صحيفة المثقف

النقد الأدبي: التأصيل والتحديث في قصيدتي يحيى السماوي / سلام كاظم فرج

يستمد قدرته على التمثيل المتفاعل مع أصول الشعر العربي والفكر العربي المتجذرة في ذائقته والمستندة على قواعد صلبة مستمدة قوتها من بلاغة القرآن الكريم والشعر الجاهلي والشعر العربي في مراحله اللاحقة، لكن قصيدة السماوي تمازج بين متطلبات النظرية النقدية الكلاسيكية عند العرب وبين متطلبات العصر وتقنيات الحداثة وترميزاتها، فنجد التمازج الملهم بين جزالة وفخامة النص الشعري في اساساته الجاهلية والعباسية وبين الحداثة في اصطناع الرمز والتشفير فكرا ولغة واسلوبا، بما يحقق هضما متفاعلا لرؤى متقدمة ومعاصرة بثوب جزل فخم سماوي المبنى والمعنى،، بشعرية باذخة لاتركن الى الجزالة فتكتفي بها، بل ترنو الى الشعرية بمنظورها الحديث..

ولايتيسر ذلك الا لمن امتلك اطلاعا على اصول النقد العربي طريفه وتليده ومزجه بتراث النقد الغربي الحداثوي على وجه الخصوص..

واذا عرفنا ان النظرية النقدية الكلاسيكية عند العرب تعتمد التشدد وتسرف اسرافا في تقييد الشعر بثوابت تحد من انطلاق الشاعر في التعبير واذا عرفنا انها تعلي من مقام اللفظ على حساب المعنى .. وتقدم الشكل على ما عداه من متطلبات،، عرفنا اية مجازفة يخوضها الشاعر ليوفق بين التقليدي والحداثي ليكون جديرا بتمثيل عصره وعصر من سبقه على امتداد عشرات الاجيال في آن..

في نصه الاول (المتماهيان) يلعب العنوان دور المفسر لدالات النص من خلال فك ايحاءات الترميز والترميز المضاد،، مما يتيح للمتلقي استكناه الدالة في النص وتأويلها بما ينسجم وما تركته من آثار في وجدانه.. في النص الاول يقول :

كـذّبْـتُ نـفـسـي

كـيْ

أصَـدِّقَ مـاتـقـولُ ..

وكـنـتُ أعـرفُ أنـهـا كـذِبَـتْ عـلـيَّ

فـلـسـتُ أنـضـرَ مـن سِـوايَ ..

ولـيـس فـي حـقـلـي قـطـوفٌ لـيـس تـعـرفـهـا

الـحـقـولْ

شـجَـري إلـى حَـطَـب ٍ ..

وأكـوابـي مُـهَــشّــمـةٌ ..

وشـمـسـي والـنـجـومُ إلـى أفـولْ

ينطلق الشاعر هنا بما يشبه المونولوج الداخلي في بيان اشكاليات علاقته بالمعشوقة. ولانها متماهية معه كما هو متماه معها.. يكتسب هذا الحوار الداخلي سمة الحوار الخارجي ايضا (حوار مع المحبوبة) وسمة الخطاب الموجه الى الشهود الاخرين (القراء).. ونحار في فهم الشاعر هل هو يدافع عن نفسه ام يدفع الاذى عن المحبوبة؟ وهل يخاطب روحه السامية المتعالية على روح الطين (الوحل)؟ ام يدعو محبوبته ان تكون كذلك؟

لـكـنّـهـا خَـبَـرَتْ غِـراسـي:

حـيـن تـعـطـشُ

لا تـمـدُّ ظـمـيءَ جـذر ٍ

لِـلـوُحُـولْ

هذا الوعي عند الشاعر بأن النص الحداثوي عالم تبنيه الرموز ينم عن دراية فائقة بين متطلبات البلاغة العربية ومتطلبات التشفير الحداثوي..

وأزفُّ لـلـكـأس ِ الـحَـرام ِ

بِـشـارةَ الـخـمـر ِ الـحَـلالِ بِـزِقِّ

مـائـدةِ الـذّهـولْ

فـهـي الـبـشـيـرةُ فـي الـهـوى ..

وأنـا الـمُـبَـشِّـرُ ... والـمُـبَـشَـــرُ .. والـرّسـالـة ُ ..

والـرّسـولْ !

مهما افترضنا في هذه الابيات من تناقض، سنعثر حتما على الوحدة الموضوعية التي تنتظمها هذه التناقضات..

الكأس الحرام،،، يقابله الكأس الحلال

هي البشيرة.. انا المبشر،، بفتح الشين . وبكسر الشين.وانا الذي ازف للكأس الحرام.. بشارة الكأس الحلال!!!.. بزق مائدة الذهول!!

وفوق كل هذا. وبعد كل ذلك.. فانا الرسالة والرسول ..(معا..)

لكن ينبغي الالتفات الى انها (المعشوقة) هي البشيرة في الهوى..

لقد وازى الشاعر بين نفسه الشاعرة وبين بهاء الحبيبة ونورها فهي المبشرة وهو الرسول (مفتاح ذلك تجده في العنوان (متماهيان) ...).. هي مبشرة بكسرالشين و(بشيرة) ولا عودة عن ذلك.. لكنه هنا مبشر ومبشر في آن.. وهو هنا الرسول والرسالة.. هذا الفيض في استنباط الترميزات لايقدر عليه الا الفحول من الشعراء وان تكون حداثويا وانت تتقمص الكلاسيكي رداء امر على غاية من الصعوبة.. لكنه السماوي يحيى!!

هذا البناء المحكم واللعب على المتناقضات في خلق وحدة موضوعية بين نقيضين يدلنا على ان المعاني الهامة هي المعاني المختبئة كما يقول احسان عباس، ومن الاسراف والسذاجة المغامرة بفك كل ترميزاتها.. بل الاكتفاء بالتلذذ باستكناه صورها وشم عطرها وامتصاص رحيقها اولى واجمل .. من هنا استطيع ان افهم مصدر قلقي في تناول قصائد السماوي نقديا وترددي في تضمين ملف النقد الادبي واحدة من قصائده..

اما القصيدة الثانية او الفسيلة الثانية والموسومة بـ (مزبلة) فهجاء مر لبؤس الحراك السياسي العربي المحبط بعد ثورات الربيع العربي والتي انطلقت شرارتها الاولى في انتفاضة آذار / شعبان/ من عام 1991، وعلاقة الشاعر بالانتفاضة معروفة فقد كان من بين مشعلي اوارها والخائضين في غمراتها.. من هنا نستطيع ان نفهم خيبة امله بما جرى ويجري من تعثر وعثرات. والتنافر والتناقض وعدم الاتساق بين حلم من حمل البندقية وروحه على راحته ليدك اركان نظام قهري دكتاتوري فظ وبين ما آلت اليه الامور يجعلنا نفهم اية ثمار مرة حملتها الفسيلة الثانية رغم كل ما احتوته من جزالة وعمق واللذين لا يقلان قيمة عن ثمار الفسيلة الاولى

واترك تقدير ذلك للنقاد وللقراء الاعزاء..

 

سلام كاظم فرج

 

للاطلاع

فـسـيـلـتـان / يحيى السماوي

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2218 الاحد 02/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم