد الرابع أو الخامس قد حرك أفكارا متشائمة في داخلي وقلت أن الإفراط في الأمل قد يطفئ كل حرائق معتوق الأول واشتعالات ابنة السيد الإقطاعي التي ارتضت الهروب مع ذلك الفتى الوسيم سليل السادة الذي ارتضى أن يكون قنا لثمان سنين للفوز برضى عينيها والنوم بين سنابل الوجد والارتواء من بضاضة جسد مرتجى - قيل لي- إن معتوق الأول كان يجبر زوجه على خلع ملابسها ويظل ساهما يتأمل لدونة جسدها تحت ضوء ذبالة بردي مشتعلة في قارورة مملوءة بالنفط -وقيل- أنها ظلت تتباهى بذلك بعد رحيله بأربعين عاما.

إن الذين يتحدثون عن الحاجة الى الحبكة والشخصية والزمن هم الذين عندهم نظرية...

عند (روب كرييه) الزمن ينقطع عن وقتيته ولم يعد يجري!.. كذلك (معلى) وهو في جنازته أوقف الزمن... الزمن كان يجري على أصحاب العراضة اللذين حزموا أمرهم على الاحتفاء بتأبيد فلاح لم يتسبب بأذى لأحد... إن مجد العراضة هدية للبساطة ولشرف أن يكون الإنسان فلاحا ولذلك تمنيت على استحياء أن تكون جنازتي باذخة - تحمل معنى -.

إن نبوءة الجدة كانت تحمل من الصحة بقدر ما تحمل من الوهم وهي وان تأسست على معلومة ثابتة في عقيدتها - إنجاب الذكور لحفظ النسل - وهو منحى يحمل من الرجعية ما يتناسب وتلك الحقبة وإشفاق الجدة على عائلة متخصصة بتزويد القبائل بالإناث يبدو مضحكا في أيامنا هذه إلا انه كان يحضى بقبول آنذاك، والزمن هنا يتمدد بلا ضابط فهو مكر مفر كذلك المكان وعلى أيامها كان السمك أكثر من البشر كذلك طيور الماء والنخيل والبقر والجاموس والنعاج ثمة بقعة في ذهن الجدة تسمى أم الحوالي لكثرة إناث البقر فيها وبقعة أخرى في ذهنها - أم الوعول - ....... الجدة تهمس وهي تتحدث عن العائلة الغريبة.. إناث... إناث... إناث...ثم تتراجع وجلة وتستغفر الله.

إن زيارتي لتلك البقعة النائية في نهايات تموز 1958 قد اثبت لي خطل تلك النظرية الزائفة فللعائلة أولاد وأحفاد وأعمام استطاعوا أن يعتبروا أنفسهم عشيرة ذات شان فمنهم المعلم والسائق والفلاح والعسكري ومدير الناحية ....... إن إلحاح الزمن على راو يرى نفسه معجبا (بالن روب اكرييه) يجعله مطرودا من مدرسته لوقوعه في شرك الزمن!! كان يحس وهو يدون ما يعرفه بما يشبه الركل من أتباع وهميين (لكرييه) ...

الراوي يضع سيكارته بين أصابع يده اليمنى جالسا في مقهى قديم في محلة الشواكة وقد تجاوز التسعين عاما دخان السكارة يتصاعد عبر انفه، إحساسه بوجود السكارة معدوم، طالب جامعي يدرس الفيزياء يحاول أن يستكنه سر هذا الطاعن في السن، فتح الراوي فاه فبانت أسنان سود - انه يدخن كثيرا - همس طالب الفيزياء لزميله طالب التاريخ إن وراء هذا الشيخ قصة...

•- ربما إن امرأة قد خانته يوما

•- لذلك فهو مدمن على الذهول

•- الحقائق تبقى ناقصة دون تدوين.

الراوي - الذي كنته - لا يسمعهما يغرق في الذهول....

ملاحظة مهمة ثبتها فتى عثر صدفة على بعض أوراق الراوي ( إن المؤلف الذي كان شابا ثبت مدونات مرتبكة لا تحمل حبكة أو ثيمة مفهومة، نصوص سردية مرتبكة ربما كان حائرا كيف يدخل المعلومة الأخيرة في نصه قبل ولوجه مرحلة الذهول........).

يقال - والله اعلم - انه ربما كان خائفا من السلطات الأمنية في زمانه.....

ملاحظة أخرى وردت هكذا ( إن ورثة معتوق الأول الذين تجاوزوا العشرين أسرة.... حروف مشوشة..... ثم .. كلمات مشطوبة.. سيقوا الى محكمة عرفية في هوجة ما - كذا- الذكور اعدموا كلهم، كذلك الإناث - كلمات مشطوبة وان الحاكم حفظه الله... حروف مشوشة ومشطوبة.... إلا أن الله سبحانه قد خلص ذكرا واحدا وبضع إناث لأمر لا يحزره سواه... جل ثناؤه ... ثم يورد ملاحظة أخرى إلا أن كل حروفها كانت مشطوبة......).

 

....................

* القصة الفائزة بالجائزة الاولى لمسابقة جعفر الخليلي للابداع القصصي.

 

للاطلاع

ذبالة بردي مشتعلة في قارورة / سلام كاظم فرج


تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2212   الاثنين  27/ 08 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم