صحيفة المثقف

أسباب تفشي الفساد الإداري والمالي والسلوكي في المجتمع العراقي / علي محمد اليوسف

مايهمنا طرحه ضمن هذه الورقة هو ما يخص العراق تحديدا في أسباب التردي السلوكي في المجتمع العراقي. واختلافا مع ثنائية الأخلاق والدين المحكومة بالتداخل العضوي الواحد في الاسلام. استثناءا من العديد من الثنائيات الدينية والفلسفية والمعرفية التي نشير لبعضها. الثنائيات القائمة على التناقض والتضاد الجدليين. فثنائية الخير والشر كانت التجسيد الاولي لهذا الصراع والاختلاف بينهما في أول ميثيولوجيا تاريخية دينية ممثلة في قتل قابيل لاخيه هابيل. وفي فلسفة ارسطو وعند اخرين من مجايليه الاغريق والرومان وردت ثنائية الخير والشر ممثلة في التضاد الطبقي النازل في اسقاطها على تقسيم المجتمع الاغريقي انذاك إلى طبقتين اثنتين الاولى طبقة النبلاء الصفوة المختارة المفكرة الحاكمة المستعبدة والثانية طبقة العبيد الغالبية العظمى المحكومة العاملة المنتجة والمشاركة في الحروب ايضا. عبيد محكومون وحاكم مستبد واحد (الاسكندر) ثم (قيصر) رغم وجود برلمان ديمقراطي حصرا على طبقة النبلاء فقط في التمثيل به (مجلس الشيوخ).

وقد ذهب أرسطو ومن جاء بعده أبعد من جغرافيا بلاد اليونان والرومان حين اعتبر الأقوام الشرقية قاطبة بدون استثناء وفي مقدمتهم الفرس انذاك الذين تطاحنوا مع الاغريق والإمبراطورية الرومانية بحروب طويلة امتدت عقودا بل احقابا تاريخية اطلقوا عليهم  (برابرة عبيد). بالطبيعة أي بالطبع والخلقة الاجناسية وليس بالتطبع مع الحياة. وكانت كلمة عبد تطلق مرادفة لمعنى بربري ولا تفريق بين الاثنين.([1])

أشار أرسطو في كتابه (السياسة) وجوب بقاء العبد عبدا بالوظيفة البايولوجية الفيزيائية المفطور عليها، وفي التفاضل الاجتماعي التراتيبي (الأدنى) بالقياس مع غيره من النبلاء الطبقة الأعلى. وشدد أرسطو ان يبقى النبيل نبيلاً ايضا بالوظيفة البايولوجية الفيزيائية وفي التفاضل الاجتماعي التراتيبي (الأعلى) بالقياس إلى الأدنى منه (العبيد) ولا يجوز المساس او تغيير هذا الناموس الطبيعي لانه يمثل الخير والشر للبشر فهو خير بمقتضى طبيعته الفطرية وحفاظه على الاخلاق الحميدة النبيلة العظيمة في المجتمع، وهو شر أذا ما تساوى العبد مع النبيل في الحقوق او في التغيير التراتيبي بينهما بالدرجة الانسانية، كما اعتمت الديانة البوذية ثنائية الخير والشر أيضا كمرتكز قامت عليه تعاليم بوذا وطقوسها الكهنوتية الوثنية، ونجد الأديان السماوية الثلاث (الاسلام ، المسيحية واليهودية) تعتمد ثنائية الروح والجسد واعتمدت الزرادشتية والمانوية وهي فرقة المغتسلة المندائية (215م) والهرمسية وهي تيار ديني غيبي نشأ أبان الإمبراطورية الرومانية اعتمدت ثنائية التضاد بين النور والظلام، كما نجد ثنائية الأنوثة والذكورة مرتكزا كهنوتيا مقدسا في الديانتين السومرية والفرعونية.

أذن بخلاف معظم الثنائيات المتضادة التي مررنا بها نجد ان ثنائية الدين والأخلاق في الاسلام وغيره من الاديان لم تصبح علاقة تضاد واختلاف الا بعد بروز ايديولوجيات سياسية إسلامية كما هو الشأن في الديانتين المسيحية واليهودية ايضا، في بروز تيارات سياسية دينية داخلها قبل مجيء الاسلام. كما نجد اليوم انبثاق تيار سياسي معاصر من الديانة البوذية وهم سكان (التبت)في معارضتهم للنظام الشيوعي الصيني حاليا بأسم الدين السياسي. سياسية قائمة على توظيف الدين من أجل اهداف طائفية وعرقية. الان نجد في علاقة الدين الاسلامي بالاخلاق تضادا بعد تداخله العضوي المتماسك الذي دام قرونا بقيت فيه الاخلاق جزءا جوهريا من الدين (أنما جئت لاتمم مكارم الاخلاق) ولم تصبح علاقة الاخلاق بالدين علاقة تضاد واختلاف الا بعد توظيف الدين للاخلاق في خدمة أغراضه السياسية. فاصبح المسلم اليوم متأرجحا بين قيم واخلاق الدين الفطرية التي يمليها ويحددها القرآن الكريم واحكام الشريعة والسنة وبين اخلاق الدين السياسي كما تريدها وترغبها وتفسرها مصالح الاحزاب السياسية الاسلامية على مر العصور وفي عصرنا الحاضر حصريا.

حين دعا المفكر المصري علي عبد الرازق توفي عام (1966) وجوب قيام دولة نظام سياسي بمعزل عن سلطة الدين ووصايته على الحكام معتبرا الجمع بين السياسة والدين يقود إلى التطرف والتسلط والدكتاتورية. وكان رد فعل الاحزاب والتنظيمات الاسلامية المصرية في وقتها عليه عنيفاً جداً. وطيلة اكثر من خمسة عقود على حد قول المفكر المصري سعدالدين ابراهيم لم تستطع الحركات الدينية الاسلامية المتطرفة منها والمعتدلة في مصر او غيرها ان تقدم مشروعا لمحاربة التحديات الاربع: الاستغلال، التخلف، الاستبداد، التبعية. ومن المحتمل والمرجح ان علي عبد الرازق في دعوته تلك كانت متأثرا بما يجري في تركيا على يد كمال اتاترك في إقامته دولة علمانية ديمقراطية منهياً بذلك اخر دولة خلافة إسلامية عام (1924م). وبقيت تركيا الكمالية ولحد الان محتفظة بالكثير من الخصائص والعادات والتقاليد الشرقية التي تشبه إلى حد بعيد جعل اخلاق الفرد المسلم بالدين في المجتمع التركي العلماني الحديث على نمط قريب مما اعتمدته المسيحية البروتستانتية في علاقة المسيحي بالرب والدين. ولا حاجة لوسيط بين الإنسان والله بعد اختتام عصور ظهور الأنبياء بمجيء النبي محمد(r). ولم يكن الدين الاسلامي في تركيا معاديا للاخلاق كما لم تكن العلمانية الديمقراطية فيها بابا مفتوحا لافساد السلوك الاخلاقي والديني والاجتماعي والثقافي. وصولا إلى الإلحاد  والإباحية الجنسية وتعاطي المخدرات، وتفشي الجريمة والانحراف السلوكي العام.

لم يتعارض ولن يتعارض الدين مع الاخلاق لكن سيبقى الدين يتقاطع مع الاخلاق خاصة الوطنية منها التي تريدها الحركات الدينية السياسية وفق رؤيتها الايديولوجية وتفسيرها وفهمها الخاصين بها للأخلاق، وتعمد من خلال أدبياتها ومنشوراتها الثقافية إلى زرع التطرف والعداوة وعدم قبول الآخر والتعايش معه بسلام وتروج لتعميمات فجة في تصنيع الخصم ووسمه بالكفر وغالبا ما تخلط هذه الحركات الأصولية المتطرفة ما بين الأخلاق كقيم في أدبياتها الثقافية الدينية، تتوازعها مرافق العمل المختلفة ومؤسسات الدولة من جهة وبين الازدواجية المطلوبة في اختيار نمط خاص من الاخلاق في التعامل مع المرأة وبعض الحريات الاساسية والاختيارات التي يتطلبها العصر بما ترغبه وترضاه هذه الحركات الاسلامية إيديولوجيا من جهة اخرى. وهذه الحركات الاصولية تفتقر وبدون استثناء إلى نظرية واضحة عما ينبغي ان تعنيه حقوق الانسان في سياق ديني، او كيف يستنبط محتواها من مصادر دينية بطريقة منسقة ومبدئية وبدلا من ذلك فأن ادبيات هذه الحركات تجمع فرقا من الافكار والصياغات من ثقافتين بالغتي الاختلاف (ثقافة الشرق) و (ثقافة الغرب) لان هذه الحركات تؤمن بثقة مطلقة لا تراجع عنها انه مهما تبدلت العصور فان عبارة كيبلينغ (الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا) هي مفارقة تضاد وصراع أزلي رغم تحول العالم اليوم إلى مدينة صغيرة بحكم العلاقات والاتصالات والمصالح. وقد صاغ هذا الاختلاف الازلي بين الشرق والغرب جمال الدين الأفغاني بعابرة التقاطع قائلا: (الغرب قوي لانه تخلى عن المسيحية والشرق ضعيف لانه تخلى عن الاسلام).

الدين قبل تسيسه يمتلك جوهرا انسانيا روحانيا اخلاقياً غير محدد بمثالية من نوعا ما فقط قوامها السلوك الاجتماعي السوي السليم والممارسة الوطنية الاصيلة بما يجعل من المجتمع بمختلف تكويناتها الدينية والطائفية والعرقية والاثنية وحدة متماسكة ومجتمع حضاري يتوزع أفراده الحقوق والواجبات عن رضا وقناعة واخلاص في الواجب، وهذه المفردات في جوانب عديدة منها يرعاها الدين وتؤمنها للناس سلطة القانون الوضعي والقضائي المحكم والتشريع. الناس بأسم الولاء الديني المطلق كل ذلك جعل من الدين الاسلامي وغيره من الاديان ان يتمكن من نقل الانسان عبر التاريخ من مخلوق وكائن عارض يعيش في عالم وكون يتبدى له قبل مرحلة الاديان لا مغزى ولا غاية له. إلى انسان مؤمن صاحب ارادة في الحياة، يعرف قيمتها الانسانية وعلاقته بالطبيعة وما ورائها، انسان مسكون بالتساؤل الدائم الذي يقوده إلى معرفة الذات والطبيعة بفهم ايماني غريزي فطري وعقلي ايضا وفي مراحل متقدمة من حياة الانسان الدينية بدأ يتطلع نحو الحرية وينشد السلام والتأخي وتعميم المحبة وقيم الخير بين الناس وفي المجتمع.

والاخلاق سواء بتأثير مباشر من الدين او غير مباشر بقيت وستبقى مفاهيم ومعارف وسلوكيات تنظيم الحياة نسبية القياس مختلفة باختلاف الافراد والجماعات، مختلفة باختلاف وتعدد الديانات والاهم من كل ذلك ستبقى في حالة تغيير مطرد نحو الامام مهما كانت كوابح الاعاقة بفعل تأثير عامل الزمن والتغيير والتطور الحتمي بأختلاف العصور.

ولو أكتفينا بهذا الاستطراد البسيط عن اختراق التسيس للدين والاخلاق ونخرهما من الداخل معا بكل قيمهما ومرتكزاتهما الصلبة وعدنا إلى التردي الاخلاقي الماثل يومياً وفي كل تفاصيل حياتنا العراقية ونعيش مفرداته السلوكية المنحرفة والفساد الاداري والمالي المستشري في جميع الوزارات ودوائر الدولة. وفي غياب الشعور الوطني نتيجة الرعب والخوف الذين زرعتهما اعمال العنف واخطبوط الجريمة والتدمير وخراب البلد وسرقات كنوزه وموارده وامواله على امتداد اكثر من (10 سنوات) على سقوط النظام السابق حتى تم ايصال المجتمع العراقي إلى الاستهانة بقيمة الانسان وحقه المكفول دينيا وقانونيا في الحياة الامنة الكريمة وحرمانه منها إلى أدنى مراتب الهمجية والوحشية وسفك الدماء. لم تكن ولادة الارهاب القيصرية على ارض العراق ناتج موروث الانحطاطية الاخلاقية في شعور المواطنة الحقة لدى الفرد والمجتمع الوافدة من تراكم حقب الانحراف طيلة عقود طويلة. بل هي ولادة قيصرية ايضا من رحم الدين السياسي المتنفذ بالحكم اليوم وغير المتنفذ على أيدي معظم الاحزاب والكتل السياسية التي تحكم البلد على اسس المحاصصة الدينية والعرقية ونهب خيرات البلد. وولادة العنف والوحشية في العراق لم تقم بعوامل ذاتية صرفة تخص الشعب العراقي بل بمساندة حاقدة مشبوهة النوايا والغايات من دول جوار العراق والدول الاقليمية الابعد منها. ناهيك عن التدخلات الاجنبية المختلفة المشارب والاهداف فهو (أي الارهاب) لم يكن وليدا شرعيا خرج من بطن الدين الفطري الاسلامي غير المسيس المعتدل الذي تحكمه تعاليم القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة واحكام السنة والشريعة، قبل بروز التيارات والحركات الدينية الاسلامية المتطرفة التي تصطف احيانا إلى جانبه.وانحراف الساسة العراقيين الذين يستظلون بفيء انتمائهم الديني واسناد بعض مرجعياتهم الطائفية ومحاصصاتهم الانتفاعية غير المشروعة مع غيرهم من الكتل والاحزاب السياسية غير الدينية.

ولم تكن قيم الدين ولا ضمير المواطنة الحقة رادعا لهم في ان لا تكون السياسة لديهم مركب ارتزاق وصولي. وسلم تسلق انتفاعي جريا وراء المصالح وجني الثراء غير المشروع اذ وصل الحد ببعض من اعضاء في مجلس النواب ممن اتهموا بسرقة المال ومنهم من وصل إلى حضيض ارتكاب الجرائم والقتل وتصفية الحسابات الدموية ولم تكن تردعهم قبل انكشاف امرهم للناس وملاحقة القضاء لهم لا مخافة الله ولا تعاليم الدين الحنيف ولا رقابة الضمير الوطني الاخلاقي، وبقي الدين لدى هؤلاء بجميع اشتمالاته القيمية والانسانية في مرتبة ثانية بعد اولية الوصول لنيل الاهداف والطموحات السياسية وكسب المنافع بحد القتل والتصفية الدموية اذا ما تطلبت الامور ذلك.

وتدهور أخلاق وسلوكيات المجتمع العراقي واستشراء الفساد الإداري وسرقة المال العام وتهريب الموارد النفطية وغيرها في ظل نظام يقوده الدين باسم الديمقراطية والقانون كانت من أهم أسبابه انه امتداد موروث عن فساد حكام الأنظمة السابقة كما اشرنا إلى ذلك. ووجدت بشاعة تفشي الفساد المالي والإداري والتردي الوطني والسلوكي العام الاجتماعي الحضانة والاستقبال من قبل النظام القائم الحالي لفترة تزيد على عقد من الزمن لم يستطع فيها ايقاف حالة التدهور بل العكس ازدادت حدته وزاد استشرائه. ونفس الحال تستمر اليوم فالأحزاب والكتل السياسية التي ترفع بيد راية الدين بجميع اشتمالاته القيمية والاخلاقية والإدارية والوطنية وترفع باليد الاخرى راية الديمقراطية بجميع تكويناته القانونية في محاربة الفساد وطرد ومحاسبة المفسدين فهي الاخرى لم تتمكن من ايقاف تدهور الاخلاق والسلوكيات الاجتماعية المنحرفة. ولم تكن قيم المواطنة الشعبية بافضل من حالها عما ورثته عن النظم السابقة. لان المشكلة مركبة أذ اين تقع مهمة اصلاح اخلاقيات المجتمع ونحن نرى من اجلسهم الشعب على كراسي الحكم في الوزارات ومجلس النواب وفي مجالس المحافظات ودوائر الدولة الموجودين حاليا منهم والسابقين عليهم من المتقاعدين القابعين في العيش خارج العراق. موزعين على عواصم الدول العربية والعالمية يحملون جوازات سفرهم الدبلوماسية وتصلهم رواتبهم اثناء الخدمة وفي المرحلة التقاعدية بالدولار الأمريكي، وتلبية رغباتهم وتحقيق امتيازاتهم تأتي بالاهمية قبل ان يفكروا بصرف راتب لمتقاعد او لأرملة صاحبة أيتام راتب الرعاية الاجتماعية. وأصبحوا ينافسون نجوم السينما أمام كاميرات التصوير وعلى شاشات الفضائيات داخل وخارج العراق يطلقون التصريحات النارية على قاعدة (خالف تعرف). يحللون ويرسمون للعراقيين حاضرهم ومستقبلهم من فيلات النضال السياحي السياسي في العواصم العربية والأجنبية. ولايجدون في مزايداتهم الفارغة خجلا ولا في تقصيرهم عيبا ولا في تصريحاتهم الكاذبة لعبة استغفال خبيث لشعبً مغلوبً على أمره.



([1]) دكتور رفيق عبد السلام ، سلسلة مجلة الاسلام والديمقراطية، ع 10، 2005، موضوع الاستبداد الحداثي الغربي، ص 86. 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2218 الاحد 02/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم