صحيفة المثقف

عدنان الصائغ في ديوانه الأخير "و .." .. سيزيف آخر صخرته الوطن / احمد فاضل

الحروب / الطيوب / الخطوط / الحظوظ / اللقا ... / والفراق / وقسم فيها: / السواد / العباد / البلاد / البلايا / الوصايا / الحواس / الجناس / الطباق / اعتصرت روحه غصة / فكان .... / العراق / . (1)

و ... كان لابد لنا ونحن نقلب ديوان الشاعر العراقي المغترب عدنان الصائغ ( و.. ) الصادر مؤخرا عن دار نشر رياض الريس في بيروت، أن نضع أول كلامنا مفتتح ديوانه هذه القصيدة التي يريد الصائغ من خلالها أن يقول لنا أن كل ما قاله من شعر يعني العراق، وكل هذا النثر الذي توارى خلف ضباب لندن فضحته آهات البعاد، ليقول كما قالها محمود درويش :

اتذكر السياب يصرخ في الخليج سدا / عراق .. عراق .. ليس سوى العراق / ولا يرد سوى الصدى / اتذكر السياب في هذا الفضاء السومري/ تغلبت أنثى على عقم السديم / واورثتنا الأرض والمنفى معا /، و.. الصائغ حينما يحمل أسفاره متنقلا بلاد الغربة، من برد مالمو في السويد الى ضباب الإنكليز، ثم الى باريس، ثم لا يلبث أن يرحل الى مصر، في مالمو كثيرا ما جلس وحيدا إلا من كأس وقلب يعتصره التغرب قال :

في الحانة : / كانت بغداد / خيوط دخان / تتصاعد / من أنفاس الجلاس / واصابع عازفة، سكرى، تتراقص بين الوتر المهموس / وبين الكاس / وإلى طاولتي يجلس قلبي / ملتحفا غصته / يرنو ولها للخصر المياس / ووراء زجاج الحانة أشباح تترصدني، / تحصي حولي الأنفاس / وانا محتار / - يا ربي - / أين أدير القلب ؟ / وأين أدير الراس ؟ (2)، تجربة الصائغ غنية بعد ان رأينا تغربه في البلدان وقرأنا تأثيرها على مشغله الشعري، وللغربة حدود كما وصفها الشاعر شوقي عبد الأمير حينما قال عنها : الغربة تصهر الشاعرويمكن أن يذوب، ويخسر نفسه في أشكال مشوهة لكن عليه أن يعيد صياغة ذاته بأشكال عظيمة، عبد الأمير أكمل حديثه وهو يجيب سائله عن الغربة وتأصيل العراقي في الشعر قال : الشعر هو غربة الكائن مع العالم، ومع المألوف، والموت الذي يتصيده وعندما يغترب الشاعر يصير ارتطاما بين غربة الذات والكون (3)، تلك الغربة لم تجعل من لغة الصائغ الشعرية لغة هامدة عفا عليها الزمن كما بانت على شعراء غيره، في رثاءه الفنانة التشكيلية العراقية غادة حبيب التي اغتيلت في دار غربتها لندن عام 2010 نحس ونلمس تلك اللغة المتجددة مع انها كانت تدور في فلك أسود هو الحزن على فراق الأحبة يقول :

مرة، في القصيدة / لو شئت لي، وطنا ... / كان يكفي لكي نتلاقى / مرة .. / كنت في لوحة المستحيل / تسيرين جنبي / فأزداد منك التصاقا / مرة، في المواويل / او في العويل / مرة، في الصباح القتيل / مرة، في الرصاص الذي أورث الدم / جيلا فجيل /، إلى ان يقول : مرة .. / مرة .. / ربما نلتقي صدفة / - آه .. يا غربتي، / آه .. يا وطني - / فنذوب / عناقا / (4)، أنا هنا لن اتحدث عن التكنيك الشعري لدى الصائغ من حيث طلاوته وطراوته وتكثيفه وانزياحاته مع أنها جميعها موجودة فيه، لكن الذي لفت نظري واسترعى الإنتباه هو هذا الكم الهائل من المعاناة التي حفلت بها قصائد الديوان، وكانها صخرة سيزيف حملها الشاعر مثقلة بالآلام :

موجة، / أو كتاب / قلبتني الحياة، / وقلبتها : / غصصا .... / ورغاب / اخذتني المدينة، لندن .... / مالي / أمر على جسرها / فأرى نهر دجلة، / مختضبا / والنخيلات، مثقلة بالغياب / ولا قمر .... / (5)، السماء رمادية، هنا / وروحي خضراء / اشعلها الوهم، والمبتغى / وتلك البلاد البعيدة سخمها المدفعيون / السواد الذي كان خصبا / صار سوادا وجدبا / وما ظل من إرثنا في البلاد / سوى إرثنا في الحداد / (6)، البرابرة : الآن جاؤوا / سلبوا البيت أشياءه / الروح احلامها / .... ها أنا أتلفت / لم يبق لي غير تخت قديم، بوسط الحديقة / وبعض سطور مسردة / .... الحديقة هم حرثوها بأسنانهم / وقد تركوا في العراء معاولهم / (7)، الصائغ وهو يتلو القصيدة بعد الأخرى في ( و.. ) وهو الحرف الوحيد لعنونة ديوانه الذي قد يرمز ايضا الى " و..طني " وهو ما أرجح أن يكون بدليل قصائده، لكنه هنا أمسك بالواو حتى لا يتلاشى كليا عنه، فتتسامق الأبيات فيما بينها حتى لتحاول هدم جدار الغربة لتنطلق بعيدا الى معناها، هذا ما وجدناه في كولاجه الشعري الأول " صعاليك حسن عجمي أيضا " الذي ياخذنا الى محور سردي شعري، ومع أنهما جنسان مختلفان فالشعر يعتمد الوزن والايقاع، بينما في السرد يتحرر منهما ليعيش الجو القصي الذي تعتمده التفاصيل كما لوكنا نقرأ قصة قصيرة جدا، لكنهما يشكلان تجربة جميلة حيث يقول :

يمضي الغروب سريعا، في القطار العابر إلى ستوكهولم ... وأنا ما زلت أطقطق أصابعي وأيامي، في انتظار من تجلس جنبي، لتفتح حقيبتها وتريني صورة جان دمو، مضطجعا على الساحل الأسترالي، يقرأ " ليس لدى الكولونيل من يكاتبه " ...بينما مفتش الحدود يحدق في وجهي ليرى تقاسيم " النفط مقابل الغذاء "، / و" الأرض مقابل السلام " .. / أو " كل شيئ من أجل المعركة " .. / و" يا ليل، يا عين " . (8)

من دبلن العاصمة الأكثر اكتظاظا بالناس في أيرلندا ينصب الصائغ لوحته ليرسم شعرا في قصيدة سماها " تشكيل " يقول في قسمها الأول :

ما دام في جيبي ورق / وحبر / وأرصفة / .... / بين الظلمة / والضوء / بقعي ظلي / ويموء / صريررُرُرُ / باااااااب / ولا من جواب / هكذا / سوف يمضي بنا الاغتراب / الثياب، / التي في الخزانة / جسد / يتحاسد / في / جسد / والمرايا / تلوك .... / خيوط الخيانة / عشاق كثيرون / يدورون / في حلقتك / حلقتك الفارغة، إلا مني / (9)، القصيدة تشكلت من روح قلقة يمضي بها الاغتراب فلا تجد سوى أرصفة، ظلمة، وبقع هي ظله هناك، القصيدة طويلة أخذت من حصة الديوان الصادر بأكثر من 123 صفحة، 32 صفحة توزعت على 9 أقسام وهي تجربة فريدة تستحق وحدها أن يتوقف النقد أمامها لما تحويه من صور باذخة المعنى وزع الشاعر أبياتها بصورة مبعثرة وكأنه يقول لنا انظروا كم هي الغربة كذلك !

الديوان احتوى على خلاف القصائد الطويلة قصائد قصار في تجربة شعرية أخرى عميقة اعتمد فيها تكثيف الصورة البلاغية للقصيدة أو ما يطلق عليها بقصيدة الومضة وهي ذات مجموعة من التوقيعات النفسية المؤتلفة في صورة كلية واحدة، وهو أمر يعني أن للصورة أهمية استثنائية في قصيدة التوقيعة كما تقول عنها الشاعرة والناقدة السورية سمر الديوب والتي تمضي في حديثها عنها قائلة : ( ويتطلب هذا اللون من الشعر المأزوم ذي اللحظة الانفعالية المحددة فطنة، وذكاء من الشاعر، ونباهة من المتلقي، لأن قصيدة التوقيعة تبنى بناءا توقيعيا، أي بناء صورة كلية للقصيدة من خلال صورة واحدة تقدم فكرة وانطباعا بتكثيف شديد )، نمر على تجربة الصائغ هذه في مجموعة منها كما في قصيدة " شكر " :

شكرا لهم .... / إنهم يستنسخونني / بتأويلاتهم .. / واشاعاتهم / وشتائمهم / لهذا تكاثرت نصوصي، / بين الناس / ومن قصيدة " سطور " نقرأ :

أتمشى ... / في حدائق لكسمبورغ / العشب / صفحة مفتوحة على المعنى / حيث الأزهار، سطور / والفراشات، / كلمات هائمة /، هذه القصائد القصيرة لايعجز الصائغ من ترديدها فهي تأخذ مساحة واسعة من الديوان، ففي قصيدة " اهرامات " يأخذنا الشاعر سياحة الى أرض غائرة في القدم ليكتب عنها وصفا غير الذي يخطر في بالنا ونحن نجول تاريخها يقول :

منذ قرون، وذقني على الطاولة / يرتجف أمام رفوف التاريخ / وأنا أرى كل هذه الأعناق المصلوبة/ على متنه / وهوامشه / وهذه الدماء المترقرقة، / بينهما ... / أمن أجل أن يعلي الطغاة أمجادهم / شيدوا كل هذه الصروح / لنتفرج عليها - نحن السياح - / غير مبالين بالصرخات المكتومة تحتها . (10)

ومن قصائده القصار ياخذنا الصائغ الى ما سماها " نصوصا مشاكسة قليلا "، وانا أسميها " نصوصا جريئة جدا " لأنها تحمل في طياتها عناوين لقصائد راحت تبحث في " التابو " وهو المصطلح الأكثر تناولا وتداولا في الأدب الحديث ومنه الشعر، و" taboo " هو كل شيئ محرم، محظور، بما فيه الدين، الجنس، والسياسة، من هنا يأخذنا الشاعر الى مأساة الحلاج التي شكلت منعطفا لدراسات عديدة اتصف بعضها بالجرأة وبعضها الآخر جر على كاتبها الويل والثبور، يقول الصائغ في قصيدته " الحلاج ثانية " :

آيات / نسخت / آيات / وتريد لرأسك أن يبقى / جلمودا / لا يتغير والسنوات / (11)، وبهذه الأبيات نقول وداعا لديوان عدنان الصائغ " و.. " الذي لن تنتهي القراءات منه فهو خلاصة سنين طويلة امتدت لأكثر من ستة عشر عاما اغتراب أصدر خلالها العديد من الدواوين الشعرية والقصائد ترجمت الى لغات أجنبية عديدة وحاز على جوائز كبيرة كجائزة مهرجان الشعر العالمي في روتردام، وهو يقيم الآن في لندن بعد تنقله في العديد من الدول والمنازل .

 

أحمد فاضل

 

....................

حاشية

1 - قصيدة " العراق " صفحة 2 من الديوان

2- قصيدة " كأس " صفحة 4

3- شوقي عبد الأمير يعود الى منزله الأول / مقالة للكاتب قحطان جواد جاسم / مجلة الأسبوعية .

4- من قصيدة " غربة " 1 صفحة 7

5- من قصيدة " غربة " 2 صفحة 22

6- من قصيدة " غربة " 3 صفحة 32

7- من قصيدة " الى كافافيس ونفسي " صفحة 35

8- من قصيدة " صعاليك حسن عجمي ايضا " صفحة 36

9- من قصيدة " تشكيل " صفحة 43

10- القصائد القصيرة احتلت الصفحات من 58 الى 81

11- من قصيدة " الحلاج ثانية " صفحة 102

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2223 الأحد 23/ 09 / 2012)


في المثقف اليوم

في نصوص اليوم