صحيفة المثقف

ثياب الإمبراطور / ناطق فرج

ولِد هانس كرستيان أندرسون في الثاني مِنْ شهرِ نيسان / أبريل عام 1805 في الدنمارك لأبٍ فقير كان خياطاً للأحذية فلمْ يكن مِنْ اليسيرِ على هانس أنْ يتلقى تعليمه في المدارسِ النظامية. توفي والده وهو في العاشرةِ مِنْ عمره. وفي عام 1822 دخلَ المدرسة اللاتينية في سلاغيلس. توفي هانس أندرسون في كوبنهاغن في الرابعِ من آب / اغسطس عام 1875 عن عمرٍ يناهز السبعين عاماً.

 

كان في سالفِ العصرِ والزمان هناك امبراطوراً مولعاً بارتداء الملابس الجديدة وقد أنفقَ الكثير مِنْ أمواله لإقتنائها. كان طموحه الوحيد هو أنْ يظهرَ بالمظهرِ اللائقِ والأنيق. لمْ يعتنِ الإمبراطور بجنودهِ ولمْ يُلههِ المسرح قط. الشيء الوحيد الذي استحوذ على عقلهِ هو أنْ يظهرَ مزهواً بثيابهِ الجديدة. وكان مِنْ عادتهِ أنْ يرتدي مِعطفاً في كل ساعة. فما يُقال عن الملكِ أنه "يجلس في خزانة الملابس" يُقال عن الإمبراطور أنه يسكن في "غرفةِ تغييرِ الملابس".

في المدينةِ العظيمةِ التي عاش فيها الإمبراطور كانَ الناسُ سعداء، وكان في كل يومٍ يأمّها غرباء مِنْ كلِّ أرجاءِ المعمورة. وفي أحدِ الايام، دخلَ محتالان المدينة وقد عرّفا عن نفسيهما أنهما حائكان وقالا أنهما يعرفان كيف ينسُجان ويخيطان أجمل ما يمكن أنْ يتخيّله المرء مِنْ ثياب. ألوانها وتصاميمها، قال المحتالان، ليست رائعة الجمال فحسب، إنما هي مصنوعةٌ من نسيجٍ فاخر يتوارى عن ناظرِ كل مَنْ هو ليس كفء لمنصبه أو مَنْ لا يُعذر لشدّة غبائه.

"لا بدّ وأنّها ملابس رائعة"، قال الإمبراطور في سرّه. إذا ارتديتها فبإمكاني أنْ أتبيّنَ أي رجال مملكتي غير كفء لمنصبه. ويمكنني أنْ اميّز بين الحكيم منهم والغبي! أجل، لا بدّ مِنْ أنْ يُنسج لي هذا الثوب في الحال. فأعطى المحتالين أموالاً طائلة ليبدءا بعملهما دون إضاعة دقيقة واحدة.

وضع المحتالان نولا حياكة وبدءا يتحرّكان وكأنهما ينسجان، رغم أنهما لمْ يضعا شيئاً على النولين قط. وقد طلبا مِنْ الإمبراطور أفخر أنواع الحرير وأغلى أنواع الذهب، حيثُ ذهب كل ذلك في جيبيهما، في الوقتِ الذي عملا على نولين فارغين حتى منتصف الليل.

قال الإمبراطور في سرّه: "أودُّ كثيراً معرفة مقدار ما أنجزاه مِنْ الثياب"، غير أنّه أحسّ بعدم الإرتياح حين تذكّر أنّه هو مَنْ ليس كفء لمنصبه ولا يستطيع أنْ يرى الثوب. ففكّر في أنْ يرسلَ للحائكين وزيره المخلص العجوز.  فهو أفضل مَنْ يحكم على الثيابِ، لأنه ذكي ولا يفهم طبيعة عمله أحد أفضل منه.

ذهبَ الوزيرُ الطيّب العجوز إلى الغرفةِ التي يعملُ فيها المحتالان على نولين فارغين. يا إلهي! قال الوزيرُ في سرّه فاتحاً عينيه مِن الدهشةِ: إني لا أرى شيئاً! غير أنه لمْ يقل ذلك. وفي هذه الأثناء طلبَ المحتالان مِنْ الوزيرِ أنْ يقتربَ مِنْ النولين وسألاه إنْ لمْ يكن النسيج جميلاً وذو ألوان زاهية وهما يُشيران إلى النولين الفارغين. فتقدّم الوزير المسكين منهما فاركاً عينيه، إلا أنه لمْ يرَ شيئاً، لأنه لمْ يكن هناك شيء أصلاً. يا إلهي! قال في سرّه، هل يُعقل أنْ أكونَ غبياً لهذا الحد؟ لمْ ينبغِ أبداً أنْ افكّر هكذا. كما لا ينبغي لأحد أنْ يعرفَ ذلك. يمكن أنْ أكونَ غير كفء لمنصبي؟ ولكن لا يمكنني القول أني لست قادراً على رؤية الثوب.

والآن، أليسَ لديكَ ما تقوله؟ سأله أحد الحائكين وهو يحاولُ أنْ يظهرَ منهمكاً في عملِهِ. آه، إنها جميلة، بل وأجملُ مِن الجمال. أجابه الوزير العجوز، وهو ينظرُ مِنْ خلالِ نظّاراته الطبيّة. يا له من تصميم! يا لها مِنْ ألوان! نعم، سأقول للإمبراطور أنّي أحببتُ الثياب جداً. يُسعدنا أنْ نسمعَ هذا، قال الحائكان، ووصفا له الألوان وأوضحا له التصميم الغريب. أصغى لهما الوزير العجوز بإنتباه لأنه قد يُطلع الإمبراطور على ما قاله الحائكان.. وهذا هو ما فعله.

حينذاك طلبَ المحتالان المزيد مِنْ المالِ والحرير والذهب لينجزا حياكة ثياب الإمبراطور، إلا أنهما وضعا كلَّ ذلك في جيبيهما في الوقتِ الذي لا أثرَ فيه لخيطٍ على النولين. وقد استمرّا في العمل، كما فعلا مِنْ قبل، على نولين فارغين.

وسرعان ما أرسلَ الإمبراطور مسؤولاً آخراً يحظى بثقتهِ ليرى كيف تسيرُ عملية الحياكة وما إذا كانت الثياب ستجهزُ في القريبِ العاجل. وقد حدثَ له نفس ما حدثَ للوزيرِ العجوز. فأخذَ ينظرُ وينظرُ ولكنه لمَ يرَ شيئاً، لأنه لا وجودَ لشيء أصلاً. أليست هي قطعةُ قماش جميلة؟ سألَ المحتالان وهما يشيران ويصفان الثياب التي لا وجود لها. لست غبياً! قال الرجل في سرّهِ. إذن هو منصبي الذي لستُ أهلاً له. الأمر غريب حقاً! ولكن لا أحدَ ينبغي أنْ يلاحظ ذلك. ومع ذلك فإنه أثنى على الثيابِ التي لمْ يرها وعبّر لهما عن سعادته بألوانها الزاهية وتصميمها الفاخر. نعم، إنها ثياب جميلة للغاية، قالها الرجل للحائكين.

وبعدَ أنْ تحدّثَ جميعُ الناسِ في المدينةِ عن هذه الثياب الرائعة، تمنى الإمبراطور أنْ يراها بنفسهِ وهي ما تزال على النول. فذهبَ مع عددٍ مِنْ حاشيتهِ، بضمنِهم الوزيرين اللذين زارا المكان مِنْ قبل، إلى المحتالين الماكرين اللذين كانا يحوكان بكل ما أُوتيا مِنْ قوة، ولكن بدون خيط أو قماش. أليست الثياب رائعة! قال الوزيران اللذان زارا المكان مِنْ قبل. لا بدّ لصاحب الجلالة مِنْ أنْ يُعجب بالقماش والالوان! ثم أشارا إلى النولين الفارغين، لأنهما ظنّا أنَّ الآخرين يرون تلك الثياب.

ما هذا! فكّرَ الإمبراطور في سرّهِ وتساءل: أنا لا أرى شيئاً! إنّه لأمرٌ فظيع حقاً! هل أنا غبي؟ هل أنا لا أصلح أنْ أكونَ إمبراطوراً؟ هذا أفظع ما يمكن أنْ يحدثَ لي. أحقاً ما أرى! استدارَ نحو الحائكين وقال: لقد نالت الثياب استحساني. ثمَّ أومأ إليهما بسعادةٍ وتفحّص النولين الفارغين ولمْ يقل إنّه لمْ يرَ شيئاً.

نظرَ جميعُ مَنْ جاءَ مع الإمبراطور ومَنْ كان معه بتمعّنٍ، غيرَ أنّهم لمْ يروا أكثر ممّا رآه الآخرون، إلا أنهم قالوا ما قاله الإمبراطور: آه، إنّها ثيابٌ جميلة. ونصحهُ الجميع في أنْ يرتدي هذه الثياب الجديدة والرائعة في الموكبِ العظيم. رائع! جميل! أنيق! هكذا بدأ يصرخُ الناس. وبدت على الجميعِ البهجة. فخلعَ الإمبراطور على المحتالين لقبَ حائكا البلاط الإمبراطوري.

سهرَ المحتالان، طوال الليل قبلَ أنْ ينبلجَ صباحُ اليومِ الذي يخرجُ فيهِ الموكبَ، وهما يعملان على ضوء سِتَّ عشرة شمعة. وقد رأى الناسُ بأعينِهم كيف كانا منهمكين في تجهيزِ ثياب الإمبراطور. وقد تظاهر الحائكان في تقطيعها في الهواء بمقصٍّ كبير جداً وخياطتها بإبرٍ بدون خيط وفي النهاية قالا: الآن إنتهى العمل بـ ثياب الإمبراطور.

حضرَ الإمبراطور إلى القاعةِ برفقة جميع رجالات الدولة، فرفعَ المحتالان ذراعيهما كما لو كانا يُمسكان بشيءٍ وقالا: انظروا! هذا هو السِّروال! هذا هو المعطف! هذه هي العباءة! ثيابٌ خفيفةٌ كبيتِ العنكبوت حتى يظنُّ المرء أنّه لا يرتدي شيئاً، وهنا تكمن سرّ جماليتها!

بكل تأكيد! قالَ جميعُ حاشية الإمبراطور، غير أنّهم لمْ يروا شيئاً لأنه ليس هناك ما يُرى! هل سَيسعد جلالة الإمبراطور بتغييرِ ثيابهِ الآن، قالَ المحتالان. لنساعد جلالتك في ارتداء الثياب، هنا أمام المرآة. فخلعَ الإمبراطور جميع ملابسه ووقف المحتالان أمامه كما لو أنهما يُلبسانه الثياب الجديدة قطعة إثر قطعة، حين كان الامبرطور ينظر إلى نفسهِ مِنْ كلِّ زاوية.

يا لها مِنْ ثيابٍ جميلة! انظروا كيفَ تناسبه! قالَ الجميع. يا له مِنْ تصميمٍ جميل! يا لها مِنْ ألوانٍ زاهية! هذه ثيابٌ رائعة! وفي هذه الأثناء، أعلنَ الحاجبُ أنَّ حاملي المظلّة جاهزون وأنَّ الموكب بإنتظار جلالة الإمبراطور.

أنا جاهزٌ الآن، قال الإمبراطور. ألا ترون أنَّ هذه الثياب تناسبني بشكلٍ رائع؟ ثمَّ استدارَ ثانية نحو المرآة كيما يظنُّ الناسَ أنّه اُعجبَ بثيابِهِ.

بسطَ حُجّاب الإمبراطور، الذين كانت مهمتهم حمل ذيل الثوب، أيديهم إلى الأرضِ وتظاهروا كما لو أنهم كانوا يحملونه، لئلا يعرف الناس أنهم لا يرون شيئاً. ثمّ سارَ الإمبراطور في موكبٍ مهيب تحت مظلّة رائعة، وصرخ كل مَنْ رآه في الشارعِ أو مِن نوافذ الأبنية: حقاً! لا مثيل لثيابِ الإمبراطور الجديدة! يا لهذه الثياب من ذيلٍ طويل! أنظروا كيف تناسبه هذه الثياب!

لمْ تحظَ أبداً ثياب إمبراطورٍ بهذا الإعجاب مِن قبل. وكان كل واحد مِن الناسِ يخشى أنْ يظنَّ الآخرون أنّه لمْ يرَ شيئاً، لأنهم سيعتقدون أنه ليس أهلاً لمنصبه أو أنه غبي جداً.

ولكنه عارٍ تماماً! قالها طفلٌ صغيرٌ في النهايةِ. يا إلهي! اصغوا إلى هذا الطفل البريء! قال أباه. فهمسَ الناسُ بعضهم إلى البعض الآخر ما قاله الطفل. ولكنه لا يرتدي شيئاً! صرخَ جميعُ الناس في النهايةِ. فصُعِقَ الإمبراطور، لأنه بدا له وكأن الناس على حق، ولكنه قال في سرّه: لابدّ لي مِن أنْ أتحمّل ذلك حتى النهاية. سار الحُجّاب إلى جانبه بكبرياء أكثر مِن ذي قبل وكأنهم يحملون ذيل ثوب لا يُرى!.

 

تابع موضوعك على الفيس بوك  وفي   تويتر المثقف

 

العودة الى الصفحة الأولى

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها: (العدد :2230   الاحد  30/ 09 / 2012)

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم