صحيفة المثقف

إمبراطوريات الغزاة وإمبراطوريات الحضارات (2-3): جبل يتحرك وكون يستجيب / علي السعدي

أو الروحي المتخيل، فصاغوا تصوراتهم عن آلهة عظمية تتحكم بالمصائر والظواهر، فكان آنوكبير الآلهة و" رئيسها" ومصدر حكمتها، وأنليل " الجبل العظيم (2)" أله المطر والرياح،ومعهم ربة الرقة والجمال " إينانا "  و" تموز " إله الخصب والإخضرار، ثم أكملوا تصوراتهم عن سفر الخلق والتكوين وأشكال الثواب والعقاب، ذاك في السماء، أما على الأرض،فكان الملوك الخارقون والمشرّعون الذين وصلوا إلى مرتبة أنصاف الآلهة" جلجامش " أو تلقوا تعليماتهم من الآلهة "حمورابي "  لكنهم وقفوا عند هذه الحدود و لم يُرفعوا إلى مراتب الآلهة كما فعلت حضارات أخرى كالمصرية واليابانية والصينية وسواها .

 وهكذا ابتكر" المضيئون " – نسبة إلى العراق – التاريخ لتسجيل وقائعهم، والأسطورة لإشباع عالمهم الروحي والعلوم لتدبير حياتهم وتسهيل عيشهم، وفيما احتفظ التاريخ بإسمه بعد أن أصبح علماً تفرعت منه علوم شتى، دخلت الأسطورة مجال علم خاصّ (الميثولوجيا) بعد أن اكتشف علماء وفلاسفة العصور اللاحقة، أهمية الأسطورة كمحرك فعال للحضارة ومنجزاتها، وذلك بما عكسته الأسطورة من تأثير على المخترعات والمكتشفات العلمية .  

مع تكاثر السكّان في تلك الأرض،تعددت كذلك " الطواطم " الخاصة بكل جماعة وبالتالي لم يعد يتسع المجال للنظام البدائي السابق أن يضبط إيقاعات وحركة الجماعات التي تحولت إلى مجتمع قطع شوطاً في بناء المشتركات واستخراج المفاهيم من واقعه الحياتي، ما يتطلب الإنتقال إلى طور أرقى يتجاوز المفهوم الطوطمي، إلى قانون جامع تسري مفاعيله على الجميع، وترعى تطبيقة قوّة قادرة على فرض سيادتها على الجميع .

ولكي ينظم أستخدام القوّة  بعد ضبط وحشيتها البدائية، قُدمت مترافقة مع مفاهيم ومصطلحات سترافق البشرية في كلّ أطوارها اللاحقة، بعضها بصفتها الفردية حيث البطولة مرافقة للشجاعة، والعفو صنو المقدرة، والبسالة في الإقدام والإقتحام، والحكمة بين الناس  والذكاء في الحرب والإكتشاف في العلم، وبعضها  في إطار الجماعة،  فكان الشعب بمعنى التشعب والتعدد، والثورة طلباً للحرية، والقانون مرفقاً بالعدل، والحرب ردّاً لمعتد أو غزو لأرضه، والمدارس للعلم، والكتاب لتدوين المنجزات والأحداث التي ستصبح تاريخاً، وكما أبدعت  أناشيد الحب وأغاني الحياة وأهازيج الإنتصار، ألفّت الى جانبها الإبتهالات والأدعية للتقرب من الآلهة وطلب غفرانها أو عونها .

لاشك ان منجزات متطورة على هذه الشاكلة، تحتاج إلى مجتمع حيوي متعاون وحكّام يتمتعون بالصفات التي تؤهلهم لأداء مهمة بهذا الحجم، لذا تجاوز العراقيون " الرئيس " الطوطمي والعرف المتوارث بحكم القربى أو الصلات الإجتماعية، إلى مفهوم " الأمير " التي ستتدرج  إلى " الآمر" ثم إلى " الملك " بعد ان أصبح مالكاً بحكم القوة إلى كلّ مايقع تحت سيطرته من بشر وأرض وخيرات .

 إحاطة الملوك بهالة أسطورية لتمجيد أعمالهم وتضخيم صفاتهم ، ربما كانت جزءاً من ضرورة لرفع مفاعيل القوة  وإيصالها إلى الذروة،ذلك لإن خصوبة الأرض، أنتجت بدورها مخيّلة خصبة عند إنسانها، تجلت بأشكال وتنويعات شملت مفاصل الحياة بكليتها .

كان " جلجامش "  أول ملك في التاريخ يُمجّد بملحمة أسطورية أضفت عليه هالة من العظمة وبطولات خارقة  كما جعلته نصف مقدس بولادته من أمّ آلهية وأب بشري،وبالتالي كان بمثابة " أبن بنت الله " وقد  اتفق المؤرخون إنه كان ملكاً على مدينة أوروك التي ستمنح العراق أسمها،لكن " جلجامش " رغم شهرته الأسطورية بإعتباره الجبار الأول، إلا أن البطل التاريخي الأبرز، كان " سرجون " الأكدي الذي تجاوزت أعماله الفعلية ماروته الأساطير .   

نظم الرافدينيون أنفسهم بأفضل مايكون، فلتدوين السجلات والوقائع، أخترعوا الكتابة،وللممارستهم السياسة، وضعوا اللبنات الأولى لمفاهيم الحوار والجدل،  وهما ماسيبني عليه فلاسفة  الأمم اللاحقة،بعض نظرياتهم ومقولاتهم الكبرى، فالجدل مفهوم ينتمي إلى الإجابة – كما يذهب علي حرب – إذ ينطلق ذلك المفهوم من فرضية امتلاك الحقيقة بإعتبارها منجز حصري، ومن ثم إيصالها إلى الآخر لإقناعه بصوابيتها والإصطفاف الى جانبها، ويتم ذلك بواسطة اللغة واللفظ والكلام – يتفرع من كلّ منها علم قائم بذاته، الصرف والنحو لقواعد اللغة، والجملة والمعاني والدلالات للفظ، والأسلوب والنسق والمنهج للكلام (النصّ بمحمولاته ومقاصده)- وقد  جاءت الآية الكريمة (وجادلهم بالتي هي أحسن)  لإيضاح أن الرسالة الإسلامية،هي الحقيقة المطلقة التي يقع على عاتق المسلمين نشرها بين الناس بعد أن بُلّغت إليهم من قبل رسول خصّه الله رحمة للعالمين كي لايبقوا مختلفين على الحقيقة – كما أن كلمة (نقاش) المرادفة للجدل، قد تكون مشتقّة من الفعل (نقش) بمعنى وضع علامته على الشىء فثبتت كأبرز جزء في ذلك الشىء يُميز بها، مايفسر محاولة كل من المتناقشين وضع (نقشته) أي رأيه على الآخر ليحوّله جزءاً مما يحمل من آراء بأعتبارها صواباً مطلقاً. 

الجدل كمفهوم معرفي وطور في التحضرّ، ستلحق به الفلسفة وتقدمه كأحد أهمّ منجزاتها " الديالكتيك " الذي عنى بتفحّص المقولات والمفاهيم  واكتشاف أبعادها ومضامينها، أما الحوار، فينتمي إلى عالم السؤال، وبالتالي ينطلق من فرضية امتلاكه لوجه من وجوه الحقيقة وهو يبحث عن الوصول إلى بقية الوجوه عن طريق المعرفة بما يحمله الآخر منها – إنساناً أو طبيعة أو مفهوماً – ولما كانت الحقيقة متبدلة وحيوية بشكل دائم – وذلك من أهم ميزاتها – لذا  يستمر الإنسان  بطرح الأسئلة للبحث من ثم  عن إجابات في الوقت عينه، مايؤدي إلى تلك  التطورات  المثيرة التي شهدتها الحياة البشرية فيما أطلق عليها مصطلح " حضارات " .       

   كان شروكي أو شروكين (3)  أو سرجون، هو الملك الأشهر والقائد الإستثنائي الذي وضع مجموعة من " أولات " لم يسبقه إليها أحد ولم يضاهيها أحد كذلك، فقد كان أول من إعتمد نظام الإحتراف العسكري  أي على جنود متطوعين مقابل أجور ومكافآت مجزية وبالتالي ألغى ماكان سائداً من السَوق إلى الخدمة بالإجبار،ومع تنظيم جيشه إلى وحدات قتالية وتزويده بأحدث ما وصلت إليه التقنيات الحربية  من سيوف ورماح ودروع مصنوعة من الحديد الصلب  – كان العراقيون أول من استخدم الحديد بديلاً للنحاس  – إضافة الى العربات التي دخلت كسلاح حربي بعد اختراعهم العجلة، أنشأ  سرجون جيشاً جباراً خاض به 36 معركة كبرى إنتصر فيها جميعاً،  مؤسساً بذلك أول إمبراطورية بالتاريخ امتدت من بحر العرب والمحيط الهندي جنوباً، إلى ضفاف المتوسط شرقاً وبحر قزوين شمالاً، كما أنه أول من إستخدم الهجوم المباغت أو الضربة الإستباقية، حينما شنّ معركة خاطفة ضد خصوم كانوا يتجمعون في الشمال لمهاجمته مستغلين بلوغه سنّ الشيخوخه (4)  وذلك قبل ان يكملوا استعداداتهم لحربه، وقد يكون القائد الوحيد في التاريخ الذي لم يتعرض إلى هزيمة طوال حكمه الممتد  ل55 عاماً، مايعني انه كان في ريعان شبابه حينما بدأت سلطته (5).

أما أهمّ انجازاته السياسية، فكانت فصل "الدين" عن الدولة وفصل السلطة التنفيذية عن القضائية، فلم يسمح للكهنة التدخل بأمور السياسة،  ومنع الولاة من التأثير في شؤون القضاء،ولما لم يكن طائفياً أو فئوياً، لذا  تصرف بمنطق " وطني  "فلم يفرق بين طواطم شعبه ولا فضّل معتقد على آخر،فكان بذلك أول من وضع الأسس لدولة القانون ومعالم العلمانية، التي ستبنى عليها الثورات الأوروبية بعدها بما يقرب من خمسة آلاف عام . 

المثير في تاريخ ذلك القائد، إنه خرج من عامّة الشعب،فقد كان ابناً أو ربيباً لبستاني في قصر ملك المدينة بعد ان إلتقطه -  البستاني - من نهر الفرات رضيعاً، ثم أصبح ساقياً للملك قبل ان يجمع جيشاً من الشباب الناقمين  على مايجري من فتن وحروب بين ملوك المدن السومرية،وقد أظهر سرجون براعة إستراتيجية وبعد نظر سياسي / عسكري، فقد ترك أقوى ملوك سومر حينها – لوكال زاغيري – يكمل مهمته في إخضاع وتوحيد المدن السومرية والقضاء على ملوكها، وبالتالي أنهك قواه في تلك الحروب، ما أفسح في المجال لسرجون أن يكمل إعداد مقاتليه ومن ثم يقود حملته العسكرية بإعتباره المنقذ " المنتظر " لما حلّ بأرض الرافدين وسكّانها، لذا كانت مقومات نصره واضحة النتائج،لكن مدعاة الدهشة عند المؤرخين، أنه لم يتبع ماكان سائداً من قتل الخصم المهزوم، إذ إكتفى بسجن " زاغيري " في معبد  الإله " إنليل " من دون الإقدام على قتله – ربما تقديراً لشجاعته واعترافاً بفضله في توحيد البلاد تحت اسم (أقلما) أي الإقليم -  فكان سرجون  بذلك أول من جسدّ مفهوم " العفو " وقيمة التسامح،الأمر الذي  ماتزال البشرية تبحث عنه وتحضّ عليه الأديان والأعراف والقيم من دون نجاحات تذكر رغم التقدّم الهائل في مسار الحضارة .

 

........................

 (2) - لاحظ ما في هذه التسمية من إبداع رمزي لخيال خصب، (الإله) هائل الضخامة بحجم جبل عظيم، والجبل هو مأوى الغيم والثلوج والرياح الباردة وما تسببه من أمطار وبروق، لذا كان إنليل إله المطر والبرق والرياح العاصفة  - وهو من أرسل الطوفان الذي أغرق الأرض -   كان الكون  يتحرّك مع حركته،  ولنتصور جبلاً عظيماً يتحرّك  فعلاً  .

  1. (3)- ربما كانت تسمية (شروكي) التي تطلق على سكّان المناطق الجنوبية الشرقية من العراق، علاقة ما بإسم ذلك القائد لما في اللفظين من تشابه وما للمنطقة من تقارب جغرافي واجتماعي .

(4)-راجع : احمد حسين الأعظمي (مدينة أكد أم دور شروكين)- :

((قبائل البربرالشماليين قد هاجمت البلاد لكنها إستسلمت أمامي، أما مدنهم آشور ونينوى فقد بطشت بهما بطشاً شديداً))

 (5)- يذكر بعض المؤرخين أن سرجون خلّف ولدين هما  ريموش ومانوس، وفيما ورث الأول  مملكة أبيه، هاجر  الأخير إلى مصر وانشأ هناك السلالة الفرعونية التي توالت على حكم مصر .راجع - شروكين (سرجون الكبير) أول إمبراطور في التاريخ -  قرداغ مجيد كندلان.

  

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2218 الاحد 02/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم