صحيفة المثقف

سارق الفرحة / إيمان الدواخلي

أعترف ان منها بعض السنوات كانت ساذجة، لكن –وبشهادة الكثيرين- تغير الأمر كثيرا فيما بعد.

ذات يوم، استطعت الوصول إلى أحد الكتَّاب المعروفين، دعوني لا أعرِّفكم من هو، كي لا تصدموا، أعطيته رواية لي، أردت أن يقول لي رأيه، وطمعت أن يكتب لي تقديم، يكون ليّ تعزيزًا أمام الناشرين، الذين اعتادوا أن يخذلوني دوما برفض أعمالي.

لاقت روايتي نجاحاً لم أكن أحسب أن أجده يوما لنتاج قلمي. بالطبع فهمتم الأمر.. نعم.. لقد تغيَّر فيها فقط اسم الكاتب، فاستحقت النشر، و النجاح.

قررت بعد ذلك أن أوثِّق حقي في كل ما أكتبه؛ لكنني فوجئت بما يحتاجه ذلك من مصروفات، ورسوم، ليس لي طاقة بها؟

وإذاً أكتب، وأكتب، وأكتب... وأدفن كل ما أكتبه في حجرتي.

 

لي الآن ابنان، أحدهما تخرج في كلية عسكرية، وبدأ حياته العملية، والثاني في آخر أعوام دراسته. أعتقد أنني استطعت تأدية رسالتي كأب معهما تماما. خاصة، وقد استراحت أمهما من هموم الحياة منذ بضع سنوات. لم يبقَ ليّ الآن إلا العودة لأوراقي، محاولاً أن أنبش قبرها، وأن أعيدها للنور.

هذه المسابقات!.. هل هي عادلة حقا؟

لم يعد هناك كثير وقت للتساؤل.. يجب أن أجد ما يناسبني من شروط للمشاركة، قبل أن يفوت العمر، وينتهي.

هذه.. ما هذا التعسف؟! إن كنت أملك نشرها، فما حاجتي للاشتراك في مسابقتكم؟!

هذه أيضا تشترط النشر، وتضع حدا للسن أيضا!

هذه.. إنها شديدة التواضع، وتبدو كمسابقة للتلاميذ.

ها هي. تبدو ليّ جيدة.. ولا تشترط النشر، ولا السن. إذاً، فلتكن هذه.

 

عدت إلى أوراقي أختار منها. أردت ألاّ أضع أقوى ما كتبت.. أردت أن أحتفظ لنفسي بفرصة أخرى.

ووجدت ضالتي. أخذت  أٌقلب صفحاتها حتى أتممتها، قررت مراجعتها بمزيد من خبرة السنين، وفعلت.. وأرسلتها.

 

مرت شهور حتى يئست من ظهور النتيجة، ثم جاءتني رسالة.. لم أصدق. أنا مرشح لمركز متقدم في المسابقة!

إنه الأمل.. الأمل.. الأمل!

 

أخفيت الخبر حتى عن أبنائي، فلم يكونا ليهتما بالأدب قط.. وربما خفت أن يسخرا مني، وأنا أسعى وراء المسابقات، بعد أن ابيضَّ شعري. لكن إن اكتمل القمر، وحصلت على الجائزة، فعندها فقط سيحترمان أكوام الورق المخزنة بأدراجي، ويعرفون كم هي ثرية.

 

أيام أخرى تمر، وأنا أشعر بقلق لم أعشه حتى وقت صراخ زوجتي للمخاض. أغمض عيني، فأراني أحمل شهادة التقدير بفرح، يغلب فرحتي بأول وليد لي. أرى كتابي بعين خيالي مطبوعاً، وقد كُتب عليه "الفائز بجائزة......"

 

الهاتف يدق.. إنه صديقي. يقول لي إن رسالة جاءته تخبره بترشيحه لمركز متقدم بنفس المسابقة. لم أعرف أنه يكتب القصص من قبل!

- كيف يا بني؟

 

نعم أقول له "يا بني"، فإنه صديق في الثقافة، والأدب؛ لكنه يصغرني كثيرا.

ضحك وقال:

- إنها مفاجأة! لكن لو حدث، فسوف تكون صاحب الفضل فيها يا عمي الجميل.. ادعِ لي.

 

أدعو لك! وجمت، أحسست بفرحتي تسحب من صدري، ويحل محلها برودة رهيبة تخنق قلبي. سارعت بأخذ دواء القلب تحت لساني. ومرت الأيام التالية، وأنا لا أكف عن ابتلاع أقراص المهدئ، التي أعطانيها الطبيب، ليسيطر على ضغطي المرتفع.

 

دق الهاتف، وقبل أن أنطق، كان صوته يأتيني مجلجلا، مستبشرا:

- بارك ليّ يا عمي، لقد فزت!

كاد قلبي أن يتوقف.. أمسكت صدري بحركة تلقائية خشية القادم..

- متى ظهرت النتائج؟

- منذ ساعة مضت.. أنا بالمركز الأخير في الجوائز الكبرى الخمس.. هذا يكفيني، والحمد لله.

سألته بحذر:

- هل عرفت من سبقوك بالمراكز الأخرى؟

- لا أعرف أحداً منهم.. لا يهم من سبقني أنا سعيد يا عمي، لقد أكملت مهر عروسي؛ كان أبوها يهددني بفسخ الخطبة.

أشفقت عليه، وبدأت أحس بالفرح له؛ لكن سؤال هاجمني..

- لكنك يا بني لم تكتب القصص يوما، فكيف فعلتها؟

ضحك عاليا، وأجاب:

- ألم أقل لك إن الفضل لك إن فزت.. أتذكر تلك القصة التي كتبتها عني وخطيبتي؟ تلك التي أعطيتها لي، وقلت إنها هدية زواجي منك، لأن أغلى ما تملكه هو كلماتك؟

كدت أصرخ فيه "أيها اللص.. هذا تحايل.. تزوير.. سرقة لحقي.. لفرحتي.. كنت فقط أريد الفرحة، وليس المال الذي أنت به فرِح".

بالطبع لم أقل كلمة واحدة من ذلك. كان ألم القلب يهاجمني بشدة.. سكين يشق صدري بقسوة.. حاولت الوصول إلى الدواء، فلم أستطع، وأظلمت الدنيا.

 

أفقت.. فوجدتني بالمستشفى، ولداي بجانبي. فهمت من الحديث أن لي مدة ليست بالقصيرة في غيبوبتي. انتبهت، والطبيب يسألني عما حدث؟

أجبته:

- لقد سُرقت!

بابتسامة لا تحمل أي معنى قال:

- فداك!

نظرت له باستخفاف.. أي فداء يتكلم عنه؟!.. إنها فرحتي ما قد سُرق مني.. فرحة انتظرتها عمري بأكمله.

 

دخل صديقي الفائز من الباب، ومعه خطيبته. جاءا ليزوراني.. ربت على كتفي، وهو يقول:

- عمي! جئت أطمئن عليك.. لماذا لم تخبرني باشتراكك في تلك المسابقة؟

ابتسم ابتسامة واسعة، وهو يطلعني على ما ظنه البشرى:

- لقد حصلت أيها القاص على المركز السادس بها.

سخرت منه في نفسي، أيبشرني بكوني أول الخاسرين! فتحت فمي لأقول له.... لست أدري ما انتويت قوله حينئذ، لكنني لمحت خاتميهما وقد انتقلا إلى يديهما اليسريين..

فأغلقت عيني، وادعيت النوم.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2219   الاثنين  3/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم