صحيفة المثقف

إمبراطوريات الغزاة وإمبراطوريات الحضارات (3-3): فعل الغزاة ومنطق الحضارات / علي السعدي

موسعاً من حدود إمبراطوريته التي لم تكن توازيها قوة باستطاعتها الوقوف بوجهها، وسيحتاج الأمر إلى ألفي عام أخرى قبل أن تتمكن الشعوب المجاورة من بناء قوة أسقطت بابل في القرن السادس قبل الميلاد، لكن الفارق بقي قائماً، ففيما حمل الرافدينيون للشعوب المستعمرة منجزات حضارتهم بما فيها من  معتقدات دينية وتشريعات ونظم ومكتشفات وقيم جمالية، لم يحمل الغزاة لأرض الرافدين سوى القوة الغاشمة التي دمرّت حضارة مزدهرة تدين لها البشرية بالكثير .

لقد شهدت ارض الرافدين نوعين من الغزاة :

1-        قبائل تحمل طوطمها وتبحث عن وسائل عيش أفضل، وهؤلاء كانوا بمثابة مهاجرين  سرعان ما اندمجوا بالحضارة العراقية وأصبحوا من ثم جزءاً منها ومساهمين في صنعها،.

2-        غزاة فاتحين جاءوا من "حضارة " منافسة بجيوشهم وألقابهم الملكية وتيجانهم، بهدف إزاحة   الحضارة الرفدينية وتدميرها كي لاتبقى مصدر خطر ومنافسة، وكان أول غزو على هذا الشاكلة - والوحيد من بينها -  هو ماقام به الملك الفارسي قورش،أما الغازي الكبير الآخر "  الإسكندر المقدوني " الذي جاء بعد قورش بحوالي ثلاثة قرون،فقد بلغ إعجابه بحضارة بابل درجة جعلها عاصمة انطلق منها، ليلحق  هزيمة كبرى  بداريوس ملك الفرس، فكان بذلك أشبه بانتقام لبابل وماحلّ بها من خراب .

تعتبر هاتان الغزوتان،الأكبر من نوعها في العصور القديمة، أما ماتبقى من حروب كثيرة شهدتها أرض الرفدين، فيمكن وصفها – قياساً بحجم الغزوتين أعلاه  - بأنها من طبيعة " محلية " أججها التنازع على السلطة وانتصاراً للاختلاف الطوطمي – خاصة حينما يأتي ملوك ضعفاء يغلّبون التسميات الخاصّة على حساب " الأمة  "  بعمومها، وهكذا ففي الوقت الذي كانت فيه الجغرافيا العراقية تنشدّ نحو وحدتها لتحفظ  قوتها، كان ملوكها يبحثون عن الإختلاف والفرقة، ما أدى إلى ضعفهم وسقوط دولتهم  بيد غزو خارجي  .

 كان ذلك المؤشر الأول للفوارق مابين إمبراطوريات الحضارات  وإمبراطوريات الغزاة، بين نقل المدنية بالإحتلال،وبين تدمير المدنية بالاحتلال كذلك، لتقوم تبعاً لذلك معادلات من نوع :

1-  حضارات متكافئة – تأثير متبادل وتفاعل ثقافي

1-                         حضارات متفاوتة  - تأثير سلبي  وتنافر اجتماعي .

لقد غزا الرومان بلداناً مختلفة، فأخذوا من الشرقي ديانته وأساطيره، ومن اليوناني فلسفته وفنه، ودمجوا مارأوه وعرفوه عند غيرهم، بما صنعوه واكتشفوه بأنفسهم،فإخذوا الديمقراطية من مدينة مهزومة " أثينا " وأعادوا صياغتها لتناسب أمبراطورية مترامية (روما )، وسنّوا قوانين على شاكلتهم، لكن الملاحظ في كلّ ذلك أن أسبقية ماوضعته وأسسته الحضارة الرافدينية – وهو الأس والأصل – بقي مجهولاً أو متجاهلاً – وكان من الأفضل لكثيرين أن يبقى كذلك، إذ إن الكشف عنه يظهر إن معظم ما وضعته الحضارة الغربية من نظريات، وماجاءت به الديانات الكبرى من أسفار ومقولات، كانت جذوره تمتدّ إلى الحضارات الرافدينية .

 على ذلك، ماذا لو اكتشف  معجبو جان جاك روسو مثلاً، إن دولة الرفاه والعقد الإجتماعي، قد سبقه إليها آخرون ؟ وإن " ديالكتيك "هيغل ليس جديداً ؟وهل  تبقى  فلسفة سارتر (6)  الوجودية ونظرياته عن معنى الحرية وماهيتها، على  ماهي عليه من الشهرة والشيوع، لو أنتشر بالمقابل إنهما من المفاهيم التي عرفها   العراقيون القدامى، فنادوا بالأولى وضحوا في سبيل الثانية  ؟ ثم كيف سيتباهى البريطانيون حينما يقرأون إن المائدة المستديرة التي نسبوها إلى ملكهم الأسطوري " آرثر "  كانت تمارس واقعاً من قبل " جلجامش " ؟ بل ماذا سيقول علماء الإجتماع  لو أدركوا  أن " بيوض "  ذلك العلم كانت قد تجلت في تحليلات وحكايات مبدعي الرافدين،التي قرأتْ بدقة واقع عصرهم ؟ وفوق ذلك ماذا سيحصل إذا كُشف عن الحقيقة فيما جاء به بنو إسرائيل باعتبار أنهم أصحاب الفضل على البشرية في منحها أول دياناتها وأول من كتب تاريخها الروحي وصاغوا معتقداتها ووصايا الربّ ؟  ماذا سيقولون عن " شعب الله المختار" إذا عرف العالم أنها مدونة قبلهم بأكثر من ألف وخمسمائة عام كأسطورة ذكرت الأكاديين بالإسم (7) ؟

لكن وعلى رغم ذلك، لم ينظر بعض علماء الغرب ومنقبيهم من نافذة تلك الإعتبارات،لذا كان لجهودهم الفضل الأكبر والأول في الكشف عن تلك الحضارة الدارسة لوادي الرافدين، فنبشوها من تحت الرمال وترجموا جزء اً مهمّاً  من ألواحها التي بلغت عشرات الآلاف من المدونات على الرقم الطينية التي تناولت الحياة في جوانبها ومستوياتها ومآسيها ومباهجها،فقطعوا بالقول أنها الحضارة الأولى من نوعها دون منازع،وهي المعلمّ الأول لما جاء بعدها أو زامنها (8) ولولا أولئك العلماء وسعيهم الحثيث نحو الحقيقة، لبقي تاريخ الحضارة مثلوماً في أهمّ فصوله، الجدير ذكره، إن التوراة هي من أثار إهتمام العلماء للبحث عن بابل، نظراً لما تكرر عن تلك المدينة من أسفار اللعنة والنقمة جراء سبيها لليهود (9) .

خلاصات :

1: مايميز الإمبر اطورية عن غيرها من الدول، إن جميع الإمبراطويات ذات نزعة توسعية " كونية " أي انها تجاوزت أحتلال ماحولها من بلدان إلى تلك البعيدة عنها، وقد لجأت جميعها إلى القوّة العسكرية أساساً وإن رافقها مظاهر أخرى – دينية أو ثقافية أو ماشابه -

2: لم تتعايش بسلام أو تتعاون أي إمبراطوريتين متزامنتين أو متقاربتين، إذ طالما غلب الصراع والتصادم على علاقتهما،  وإن تخللتها فترات هدنة أو هدوء مؤقت، وسوف تمضي أزمنة طويلة قبل أن تصل الدول الكبرى ( الإمبراطوريات الجديدة ) إلى إتفاقات ومعاهدات وتفاهمات للحدّ من خطر الحرب الكونية، وقد يعود ذلك إلى امتلاك بعضها أسلحة دمار شامل وبالتالي الوصول إلى نوع من " توازن رعب "  مرده التهديد بالدمار المتبادل وتراجع إحتمالات تحقيق الإنتصارالحاسم ،لذا تحولت الحروب الى أشكال أخرى كالإقتصادية والثقافية والسياسية والإعلامية وسواها  .

3: لقد تفاعلت الإمبراطوريات مع الشعوب المحتلة كما تصادمت، فقد تبنى الأكديون جلّ معتقدات السومريين وتشريعاتهم وطريقتهم في الكتابة وسواها، فيما جلب الفرس مقدسهم الزرادشتي الذي سيجد طريقه إلى الأديان السماوية اللاحقة،فيما تنبت روما، الديانة المسيحية التي نشأت في إحدى مستعمراتها " فلسطين " وذلك بعد إضطهاد دموي لمعتنقيها، أما خلفاء المسلمين – خاصة في العصر الأموي وماتلاه – فقد أخذوا الكثير من عادات الملوك والأباطرة الفرس والروم رغم انهيار إمبراطوريتيهما، وحين اسقط المغول دولة الخلافة،إعتنقوا بعدها الإسلام ليبنوا من خلاله إمبراطورية إسلامية كبيرة في الهند، أما العثمانيون،فقد كان اعتناقهم للإسلام مصدر قوة ساعدت على فتوحاتهم الإمبراطورية، وقد أطلقوا على خلافتهم :" بيضة الإسلام " – البيضة مايضعه الفارس وقاية لرأسه - .

4: تراوحت  ألقاب الحكّام بين  الرأس والأمير والملك ( بصفاته المختلفة – شاه أو فرعون ) والإمبراطور والخليفة والسلطان – والأخيرين كانا من نصيب الحكام المسلمين حصراً)  ورغم اختلاف التسميات ومصادرها، إلا أنها تتجمع في الجوهر ذاته ( القوّة والسيطرة ) .

5: جميع الإمبراطوريات اتخذت رموزاً (طوطمية ) مستمدة من صيغتها الأولى،  فكانت أما عرقية أو معتقدية أو مكانية أو حضارية، أو تجسيدها بصورة حيوان قوي كالأسد أو الثور أو الحصان، أو طيور جارحة كالنسر والصقر و العقاب غيرها، لكن ( الطوطم )  انتقل من بيان مخيالي، إلى برهان عملي، ومن غذاء روحي، إلى مفهوم عقلي، بعد أن تلاقحت الثقافات وتبادلت معارفها وعلومها وفلسفاتها  وأساطيرها ومعتقداتها .  

 6: جميع الإمبراطوريات شهدت صعوداً وإزدهاراً، ثم نكوصاً وانحداراً، لكن الملاحظ إن أية إمبراطوريات تهاوت، لم تسطع أبداً إعادة مجدها كإمبراطورية، لكن الكثير من الشعوب  وجدت وسائل للنهوض وبناء دول قوية ومتطورة، الإ تلك التي عادت إلى طوطمها البدائي لتستيعض به عماّ فقدته، كما هو حال   العراق .

" الخصال " المتشابهة في أشهرالإمبراطوريات عموماً،لايمنع في القول إن لكلّ منها سمة خاصّة كانت بمثابة البصمة التي طبعت مسارها او إطار اللوحة الذي يؤطرالملامح العامّة لكلّ من تلك الإمبراطوريات، وهو مايمكن إيراده بما يلي :

1: الأكدية :البناة .

2:الآشورية : القساة

3: الفارسية : الجناة

4: الإغريقية : الرواة

5: الرومانية :العتاة

6: : العربية : الرعاة

7: المغولية : الرماة

8: العثمانية :الدواة 

  ومرد ذلك إلى أن الأكديين كانوا أول من بنى إمبراطورية حضارية، فيما اشتهر الآشوريين بقسوتهم ضد أعدائهم، أما الفرس فقد جنوا على الحضارة بتحطيم أهمّ مدنها وعواصمها (بابل ) .

الأغريق تركوا إرثاً كبيراً مما رووه عن أعمالهم، فيما اشتهر أباطرة الرومان بالعتو والجبروت – وكان لقب إمبراطور قد ظهر لأول مرّة عند الرومان بعد مصرع يوليوس قيصر- .

العرب دخلوا التاريخ ( الإمبراطوري ) كحاملي رسالة سماوية كانوا رعاتها وحماتها في الوقت عينه، أما المغول، فقد اشتهر عنهم المهارة في رمي القوس والنشاب، وربما يعود ذلك في بعض أسبابه إلى صغر حجم أجسامهم نسبة إلى غيرهم، ما يجعلهم يميلون الى إصابة خصمهم عن مسافة بدل الاحتكاك به، فيما إمتلأ بلاط سلاطين بني عثمان بالرسامين والخطاطين والنساخين من كلّ صنف، لتسجيل أعمال أولئك السلاطين  وتقديمهم بأفضل ماكانوا عليه .

 

.............................

 (6) لايعني ذلك ان أولئك الفلاسفة والمفكرين قد (انتحلوا) ماجاءوا به، فهم قرأوا مشكلات عصرهم ووضعوا فلسفاتهم على ضوئها، لكن ريادتهم ربما فقدت بعض وهجها إذا إنتشرت حقيقة  إن أفكارهم ليست جديدة بحدّ ذاتها وان كانت متطورة عن سابقها تبعا لتطور الحضارة .

(7) راجع – حزام النار – يهود العراق من الإزدهار الى الإندثار (من هم شعب الله المختار) ص315- للكاتب .

(8)  ترافق توحيد بلاد الرافدين واتخاذها من ثم الشكل الإمبراطوري، تطور المعتقدات المقدسة وتغيير مهمة وشكل آلهتها التي توحدت تحت أمرة إله واحد  " مردوك " كما إنهم جمعوا بين العقل البرهاني والمخيال (الإيماني )، فتقدموا بالعقل في مجال العلوم ورفدوا نتائج ملاحظاتهم بمنتوج خيالهم، وقد أدى هذا المزج إلى علم الفلك ووضع التقويم  والمعادلات الحسابية وتقسيم الدائرة – الخ، إضافة الى ما أنتجه المخيال من جماليات .

(9) - (بابل الزانية، إقتلوا رجالها ونساءها، واسحقوا رؤوس أطفالها على الحجارة، وليصبّ الملاك السابع كأس نقمته على بابل) – من نشيد إرميا .

 

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2220 الثلاثاء 04/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم